لطالما شعرتُ بفضول شخصي تجاه الحياة الاجتماعية للعُمانيين، قبل خمسينيات القرن الماضي. كيف يعيشون ويلبسون ويأكلون ويقصون القصص، إلا أنّ معظم الكتابات كانت مُنشغلة بالمفاصل الكبرى في التاريخ السياسي أكثر من انشغالها بما يمسُ عصب حياة الناس.

ولأنّ كتابات الرحالة والمستشرقين تكشفُ جزءا من هذه الحياة الخفية، بدأتُ بقراءة كتاب لا يخلو من تأملات وظرافة في واقع اجتماعي شديد الفقر والجوع والنُدرة، لكن من المُحبط حقا أن يكون هذا الكتاب الثري مُفتقدا لكتابة السنوات وأسماء المدن والقرى والأشخاص، فحتى لو غابت عن الكاتب، فكان من الممكن أن يكتب المترجم مقدمة شارحة للظروف التي كُتب فيها. أتحدثُ عن كتاب: «رحلة طبيب في الجزيرة العربية». تأليف: دكتور هاريسون. ترجمة: محمد أمين عبدالله، صدر عن وزارة التراث القومي والثقافة ١٩٨٦.

يُخبرنا الكتاب عن الأمراض التي كانت تفتكُ بالناس، عن الأجور المتدنية، الجوع الذي يُظهرُ العظام، والتراخوما التي تُخلف آلاف العميان، وبرك البعوض التي تُسبب الملاريا، وموت الأطفال لأسباب تافهة. عن الضرائب التي تُفرضُ لبناء مدرسة أو مستوصف، الضرائب التي دفعت البعض للهجرة إلى زنجبار أو الهند، «فصاحب الأرض مدين لتاجر الجملة، التاجر الصغير مدين للتاجر الكبير، المواطن مدين لهم جميعا»! ولذا لا تؤخذ الأجور من المرضى الفقراء، بل يُلزم بها الأثرياء، «فأجور العلاج بالنسبة للعُمانيين كانت مُرهقة رغم ضآلتها بالنسبة للأطباء»!

يذكر الكتاب تصدير التمر إلى أمريكا، 28 ألف صندوق بسعر 60 جنيها (استرلينيا) للصندوق الواحد، يذكر الحقول التي تتمتع بشعيرها وقمحها إلا أنّ ذلك لم يعكس ثراءً يذكر!

تجول هاريسون ورفاقه فوق الحمير بصحبة: الكينين وأملاح أبسوم وآلة لخلع الأسنان ومعدات الغسل وعلاجات القرحة، إلا أنّ «إقليم عُمان» الذي يبعد عشرة أيام عن مطرح، لم يكن يرحبُ بالأطباء الأجانب رغم الحاجة الماسة لهم، ويُعلل الأمر لأسباب دينية وسياسية.

يقصُ لنا هاريسون الكثير من القصص الكاشفة، ففي المستشفى هنالك مساومة على الخدمات والأجر؟ من يؤمن الفراش والطعام؟ فعائلة المريض تقوم غالبا بدور التمريض والرعاية والطهي.

ومن القصص الطريفة، رفض شيخ خلع ضرسه واشتراطه خلع سن عبْده قبله، وكيف أنّ إحدى القرى رحبت بهاريسون بإطلاق النار من البنادق لأنّه قام باستئصال ورم من رأس رجل في الهواء الطلق. يوردُ أيضا قصّة الشيخ الذي أصيب بالسرطان في جانب من وجهه، وكان من الصعب أن يذهب إلى مطرح لأنّ عليه ثأرا هناك. كما تحدّث عن مدينة صارع أهلها وباء الكوليرا، فطلب الشيخ مشورتهم، فقال: «لدي مشورة لكنها لن تجدي». قال الشيخ: «سأعلقُ مشانق من لا يلتزم»، فنصحهم بشرب الماء المغلي وأكل الطعام المطهي، فتوقف الوباء -خوف الإعدام- كأنّما استؤصل بفأس!

يصف شهية العُمانيين المفتوحة -وقت الرخاء-: «يدفنون خروفا مسلوقا في جبل من الأرز ويأكلون كميات لا يمكن تصديقها، وكأنّ أجهزتهم المعوية قادرة على هضم كل ما يصلها!»، كما يعقد مقارنة بين أسنان البدو البيضاء اللامعة بسبب شرب اللبن التي تبدو على نقيض الأسنان في مطرح!

ومما يُدلل على قوة تأثير النساء آنذاك قوله: «طالما رضيت النساء عنا، فسوف نحصل على الموافقة، فالنساء في هذا الجزء من العالم يحصلن على ما يرغبنه».

الباطنة حدائق ترويها الآبار، هنالك حيث يعمل الرجل والثور معا، يأكلان ويستخرجان الماء من البئر. كما يعيش البدوي مع الماعز، كشركاء في العيش وفي الحرية.

عندما شاهد هاريسون سمكة قرش عملاقة يجرها صياد على ساحل الباطنة، سأله: «هل ستأكل سمكة القرش»، فأجابه: «إنّها تأكلنا ونأكلها. المهم من يأكل الآخر أولا».

يذكر الكتاب شخصية قمبر العُماني، الذي تعلّم حقن الوريد، وأراد هاريسون الاستعانة به ليقنع مزارعي الباطنة بضرورة أخذ الكينين ضد مرض الملاريا، فنجح في ذلك.

الرعاة البدو يغنون بسعادة كأنّما تزهر الأرض ما إن تسمع أصواتهم. يقايضون الزبد باللبن في السوق، ويبيعون العظام المتبقية لأوروبي كان يستخدمها كسماد. تعكس وجوههم مقدار الصبر، وأول ما يطلبونه هو القهوة التي تختلط مع عصارة معداتهم الخاوية.

في بعض مواضع الكتاب، نشعرُ بحدوث بتر في النصّ، ولا ندري إن كان من فعل الكاتب أم أنّه تصرف شخصي من المترجم! ولعل نصّ رحلة هاريسون إلى الجبل الأخضر بعد أن تلقى خطابا من الشيخ سليمان بن حمير بسبب مرض ابنه، هو الأكثر دلالة على ذلك، إذ لا نعرف تتمة القصّة رغم أهميتها!

هذا الكتاب أشبه بمذكرات شخصية جديرة بالتمعن والاستقراء، هناك حيث يستعينُ الفرد -كي يعيش- بصلابته الفردية وقوة العائلة وتآزرها في مكان تسوده النُدرة.