في البداية كان الإنسان الأول يصنع آلاته الموسيقية من المواد الطبيعية التي لا تتطلب تدخلا كبيرا في تهيئتها لاستخراج الأصوات منها. ومن الطبيعي هنا أن تكون صناعة الأوتار والآلات الوترية عامة جاءت في مرحلة متأخرة وكذلك تحديد طابع النغمات ودرجاتها ونسبها بالقياس إلى ابتكار الآلات الإيقاعية والنفخ.
وقد ذكرنا في مقالات سابقة عددا من الآلات الموسيقية القديمة التي لا تزال مستعملة في الموسيقى التقليدية العُمانية. ولكن التوجه نحو استعمال تلك الأدوات مباشرة من الطبيعة في الأداء الفني البسيط يكشف فطنة الإنسان المبكرة وموهبته وحاجته الطبيعية التعبيرية والجمالية، وقد توارث الإنسان ما استقر منها في الممارسة، وظل يلجأ باستمرار إلى الطبيعة والأدوات التي يصنعها لأغراض غير موسيقية، فنجد استعمال بعض أدوات المطبخ كأنواع المداق الخشبية والمعدنية التي تستعمل بالأصل لدق الحبوب أو أنواع البهارات.
واستعمال أنواع آلات الموسيقى التقليدية في الموسيقى الحديثة يمثل في الواقع تحديا كبيرا، وربما السبب الأكبر هو بساطة صناعة هذه الآلات من جهة وعدم توفر العازفين الماهرين من جهة أخرى. ولكن قد يكون للتأليف الموسيقي في المستقبل دور نحو توظيف بعض آلات الموسيقى التقليدية، وإعادة صناعتها وتهيئتها لمواكبة الفكر الموسيقي الجديد وتطور أساليب العزف.
وفي واقع الممارسة يوجد عدد كبير من الآلات الإيقاعية العُمانية المستعملة في صناعة الضروب الإيقاعية التقليدية، وتستعمل عادة في أداء الصوتين الإيقاعيين الغليظ والرفيع، والحليات الزخرفية. وبناء على هذه الأدوار تصنع الآلات الموسيقية العُمانية وتتنوع أحجامها، غير أن الصناّع لا يلتزمون بمقاييس موحدة لها. وقد قام الدكتور يوسف شوقي مصطفى بقياس عدد من هذه الطبول وهي موثقة في معجم موسيقى عُمان التقليدية، ولاحظت أنها رغم وحدة التسمية كالرحماني مثلا إلا إنها في الوقت ذاته مختلفة الأحجام، وكذلك طبول الكواسر والمراويس وغيرها.. ومع أن كل آلة إيقاعية يمكن للعازف استخراج الصوتين الإيقاعيين المعروفين (الرفيع والغليظ) منها إلا أنه في واقع الممارسة والأداء الفني لا يستغنى عن اجتماع أنواع عديدة من الآلات الإيقاعية، وأحجامها تحدد وظيفتها الفنية في الأداء وصناعة الضروب الإيقاعية والتطريب الإيقاعي.
وهكذا يمكن تعريف الموسيقى التقليدية العُمانية بأنها موسيقى إيقاعية، وفي هذه المناسبة أستدرك بأن مصطلح «الموسيقى» في جميع مقالاتي جامع للآلات والغناء. وقد كان العرب يستعملون مصطلح السماع بهذا المعنى، والسماع آلة من الآلات الإيقاعية العُمانية والعربية عامة وتسمى كذلك الطار وجمعها طارات.
وكما ذكرت فإننا عندما نتحدث عن آلات موسيقية تقليدية عُمانية فنحن نتحدث عن آلات بدأت بعضها بالانسحاب التدريجي من الواجهة الفنية العُمانية وصناعة الأغنية الحديثة، ذلك لأن أساليب الغناء العربي والغربي وآلاتهما الموسيقية هي التي تستقطب الآن الموسيقيين من مختلف الأجيال، ويعمل هؤلاء على دمجها مع أساليب الغناء المحلي العُماني، وفي الساحة تجارب موسيقية عُمانية متنوعة في هذا الشأن.
من هنا أتطلع إلى أن تفسح دار الأوبرا السلطانية المجال لنا نحن أصحاب هذه التجارب الموسيقية الحديثة لعرضها أمام مرتاديها في برنامج مستمر خاص للحفلات العُمانية.. وهذا اقتراح مهم ربما أخصص له مقالًا في هذه الزاوية المتواضعة.
