السّلطة قـوّةٌ، أو كـائنٌ اجتماعيّ يتمتّـع بالقـوّة أو يجسّدها في تَـجَلٍّ من أعلى تجليّاتها. لا تكونُ سلطةٌ من غير قـوّة؛ لأنّ مبدأ كونها سلطةً أنّها احتازت من القـوّةِ القَـدْر الذي به تصير سلطة. ليستِ القـوّةُ من السّلطة بمقام الوسيلة من الفعل فقط، بل هي منها بمقام الماهية أو بشيءٍ بهذه المثابة. نعم، هي تحتاج القـوّة بما هي (أي القـوّة) أدواتٍ تتوسّلها (= السّلطة) لفرض هيبتها على مَن يقعون تحت نفوذها. ولكنّ القـوّة هذه ليست برّانية عن السّلطة أو زائدةً على معناها وعلى وجودها، بل هي عيْـنُ وجودها. من البيّن، إذن، أنّ التّلازم ثابت بين السّلطة والقـوّة، وأنّه تلازمٌ ماهـويّ. ولكن، ما معنى القـوّة هنا، وأين تتجلّى في أداء السّلطة أو في نظام اشتغالها؟

نستخدم مفهوم القـوّة، هنا، بمعنى القـدْر الضّروريّ من الطّاقـة الذي يسمح بممارسة التّأثير على الموضوع الخارجيّ: من أدنى مستوياته وصولًا إلى الإخضاع. هكذا تعني القـوّة، في حالة السّلطة، القدرة على التّأثير والإخضاع، أو حَمْلَ من تُمارَس عليه على الامتثال. إنّ السّلطة، بطبيعتها، علاقةٌ أمْـريّة بين آمرٍ ومأمور؛ والأمْـرُ ليس شيئًا آخـر غير إنفاذ قـوّة آمـرٍ في مَن يتلقّى أمـرَه. على أنّ مفهوم القـوّة، وما يقترن به من مفاهيم مثل القدرة، والتّأثير، والأمْـر، والإخضاع... جميعُها يدور في دائرتين من الفعل ومن أشكال الوجود على نحوٍ لا سبيل إلى اختزال الواحدة منهما في الأخرى. هكذا نميّز بين دائرة القـوّة الماديّـة ودائرة القـوّة الرّمزيّـة أو المعنويّـة.

ما من سلطةٍ تقوم في جماعةٍ اجتماعيّة، وتؤدّي وظائفها الطّبيعيّة في تنظيم الاجتماع وحِفظ الأمـن والاستقرار وحماية القانون والسِّلم المدنيّة، إنْ لم تكن في حوزتها قـوّةٌ ماديّة تكون أداتَها لإشهار الشّوكة ولردع انتهاكات القانون، ومنع العدوان على الأملاك العامّة والخاصّة أو تهديد السِّلم والاستقرار الدّاخليّين (= الأمن الاجتماعيّ)، ثمّ لحماية أمن الجماعة السّياسيّة وسيادتها من الأخطار والتّهديدات الخارجيّة (الأمن الوطنيّ أو القوميّ). تستحيل عليها النّجاعةُ في النّهوض بما من أجله قامت، كسلطة، من مهمّات إنْ لم تكن بين يديْها الأدواتُ التي تصنع لها الهيبة، وتكـون سببًا لأن تنقادَ لها الإرادات (أو، قُـل، سببًا لأن تنقاد الإرادات الجزئـيّة للإرادة العامّـة)؛ إذْ ما من سلطةٍ من غـيرِ هيـبةٍ: فهي وحـدها ما يجْعل فـعْـل الأمْـر (= السّلطويّ) فعلًا نافذ المفعول. لذلك كان في كلّ جماعةٍ سياسيّةٍ قانونٌ مُلزِم وشرطةٌ وأمنٌ وقضاءٌ وسجونٌ واستخباراتٌ وجيش؛ إذ هي لها بمثابة الأسنان والأظافر للجسم، بها تَدْفع وتَـرْدع: سواءٌ من طريق استعمالها عند الاقتضاء، أو لمجرّد حيازتها بما من شأنه أن يفرض توقيرها والامتناع عن انتهاك القوانين العامّـة. هكذا كانت في كلّ تاريخ المجتمعات، وهكذا هو شأنُها اليوم.

