نواصل تتمة الجزء المكمل إلى الجزء الأول، الذي أشرنا فيه إلى النوعين المسرحيين في المسرح السياسي، وهما: المسرح التحريضي، والمسرح الملحمي. في هذا الجزء نقصر المقال على النوعين المتبقيين وهما:

النوع الثالث: المسرح التسجيلي أو الوثائقي. ونجد أنسب تعريف له لدى صاحب كتاب (معجم المصطلحات المسرحية) الناقد أحمد بلخيري فيعرفه بأنه: «المسرح الذي يستعمل «...» الوثائق المختارة من أجل أطروحات سوسيوسياسية «...» ويعتبر المسرح الوثائقي وريث الدراما التاريخية، كما أنه يقابل المسرح القائم على الخيال الخالص»، وما يجري في المسرح الوثائقي أن يقوم الممثلون بإعادة تمثيل مراحل الحدث أو الواقعة التي جرت، إما في شكل لوحات أو اسكتشات. ويمكن التدليل بالعديد من المسرحيات العالمية والعربية التي لجأت إلى الوثيقة التاريخية، وأذكر على سبيل الاستشهاد بمسرحية روجيه عساف (الرجل ذو الحذاء المطاطي) التي تدور أحداثها حول الحرب الأهلية اللبنانية، والكاتب البريطاني ديفيد هير (أشياء تحدث) التي تناول فيها أحداث الغزو الأمريكي ودخول قواتها إلى العراق. وفي سياق هذا الهامش؛ قرأت مؤخرا نصًا للكاتب والسيناريست محمّد السيد عيد بعنوان (محاكمة جو بايدن أو عصابة الشياطين: مسرحية وثائقية عن حرب غزة- 2023م) وقام الشاعر أحمد فضل بكتابة معالجة شعرية للنص.

وفي هذا السياق نفسه، كان لكاتبة المقالة تجربة في توظيف هذا النوع المسرحي حينما حوّلت نصًا مفتوحًا من تأليفي بعنوان (أبجدية البوح علياء) إلى عرض بصري درامي تسجيلي يسرد حكاية إنسانية تكثّف معاناة الوجود الفلسطيني في مخيمات اللاجئين، وتمتد الحوارات لتعبِّر عن الألم الإنساني والشقاء المشترك حينما يَفقد المرء كلّ شيء، ولا يعود المكان قابلًا للعيش، فيصير اجتياز الجسر من خلال وجهة نظر الشخصية عبورا إلى الضفة الأخرى ارتحالًا جماعيًا لا ينتهي نحو وطن متخيّل، وحيث يغدو الموت والحياة سيّان، وفي كلا الحالين تتأكد الرغبة لدى الشخصية في السفر إلى الضفة؛ وهي تطلق صرختها في وجه العالم كله بصوت مبحوح: «خذيني يا بلادي وما تفرطي فيَّ».

النوع الرابع: مسرح الإسقاط السياسي أو مسرح التسييس. ويُعد الأكثر إشكالية لما يثيره من تداخل في استعمال اللفظ بين السياسة كممارسة يومية رسمية، ومعنى تسييس الأزمة، فإمّا أن يُختار المُحلل أو الباحث تعبير مسرح الإسقاط السياسي أو تعبير مسرح التسييس. وعطفًا على هذا الالتباس الحاصل، فإن بعض الباحثين لم ينفكوا عن محولات فضّ الاشتباك بين الاستخدامين، فيُمهّد الباحث (أمين العيوطي) مدخلًا مناسبًا للكلام عن مسرح الإسقاط السياسي من خلال الحديث عن المسرح السياسي بصفة عامة، قائلًا: «عندما نتكلم عن المسرح السياسي، فإن أذهاننا غالبًا ما تتجه إلى ذلك النوع من المسرح الذي ازدهر في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أو في أمريكا إبان أزمة 1929 الاقتصادية، وجاء محملًا بوعي سياسي، متوسلًا بأساليب فنية جديدة سواء في أسلوب صياغة هذه الرسالة أدبيًا، أو في أسلوب عرضها على المسرح. «يظهر الإشكال من هنا في قوله» غير أن هذا لا يعني أن المسرح لم يكن منذ بدايته يحمل رسالة سياسية في طيات رسالته الفكرية. بل إننا نخطئ إذا توهمنا أن الأدب في كل صوره، وعلى اختلاف مذاهبه الفنية، لم يكن يعبر، في المقام الأول عن رؤيا سياسية» وفي هذا السياق، ونظرًا إلى حال المواطن العربي الذي يتغذى اليوم فكريًا وسياسيًا على قنوات التواصل الافتراضي، والقنوات الإخبارية المنتشرة في الهشيم، فلا يغذيه المسرح المستنير، يسهل معه أن يرى المواطن نفسه من المحيط إلى الخليج يأكل طعامه كله في السياسة، وينام ويصحو على السياسة، ولا شيء يحدث!