من جهة متصلة، يمتلك الموسيقيون العُمانيون المعاصرون مهارات رفيعة في الأداء الفني على عدد كبير من الآلات الموسيقية العربية والفرنجية إن صح التعبير، وينشغل معظمنا نحن الممارسون بالتوظيف الفني للآلات الموسيقية بأنواعها المختلفة في الأداء الفني المعاصر، وأقصد بالتوظيف الفني الأداء التعبيري الذي يتعامل مع أنواع مختلفة من الآلات التي لها مساحات وطبقات صوتية وأنظمة موسيقية متنوعة واستغلال القدرات والمهارات الفنية للعازفين.
وهكذا، وكما ذكرت في مقال سابق، تواجهنا إشكالية جادة في تعريف آلات الموسيقى العُمانية المستعملة في صناعة الموسيقى الحديثة لعدم وجود أغنية عُمانية حديثة تؤدى اليوم بآلات موسيقية تقليدية عُمانية صرفه. إن واقع الممارسة اليوم يفرض تحديات وإشكالات متنوعة في ظل تحولات ثقافية وفنية كبرى للممارسين والمتلقيين، وإيجاد معادلة مناسبة تحل مسألة الحفاظ على الموروث وتفادي الجمود من جهة وتلبية احتياجات الموسيقيين المبدعين والمجددين من جهة أخرى. والأهم في هذا الشأن توفر الظروف الملائمة للممارسة الموسيقية وملاحظة أنواع هذه الممارسات الإبداعية ومنجزاها الثقافية والفنية. علما بأنه لا يوجد شعب في هذه الدنيا حسب معلوماتي لم يستعمل آلات من حضارة أخرى، والموسيقى التقليدية العُمانية خير مثال على هذا. ولكن في وقتنا هذا اختلط فيه استعمال الآلات اللحنية متعددة الأنظمة الموسيقية بكثافة، ورغم هذا التشويش وعدم وضوح الرؤية كما قد يبدو أحيانا فالموسيقى العربية ونظامها المقامي الذي ننتمي إليه يستوعب معظم هذه الآلات الموسيقية بما في ذلك الثابتة الدوزان بعد توحيده حسب النظام الموسيقي المعدل كمعيار، والأهم في هذا الشأن هو العلم والمهارة. إن أهم ما في الآلات الموسيقية هو تنوع طابع أصواتها وطبقاتها وقدرتها على ترجمة فكر المؤلفين الموسيقيين ومهارات العازفين وعبقرياتهم.
الآلات الموسيقية موضوعها كبير وشأنها أكبر في الفعل الموسيقي وصناعة الجمال الصوتي، ورغم هذا سيكون هذا المقال ختام هذه السلسلة من المقالات التي حملت العنوان أعلاه.
مسلم الكثيري موسيقي وباحث
وقد ذكرنا في مقالات سابقة عددا من الآلات الموسيقية القديمة التي لا تزال مستعملة في الموسيقى التقليدية العُمانية. ولكن التوجه نحو استعمال تلك الأدوات مباشرة من الطبيعة في الأداء الفني البسيط يكشف فطنة الإنسان المبكرة وموهبته وحاجته الطبيعية التعبيرية والجمالية، وقد توارث الإنسان ما استقر منها في الممارسة، وظل يلجأ باستمرار إلى الطبيعة والأدوات التي يصنعها لأغراض غير موسيقية، فنجد استعمال بعض أدوات المطبخ كأنواع المداق الخشبية والمعدنية التي تستعمل بالأصل لدق الحبوب أو أنواع البهارات.
واستعمال أنواع آلات الموسيقى التقليدية في الموسيقى الحديثة يمثل في الواقع تحديا كبيرا، وربما السبب الأكبر هو بساطة صناعة هذه الآلات من جهة وعدم توفر العازفين الماهرين من جهة أخرى. ولكن قد يكون للتأليف الموسيقي في المستقبل دور نحو توظيف بعض آلات الموسيقى التقليدية، وإعادة صناعتها وتهيئتها لمواكبة الفكر الموسيقي الجديد وتطور أساليب العزف.
وفي واقع الممارسة يوجد عدد كبير من الآلات الإيقاعية العُمانية المستعملة في صناعة الضروب الإيقاعية التقليدية، وتستعمل عادة في أداء الصوتين الإيقاعيين الغليظ والرفيع، والحليات الزخرفية. وبناء على هذه الأدوار تصنع الآلات الموسيقية العُمانية وتتنوع أحجامها، غير أن الصناّع لا يلتزمون بمقاييس موحدة لها. وقد قام الدكتور يوسف شوقي مصطفى بقياس عدد من هذه الطبول وهي موثقة في معجم موسيقى عُمان التقليدية، ولاحظت أنها رغم وحدة التسمية كالرحماني مثلا إلا إنها في الوقت ذاته مختلفة الأحجام، وكذلك طبول الكواسر والمراويس وغيرها.. ومع أن كل آلة إيقاعية يمكن للعازف استخراج الصوتين الإيقاعيين المعروفين (الرفيع والغليظ) منها إلا أنه في واقع الممارسة والأداء الفني لا يستغنى عن اجتماع أنواع عديدة من الآلات الإيقاعية، وأحجامها تحدد وظيفتها الفنية في الأداء وصناعة الضروب الإيقاعية والتطريب الإيقاعي.
