عندما عرّفنا أساتذتنا بعربات النقل الخارجي في بدايات عملنا، فهمنا أن لها مهمتين لا ثالث لهما، الأولى هي التعليق على الأحداث من خارج محطة الإذاعة، بما فيها بعض الاحتفالات، والثاني أنها تعد بمثابة محطة متنقلة يُلجأ لها في حالات الكوارث الطبيعية أو الأحداث السياسية كالحروب والانقلابات العسكرية... كنتُ كلما خرجت في مهمة لنقل الأحداث الوطنية أتأمل مكونات هذه العربة، وأشعر أننا لا نستخدم من إمكانياتها الفنية سوى الشيء اليسير، أقرب إلى استخدامنا المحدود اليوم للهواتف النقالة. حيث يُخرج من العربة كابل (سلك كهربائي) طويل ينتهي بميكروفون، يعلق المذيع من خلاله على الحدث. بينما تعد هذه العربة (الكرفان) استوديو متكاملا، أو هي محطة متكاملة العناصر تقريبا. وهذا ينطبق على العربات الإذاعية، وكذلك التلفزيونية التي تعد أكثر تعقيدا وتحتاج لطواقم مضاعفة ومعدات أكثر عن الإذاعة.

في جلسة بيني وبين الزميل والصديق الراحل المخرج محمد بن عبدالله الحسني، ونحن نشاهد نقلا مباشرا لمهرجان شعبي بمناسبة العيد، قال محمد: ليش ما نسوي كذا في الإذاعة؟ أجبته: لو طبقنا نفس الفكرة في الإذاعة فلن نسمع غير جلبة أصوات متداخلة، سرعان ما ستصبح مملة ومزعجة، بينما تلفزيونيا للصورة تأثيرها القوي. ولكن في بالي فكرة مؤجلة، أنت تحرضني الآن على التعجيل بها.. أعطيته رأس الموضوع وتركت له أن يفكر في التفاصيل من زاويته.. فحتى هذا الوقت- على الصعيد الشخصي- لم أسمع عن برنامج إذاعي متكامل بمقدمته وخاتمته الموسيقية ونصه ولقاءاته وتقاريره ومكالمات ورسائل المستمعين، ينفذ من خارج المحطة.

توجهت إلى المهندس الإذاعي عبد اللطيف بن بير البلوشي للجلوس معه لمناقشة تساؤلات بعينها، فإن كانت الإجابات معظمها بنعم فالفكرة قابلة للتطبيق، مثل: هل صحيح أن عربة النقل عبارة عن استوديو متكامل كاستوديو المحطة؟ هل نستطيع بث المواد الموسيقية بالذات وتظهر بنفس نقاوة البث من المحطة وليس بنقاوة الهواتف الأرضية؟ أو موجات ال am الأحادية Mono؟ هل نتمكن من ذلك من أي موقع في عمان التي تمتاز بتباين كبير في جغرافيتها وتضاريسها التي يمكن أن تعيق إشارات البث؟ فكانت معظم الإجابات كما تمنيتها، غير أن ذلك يمكن أن يتوفر أكثر في حواضر المدن مثل مراكز المحافظات، لوجود إمكانيات أفضل.. فإذا أردنا أن نوصل الإشارة بنقاوة المحطة يقول عبد اللطيف: فإننا نحتاج إلى توصيل الإشارة بالطرق التالية 1 توفر وصلة ميكروويف، 2 البرود باند أي موجات النطاق العريض.

أما الـ فور واير سركت فتصل بها الإشارة، ولكن ليست بهذه النقاوة.. والرابعة وهذه لا توجد لدينا حتى الآن، ولكن هناك حديث عن محاولة اقتنائها قريبا، وهي توفُر جهازٍ صغير متنقل، ينقل الإشارة عبر الأقمار الصناعية... أخذت الفكرة تكبر وتتضح وتتبلور أكثر فأكثر.. وكنت قد بدأت الفكرة بشكل ناعم وتدريجي، عندما كُلفت في منتصف التسعينيات بالإشراف على النقل الخارجي في دورة كأس الصداقة الدولية للشباب التي تنظمها السلطنة كل سنتين، بين نهايات الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات، أن يتولى الزميلان خميس البلوشي ونجاة سعد رحمها الله تسيير فترة ما بين الشوطين التي كانت في السابق يعود فيها الميكروفون إلى الإذاعة لبث بعض الأغاني الرياضية، (كانت معظمها غير عمانية) مثل أغنية هلا بيك يا بورجل الذهب لسعدون جابر، وغيرها.. أما من هذه الدورة فقد أصبح البث متواصلا من الملعب بالدردشة بين المذيعين، والتحليل الرياضي مع المختصين كما جربنا بث الأغاني وبعض الفواصل ورفع الآذان من نفس الموقع، ونجحت الفكرة من حيث المبدأ.