(1)

اجترح الكاتب المسرحي (سعدالله ونوس) مصطلح التسييس، معرّفًا إياه في مفتتح مسرحيته (مغامرة رأس المملوك جابر) على أنه حوار يجري ما بين مساحتين: أولاهما هي العرض المسرحي الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره. وثانيتهما هي جمهور الصالة الذي تنعكس فيه كلّ ظواهر الواقع ومشكلاته. وفي حوار أجري معه سنة 1986م، حدد ونوس أن نظرته إلى مفهوم التسييس ينطلق في تجربته المسرحية من زاويتين متكاملتين. الزاوية الأولى فكرية، والزاوية الثانية جمالية. ففي الزاوية الأولى يتجه الوعي في مسرح التسييس إلى المضمون السياسي التقدمي بعد طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، وفي الزاوية الثانية عرّف ونوس مفردة الجمهور متسائلًا: مَن الجمهور الذي سيخاطبه هذا المسرح؟ إنه جمهور كما يقول: «نحن نعلم سلفًا أنّ وعيه مُستَلَب، وأن ذائقته مخرّبة، وأن وسائله التعبيرية تُزيَّف، وأن ثقافته الشعبية تُسلب ويُعاد توظيفها في أعمال سلطوية تعيد إنتاج الاستلاب والتخلف. فلا بدّ من البحث عن أشكال اتصال جديدة ومبتكرة، يتوقف إيجادها على التوجه السياسي الذي نريده، وطبقة الجمهور الشعبي التي سنتوجه إليها».

وعليه، فإن صفة المسرح السياسي كما تقول الناقدة الراحلة نهاد صليحة: «ينبغي أن تقتصر على ذلك النوع من المسرح الذي لا يكتفي بأن يتخذ من فلسفة الحكم خلفية مسلمًا بها للصراع، بل يتخطى ذلك إلى اتخاذ فلسفة الحكم نفسها مادة للصراع -أي يصبح موضوعه السلطة والفلسفة التي تساندها، والقوانين التي تفرزها، ومظاهر تطبيقها- التي تجري في الواقع، هي ما يَلتفت إليها المؤلف.

الناظر إلى فلسفة سعدالله ونوس الفكرية والجمالية التي شغلته في مسرحياته الأولى، يجدها تنتصر إلى قاعدة أساسية متمثلة في حاجة المجتمعات العربية إلى الحوار، وبعد أحداث طوفان الأقصى تكتشف المجتمعات الأوروبية أيضا أن سياسيها قد كذبوا عليها، وغشوها واستلبوها، لذلك ثار الأساتذة وطلبتهم وبعض السياسيين والحقوقيين؛ ويتبين لنا من أحداث الأقصى أن الجمهور الغربي الأوروبي مثلنا؛ جمهور استلب وعيه، وخُربت ذائقته، وزُيفت وسائل تعبيره، وأن ثقافته الشعبية وموروثه يُعاد توظيفهما في أعمال درامية سينمائية سلطوية تعيد إنتاج السيطرة والاستلاب والتخلف.

وفي هذا السياق أعود إلى كلمة سعدالله ونوس التي ألقاها بمناسبة اليوم العالمي للمسرح في دورة العالم 1996م وهي كلمة معبرة جدا عندما أكد فيها على أهمية «تعميم الديمقراطية واحترام التعددية وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء»، فإذا كان ونوس قد صدق في دعوته، فإن العالم اليوم يثبت لا وجود للديمقراطية التي تشدّق بها الغرب في العالم كله، ولا وجود للاختلاف، ولا احترام للتعددية في أي شيء، وأن العدوانية والنزعة إلى الشّر، تستنهض نوازع أول جريمة في الكون، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، ولم يحدث أي شيء، وسنظل في جوع إلى الحوار.

يا كاتبنا المسرحي سعدالله ونوس في ذكرى رحيلك... نمْ قرير العين ولترقد في قبرك بسلام.