يوما بعد آخر، يدخل الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الحياة، فيغيّر من شكلها، ويُحدث نقلة، مثلما فعلت ابتكارات وبرامج سابقة، وقد قرأت خبرًا عن قرب استخدام الذكاء الاصطناعي في التدابير الأمنية التي ترافق انعقاد مهرجان (كان) السينمائي بدورته السابعة والسبعين التي ستقام في (كان) الواقعة في جنوب فرنسا في 14 مايو الجاري، من خلال وضع 17 كاميرا مراقبة تعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهذه الخطوة ستوفّر حماية أمنيّة عالية لنجوم السينما العالمية، وكبار الضيوف، وحوالي خمسة آلاف صحفي ومصور، فهذه الأعداد الكبيرة تتطلّب حماية أمنية تتمّ -في العادة- بالاستعانة بشركات خاصّة، غير أنّ دخول الذكاء الاصطناعي الذي يُعدُّ أحدث الابتكارات التكنولوجية سيسهّل المهمّة، ومن المؤمّل أن تعمّم هذه التقنية في حال نجاحها، لتشمل دورة الألعاب الأولمبية التي ستحتضنها باريس في السادس والعشرين من يوليو المقبل.

وقد تزامن هذا الخبر الذي ورد على لسان رئيس بلدية(كان) دافيد لينار، مع صدور كتاب عنوانه (العلوم الاجتماعية والإنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي) تحرير: د. نبهان بن حارث الحراصي، ود. سعيد بن محمد السيابي، عن كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس ضمن تبنّي الجامعة لمشروع يهدف للوقوف على أثر الذكاء الاصطناعي في العلوم الاجتماعية والإنسانية، شارك فيه عدد من الباحثين من جامعات عربية مختلفة، هم: (أ. د. سعد التميمي، د. سعيد عبدلي، أ. د. شيرين عبد اللطيف، د. عبد الوهاب كريم، د. مصعب محلا، د. عصام عبيد، محمد بن عبد الله العجمي)، يضمّ الكتاب ستة فصول هي: الفينومينولوجيا وفلسفة الذكاء الاصطناعي، الأدب بين الفضاء الافتراضي والذكاء الاصطناعي، المقاربة القانونية للدور البشري في استخدامات الذكاء الصناعي، نظم المعلومات وتطور الإبداعات الإنسانية باستخدام الذكاء الصناعي، الإبداع الثقافي والفني في ظل الذكاء الصناعي، استدامة الإبداع الإنساني مع تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي الذي صار اليوم الشغل الشاغل للكثيرين، وما يثيره من مخاوف من سوء الاستخدام، وإلغاء الكثير من الوظائف، والاستغناء عن الكوادر البشرية في سوق العمل، وهذه المخاوف تظهر مع كلّ ابتكار جديد، ومن زاوية مختلفة، ينبغي الحديث عمّا سيحدثه من نقلة واسعة في العلوم والمعارف وتطوير مجالات الحياة المختلفة، من هنا نستنتج أنّ التعاطي مع الذكاء الاصطناعي جاء متباينا، هذا التباين أملى على الباحثين دراسته، وخصوصا المشتغلين على العلوم الاجتماعية والإنسانية، الذين دعوا إلى الانفتاح على استخداماته، ومسايرة التحوّلات، لتفنيد التخوّفات التي تحوم حول «إقصاء تطبيقات الذكاء الصناعي للدور البشري في مجالات الإبداع القائمة على التفكير الدقيق والعميق» كما جاء في المقدّمة» فإذا كان هذا الأمر قائمًا ومتفاعلاً في ميادين سوق العمل كافة، فإن أكثر المؤسسات المعنيّة ببحث مسارات هذا التطوّر، وتوضيحها هي مؤسسات التكوين الأكاديمي المعرفي في المجالات الاجتماعيّة، والإنسانيّة التي حافظت على دورها في التكوين العلمي، والعملي خلال عصور سابقة متطوّرة من الإدماج التكنولوجي» ويؤكّد المحرّران أن إمكانات الذكاء الاصطناعي تظلّ معتمدة» على دور الإنسان، فهي وإن أحلت الآلة والبرمجيات محلّه، إلّا أنها حافظتْ على دوره في العمليات ذات الأدوار المتعدّدة في الإنتاج، وبالتالي في سوق العمل»، وبذلك فلا يمكن الاستغناء عن الإنسان، الذي عليه أن يواكب التحوّلات ويطوّر أدواته، ولعل ّمن بين أهمّ حسنات الذكاء الاصطناعي أنه جعلنا نزداد يقينا بإمكانات الدماغ البشري «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» (85: الإسراء) والمقصود به «وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلّا قليلا من كثير مما يعلم الله» حسب تفسير الطبري، وجاء الذكاء الاصطناعي ليؤكّد لنا قدرات الدماغ البشري غير المحدودة، فما يقوم به ليس سوى «محاكاة المعلومات المخزونة» كما يقول أ.د. سعد التميمي في الكتاب: وبما أن الذكاء الاصطناعي برنامج حاسوبي «فهو معرض للاختراق الذي قد يخل بالمعلومات»، كما يقول التميمي.

وتأتي أهمّيّة الكتاب كونه «يمهّد أرضيّة علميّة تستكشف أبعاد عصر الذكاء الصناعي للاستفادة منه بشكل أفضل عن طريق طرح عدة تساؤلات، لإيجاد إجابات وافية حولها. تكون عونًا للباحثين الآخرين والمهتمّين» كما يوضّح الناشر على الغلاف الأخير.

ومادام العقل البشري أعلى مرتبة من الذكاء الاصطناعي؛ لأنه هو الذي أوجده، فبالوقت نفسه، يستطيع الاستفادة منه في دفع عجلة الحياة إلى الأمام، وهذا ما ننشده.