(1)

تمرّ في هذا الشهر الذكرى السابعة والعشرون على رحيل الكاتب المسرحي سعد الله ونّوس (27 مارس 1941 - 15 مايو 1997م)، مرورًا يعيدنا إلى بعض المرتكزات الثقافية والفنية التي استندت إليها تجربته المسرحية الفريدة في زمنها وتأثيرها اللاحق على المسرح العربي تأليفا ونقدا وترجمة، والمتمثلة في تجربة مصطلح تسييس المسرح، المنبثق عن مفهوم المسرح السياسي، إلى جوار مرتكزات أخرى كالجوع إلى الحوار، والبدء من الجمهور. تتصل المرتكزات السابقة بالحال العربي المعاصر في مستوياته الثلاث: السياسية والاجتماعية والثقافية، فمنذ انتفاضة طوفان الأقصى الماجدة، في السابع من أكتوبر 2023م ومنظومة الفكر والحريات وعلاقة ذلك بمفهوم الديمقراطية والتعددية والحوار واحترام الآخر، تجد صداها في حوارات الشارع العربي الملتهب بهدوء كارثي لا مثيل له، اتجاه ما يجري اليوم في غزة.

فعلى الرغم من الاحتجاجات التي يشهدها العالم الأوروبي في مستويات بعض الجامعات (كولومبيا، ونيويورك، وهارفرد، وبنسلفانيا... وغيرها الكثير) وتعرّض أساتذتها إلى التعذيب وطلبتها إلى الاعتقال أسوة بأساتذتهم، وعلى الرغم أيضا من توسع نطاق مقاطعة البضائع الداعمة للكيان الصهيوني والتوقف عن استهلاكها والبحث عن بدائل أخرى كالمنتجات المحلية، ظلت ردة فعل الشارع العربي هادئة تماما وغير مناسبة لحدث هزّ العالم في بقاع مختلفة! وما أصدق الشاعر محمود درويش الذي وصف ما يُشبه اجتياح بيروت في يونيو عام 1982م بحال غزة اليوم، في قصيدته الخالدة (مديح الظل العالي) حينما قال:

«بيروت / ظهرًا:

يستمرُّ الفجرُ منذ الفجرِ

تنكسر السماءُ على رغيف الخبزِ.

يَنكسر الهواءُ على رؤوس الناسِ من عبءِ الدخانِ ولا جديد لدى العروبةِ:

بعد شهرٍ يلتقي كُلُّ الملوكِ بكل أَنواعِ الملوكِ، من العقيدِ

إلى العميد، ليبحثوا خطر اليهود على وجودِ الله أَمّا الآن فالأحوال هادئة تماما مثلما كانت...»

والشيء بالشيء يستعاد ويعاد، إذ لنا في احتلال المسجد الأقصى الكثير من الأحداث، فعندما جاءت قصائد الشعراء ضعيفة دون مستوى الحدث؛ فالشاعر وقصيدته قد افتضحا! وأذكر في هذا السياق سؤالا كان يطرحه علينا الدكتور الراحل عبدالجليل حسن عبد المهدي أثناء دراستي للبكالوريوس، وناقشه في كتابه (بيت المقدس في أدب الحروب الصليبية 492 ـــ 648 هـ) مفاد السؤال: لماذا لم يكن الشعر في مستوى احتلال بيت المقدس؟ سأترك الإجابة لاجتهادكم أيها الأعزة.

(2)

تعددت تعريفات المسرح السياسي، وظاهرة تسييس المسرح لدى المثاقفة العرب. وانطلق على وجه عام التعريف من اشتغالات المسرحيين المعروفين في العالم وهم: إرفين بيسكاتور، وبرتولد بريشت، وبيتر فايس، وقنن هؤلاء من خلال تجاربهم بعض التقنيات الفنية المركزية في النصّ والاشتغال الإخراجي، كانوا يهدفون من خلالها إلى تقديم رؤية فكرية وجمالية للمسرح السياسي، أو لنقل بصيغة أخرى؛ البحث عن موقف المسرح من القضايا السياسية الملتهبة في المجتمعات وإيجاد مقاربة جمالية لمعالجة الجوانب السلبية فيها، وإيقاظ الوعي على نحو من الأنحاء، وجعل المتفرج متفاعلا ومشاركا إيجابيا في الأحداث الحاصلة.