على مشارف العيد الذي سيقضيه السلطان قابوس رحمه الله في ولاية السويق في أبريل 1998/م. قدمت التصور لإدارة الإذاعة، التي فوجئ أعضاؤها بالفكرة، فطُلبتُ لأوضح لهم التفاصيل بسؤال: محمد انت إيش ناوي تسوي بالضبط؟! ولأنهم إذاعيون فسرعان ما استوعبوا الفكرة وباركوها ووعدوني بدعمها وخاصة من قبل الأستاذة منى محفوظ مدير عام الإذاعة، والأستاذ محمد بن أحمد الرواس مدير إذاعة صلالة، الذي أثنى علي كثيرا، وشكرته كثيرا، وشعرت بالحماس فعلا.

تحمست أكثر وبدأت أضع التفاصيل والسيناريو.. فكان التصور العام- والذي تم فعلا- عبارة عن برنامج مباشر على الهواء، مدته ثلاث ساعات (8إلى11م)، يبث من إحدى الولايات، مساء الخميس، من مكان مفتوح غالبا، كل مادته وفقراته تسوّق تلك الولاية، من كل النواحي، ويحتوي على تقارير مسجلة من مختلف المواقع، وإشراك مراسل الإذاعة في الولاية بالربط معه من بعض المواقع لنقل نبض الولاية في ذلك الوقت المسائي، استضافة شخصيات بارزة، ومطرب أو فرقة للفنون التقليدية من الولاية.. تحتاج كل حلقة حوالي أسبوع نقضيه في الولاية للتحضير الدقيق. يأخذ المخرج معه المواد الموسيقية التي سيستخدمها كفواصل على أشرطة ريل أو كاسيت، ويستعين بمنفذ أو مساعد مخرج ليساعده. ويجهز المهندسون معداتهم و حجوزاتهم بعد أن يتأكدوا من ملائمة الموقع ووضوح الإشارة منه.. الخطوة الأولى تبدأ من زيارتنا للوالي، الذي سيسهل لنا المهمة مع المؤسسات الرسمية والأهلية وحتى بعض الأفراد، كما نطلب منه كلمة افتتاحية ترحيبية مسجلة للحلقة، خاصة أنه غالبا لن يكون موجودا في الولاية، لأنه يعود لولايته في الإجازة الأسبوعية.. وبما أن البرنامج مباشر فيجب أن يكون تفاعليا. إذا نحتاج إلى خط هاتفي لتلقي المكالمات، فتم توفيره، ونحتاج إلى خط هاتفي آخر نستقبل عبره رسائل عن طريق الفاكس، فكنا نأخذ معنا جهاز المكتب، أما الخط الخاص به فكنت ألجأ لأي مكتب حكومي مجاور لموقع البث، وأقنعهم بأنني أحتاجه للاستقبال فقط وليس الإرسال (ما بنخسّركم مكالمات).. نحتاج لمصدر كهرباء حتى لا نضطر إلى جلب مولّد مزعج ومعرّض لأي خلل، فنتوجه أو نخاطب مدير دائرة الكهرباء ونؤكد له على ضرورة التعاون وعدم قطع الكهرباء عن المنطقة التي سنتواجد فيها تحت أي ظرف، لأن الإذاعة العمانية بثقلها ستكون هنا ولا يصح أبدا أن ينقطع البث.