لكنّ قـوّة السّلطة ليست ماديّة، دائمًا، ولا تُـقاسُ نسبتُها بنسبة ما تحتازُهُ من وسائلها الماديّة العارية، بل كثيرًا ما أدَّتُ قـوّةُ السّلطة المعنويّةُ وظيفتَها في المجتمع بالاقتدار الذي يضاهي أداء قوّتها الماديّة أو يفوقُه بكثير. والحـقُّ أنّ سلطةً تفتقر إلى القـوّة المعنويّة والرّمزيّة - أو تَعْتاز الحدّ الأدنى الضّروريّ منها-، فلا تمارس غير سلطانها الماديّ المباشر مستخدمةً في ذلك ما تملكه من أدوات العنف، لهي سلطةٌ غاشمة أو هي، على الأقلّ، قد تبدو صورتُها كذلك لدى قسمٍ من المجتمع. نعم، لا مَهْرب لأيّ مجتمعٍ من عنف السّلطة متى ما دَعَتِ الضّرورةُ إلى ممارسةِ مقدارٍ منه - يزيد أو يَنْـقُص تبعًا للتّحدّي أو التّهديد - من أجل حِفظ السِّلم وفرْض احترام القانون؛ بل لا مهْـرب من ارتضاءِ هذا العنف بوصفه، وحده، العنف المشروع - بلغة ماكس ڤيـبر- في مقابل أيّ عنفٍ آخر أهليّ غير مشروع، أي بوصفه العنف الذي يَـمْتح مشروعيّته من القانون (وهو، لذلك السّبب، عنفٌ قانونيّ). مع ذلك؛ مع مشروعيّة لجوء السّلطة إلى هذا العنف القانونيّ، بل حتّى مع ارتفاع الطّلب عليه من المجتمع في بعض الأحوال التي يَـتضعضع فيها الأمن، فإنّ حيازة السّلطة قـوّةً معنويّـةً كفيلٌ بأن يعفيها من اللّجوء إلى استخدام القـوّة الماديّة وممارسة العنف الفيزيقيّ؛ أي كفيل بأن يمكّنها من أن تردَع الانتهاك أو الخطر حتّى من دون أن تحرِّك ساكنًا. وما سمِّيت هذه القـوّة المعنويّة بالرّمزيّة إلاّ لأنّها لا تتجسّد في علاقةٍ ماديّـة، بل في فكرةٍ أو قيمةٍ أو مبدأ مّا منها يكون استمدادُ القـوّة والتّأثير والنّفـوذ.

نسمّي هذه القـوّة المعنويّة أو الرّمزيّة بالقـوّة الأخلاقـيّة. إنّ الدّولة، في ذاتها، قـوّة أخلاقيّة ومضمونُها أخلاقيّ - في نظر هيغل - لأنّها تمثيلٌ مكثّف للأخلاقيّة العامّـة: لروح المجتمع وقيم الأمّة. مَـأْتى هذه القـوّة الأخلاقيّة في السّلطة من الشّرعيّة التي تتمتّع بها في صفوف المحكومين أو في المجتمع. إنّ النّاس لا يخضعون للسّلطة، دائمًا، خوفـًا من بطشها الماديّ بهم وسعيًا وراء سلامتهم؛ وليس إكراهَها إيّاهم بأدوات القهر الماديّ هو ما يجعلها تستحصل منهم، دائمًا، الخضوع والامتـثال، وإنّما قد يُـؤْثِـرُ النّاس أن يَمْحضوا السّلطةَ التّأييد وأن يمتثلوا لسلطانها فيهم لأنّهم مقتـنعون بفوائد ذلك وعوائده عليهم. إنّهم - بمعنى آخر- يرتضون الخضوع للقانون والسّلطة بوصفه خضوعًا لإرادتهم هم أنفسهم؛ وذلك ما يقع في اللّحظة التي تتوافق فيها إرادةُ السّلطة والإرادة العامّـة، فيتوقّـف النّاس/المواطنون عن النّظر إليها بعين الخوف أو كأنّها كيانٌ برّانيّ عن المجتمع.

من البيّن، إذن، أنّ قـوّة السّلطة مستمَـدَّةٌ من قـوّة الشّرعيّة لا من شرعيّة القـوّة، لأنّ القـوّة لا تصنع شرعيّةً على قولٍ شهير - وحصيف - لجان جاك روسو، بلِ الشّرعيّـةُ ما يمنح كلَّ سلطةٍ صكَّ نفوذها في أيّ اجتماعٍ إنسانيّ، وما يرفع من معـدّل الطّلب الاجتماعيّ على أدوارها ووظائفها.