وأبسط مدخل لتعريف المسرح السياسي تعريفه بأنه مسرح فن الأزمة! والأزمة أزمات كثيرة متعددة ومتشعبة لا يُطال حصرها، لكن المتفق عليه بالأزمة؛ أن تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وإذا كان من الصعوبة فصل تداخل الأزمات عن بعضها وانعكاس كل واحدة في الأخرى، فإن على المسرح السياسي البحث حول مدى تفاعل النص الدرامي المسرحي مع الأحداث الاجتماعية والسياسية، أو المنعطفات التاريخية المهمة والكبرى. وفي هذا السياق وعى بعض الكتّاب العرب هذه المسألة، ذات الحيوية المهمة، فالراحل سعدالله ونوس، أبرز هؤلاء المسرحيين الذين التفتوا إلى هذه الدراما، وأعدت عن مسرحياته العديد من الدراسات العليا، ونشير هنا مثلا إلى الدكتورة صبحة علقم المختصة في مسرح ونوس وإلى عنوان دراستها (المسرح السياسي عند سعدالله ونوس). كما يُمكننا في عُمان التدليل على مفهوم تنوع فن الأزمة بمسرحيات الكاتب والمخرج العماني مالك المسلماني (ولد البلد)، وكذلك الكاتب المسرحي عماد الشنفري (الفوز 58)، وأيضا الكاتب المسرحي والروائي بدر الحمداني (العيد، ومواء القطة، والجحدول)، والكاتب والمخرج محمد خلفان (قرن الجارية)، حيث التفتت بعض مسرحياتهم إلى تناول الأزمات الاجتماعية المختلفة وتأثيرها في البنيتين الاجتماعية والثقافية للمجتمع المحلي.

أكد المختصون بالنقد المسرحي انتظام ما يسمى بالمسرح السياسي في أربعة أنواع هي:

النوع الأول: المسرح التحريضي وهو مسرح يعيدنا ليذكرنا إلى ما اصطلح عليه الممثل الأمريكي بيتر بيرج بمسرح العصابات، كأسلوب للدلالة على وجود مسرح مستوحى من أسلوب حرب العصابات؛ ويقوم على مبدأ انتشار مجموعات متفرقة من الممثلين بين الناس، وتقديم مشاهد سريعة وخاطفة في أماكن غير متوقعة، الهدف منها تحريض المتفرجين على مناقشة الموضوع المطروح في المشهد، وغالبا ما يتعلق المشهد بأحداث ساخنة.

النوع الثاني: المسرح الملحمي، وأسسه المسرحي الألماني برتولد بريشت. والملحمية في المسرح ظاهرة حية امتداداتها تتصل بالفرجات الشعبية وفن الأداء، وتجد اليوم اشتغالات بحثية لدى بعض الباحثين في المغرب العربي، على وجه الخصوص الباحث المعروف الدكتور خالد أمين. يعدّ المسرح الملحمي امتدادًا للمسرح السياسي الذي ظهر في روسيا بعد الثورة مباشرة، ثم وصل إلى أمريكا وبقية أوروبا في صورة أفصح من صورته الأصلية. وتؤكد أغلب الدراسات على ارتباط المسرح الملحمي في بدايته باسم المخرج الألماني إرفين بسكاتور، الذي يرجع إليه الفضل في التعريف بالمنهج الذي سار عليه بريشت فيما بعد. ولخص بريشت مفهومه للمسرح الملحمي في مقال له بعنوان (المسرح الحديث هو المسرح الملحمي) ومحددا به أبرز سمات مسرحه وملامحه؛ فهو كلّ ما جاء على خلاف المسرح الأرسطي.