وهكذا يمكن تعريف الموسيقى التقليدية العُمانية بأنها موسيقى إيقاعية، وفي هذه المناسبة أستدرك بأن مصطلح «الموسيقى» في جميع مقالاتي جامع للآلات والغناء. وقد كان العرب يستعملون مصطلح السماع بهذا المعنى، والسماع آلة من الآلات الإيقاعية العُمانية والعربية عامة وتسمى كذلك الطار وجمعها طارات.
وكما ذكرت فإننا عندما نتحدث عن آلات موسيقية تقليدية عُمانية فنحن نتحدث عن آلات بدأت بعضها بالانسحاب التدريجي من الواجهة الفنية العُمانية وصناعة الأغنية الحديثة، ذلك لأن أساليب الغناء العربي والغربي وآلاتهما الموسيقية هي التي تستقطب الآن الموسيقيين من مختلف الأجيال، ويعمل هؤلاء على دمجها مع أساليب الغناء المحلي العُماني، وفي الساحة تجارب موسيقية عُمانية متنوعة في هذا الشأن.
من هنا أتطلع إلى أن تفسح دار الأوبرا السلطانية المجال لنا نحن أصحاب هذه التجارب الموسيقية الحديثة لعرضها أمام مرتاديها في برنامج مستمر خاص للحفلات العُمانية.. وهذا اقتراح مهم ربما أخصص له مقالًا في هذه الزاوية المتواضعة.
من جهة متصلة، يمتلك الموسيقيون العُمانيون المعاصرون مهارات رفيعة في الأداء الفني على عدد كبير من الآلات الموسيقية العربية والفرنجية إن صح التعبير، وينشغل معظمنا نحن الممارسون بالتوظيف الفني للآلات الموسيقية بأنواعها المختلفة في الأداء الفني المعاصر، وأقصد بالتوظيف الفني الأداء التعبيري الذي يتعامل مع أنواع مختلفة من الآلات التي لها مساحات وطبقات صوتية وأنظمة موسيقية متنوعة واستغلال القدرات والمهارات الفنية للعازفين.
وهكذا، وكما ذكرت في مقال سابق، تواجهنا إشكالية جادة في تعريف آلات الموسيقى العُمانية المستعملة في صناعة الموسيقى الحديثة لعدم وجود أغنية عُمانية حديثة تؤدى اليوم بآلات موسيقية تقليدية عُمانية صرفه. إن واقع الممارسة اليوم يفرض تحديات وإشكالات متنوعة في ظل تحولات ثقافية وفنية كبرى للممارسين والمتلقيين، وإيجاد معادلة مناسبة تحل مسألة الحفاظ على الموروث وتفادي الجمود من جهة وتلبية احتياجات الموسيقيين المبدعين والمجددين من جهة أخرى. والأهم في هذا الشأن توفر الظروف الملائمة للممارسة الموسيقية وملاحظة أنواع هذه الممارسات الإبداعية ومنجزاها الثقافية والفنية. علما بأنه لا يوجد شعب في هذه الدنيا حسب معلوماتي لم يستعمل آلات من حضارة أخرى، والموسيقى التقليدية العُمانية خير مثال على هذا. ولكن في وقتنا هذا اختلط فيه استعمال الآلات اللحنية متعددة الأنظمة الموسيقية بكثافة، ورغم هذا التشويش وعدم وضوح الرؤية كما قد يبدو أحيانا فالموسيقى العربية ونظامها المقامي الذي ننتمي إليه يستوعب معظم هذه الآلات الموسيقية بما في ذلك الثابتة الدوزان بعد توحيده حسب النظام الموسيقي المعدل كمعيار، والأهم في هذا الشأن هو العلم والمهارة. إن أهم ما في الآلات الموسيقية هو تنوع طابع أصواتها وطبقاتها وقدرتها على ترجمة فكر المؤلفين الموسيقيين ومهارات العازفين وعبقرياتهم.
الآلات الموسيقية موضوعها كبير وشأنها أكبر في الفعل الموسيقي وصناعة الجمال الصوتي، ورغم هذا سيكون هذا المقال ختام هذه السلسلة من المقالات التي حملت العنوان أعلاه.
مسلم الكثيري موسيقي وباحث