ولحفظ الأمن وتأمين سير العمل، نقابل ضابط مركز الشرطة بالولاية لتوفير بعض الأفراد حتى بشكل رمزي، فنجد منهم تجاوبا سريعا مذهلا.. أول حلقة سنقوم ببثها، ستكون قرب الشاطئ.. تعاون معنا الزميل عيد بن حارب المشيفري بتوفير فرقة شعبية شكلت إضافة رائعة. هكذا ولدت ونجحت أول حلقة من البرنامج.. من التحديات أنه حتى ذلك الوقت لم يكن الإعلام العماني يقدم إعلانات تجارية، وأنه موضوع أقرب إلى المحظورات الصريحة. وفي البرنامج نقدم كما كبيرا من الأسئلة لإشراك المستمعين، بهدف تمرير أكبر قدر من المعلومات عن الولاية وآخر أخبارها، لذلك وجب بعض التحايل، فمخصصات الجوائز لكل حلقة مائة ريال، يصعب تقسيمها إلى أكثر من (خمسينتين) فابتدعت فكرة المشاركة المجتمعية من تجار الولاية، بأن نتجول في السوق أو في الصفحات الصفراء التجارية من دليل الهاتف ونختار أكبر المحلات، وخاصة تلك التي يمكن أن تقدم جوائز عينية مثل الأدوات الإلكترونية، أو الأثاث، أو الجوائز النقدية...الخ ونعمل على إقناعهم بأننا سنذكر اسم المؤسسة، وأنه عمل وطني يرفع من اسم الولاية. والحقيقة أننا لم نكن نحتاج إلى جهد كبير للإقناع، فقد كان التجاوب عاليا، ووصلت جوائز كل حلقة إلى حوالي سبعمائة ريال، وهذا رقم كبير آنذاك.. أذكر أن أحد تجار خصب من مجرد اتصال هاتفي قال لي: أين موقعكم؟ فحددته له، فقال: (بيجي الولد العصر جايب جهازين تلفزيون، ولا تذكروا اسمي ولا المؤسسة، هذي خدمة وطن) أكبرت فيه هذا النبل، لمبادرته ولأنها تعد جائزة كبيرة، فقد ذكرت ذلك على الهواء، وأسميت مشاركته الكريمة (جائزة خصب).

وجد البرنامج صدى رائعا في الولايات التي نفذنا فيها الحلقات. فمشاهدة عربة الـ OB Van (Outside broadcast van) بشعار الإذاعة والهوائيات والسماعات، وتوفير مكان للجمهور، ومختلف الأدوات، في مكان عام من الولاية، يعطي انطباعا وصورة ذهنية جميلة بأن الإذاعة العمانية في ولايتهم. لأننا بهذا نكون قد اقتطعنا ثلاث ساعات من البث الإذاعي الرسمي، وهذه في عرف العمل لا تحدث إلا في حالات استثنائية دقيقة.. بمجرد افتتاح الحلقة يتوافد بعض الناس بعد سماعهم للبرنامج إلى الموقع للمشاركة أو حتى من باب الفضول، ويكتفي بعضهم بالوقوف بعيدا لرؤية المشهد ومتابعته من راديو السيارة. فما يجري داخل مبنى الإذاعة محاط بأسوار وبوابات أمنية، أما هنا فيشاهدون كل شيء ويعايشونه، ويصبحون جزءا أصيلا من مكوناته، بمشاركتهم وتفاعلهم.. شاركني في تقديم معظم الحلقات الزميل بدر الشيباني، وأبدع في إخراجها محمد الحسني، وأتى بعد وفاته المخرج حبيب عبدالله. وفي وقت لاحق واصل بدر مع زملاء آخرين أبرزهم هلال الهلالي. وسيف الهلالي الذي ما زال إلى اليوم شعلة تنسيق برامج الهوا بإذاعة الشباب، ومجموعة كبيرة من المهندسين، والفنيين بعمانتل الذين من خلالهم تصل الإشارة إلى محطة الإذاعة. وقد أسهم هذا البرنامج في التأسيس للبرامج الإذاعية المباشرة من خارج المحطة الرسمية.

وقد يبدو الحديث عن هذه الخطوة اليوم بدائيا ومتواضعا، لأن معظم هذا يمكن أن ينفذ بجهاز لابتوب أو حتى هاتف محمول، ولكن في وقته كان يعد إنجازا وتحديا، وخطوة غير مسبوقة.

لعل أبرز الحلقات التي قدمها البرنامج كانت من ولايات السويق وهي الحلقة التأسيسية، وحلقات خصب وعبري وصور وسمائل - التي تجرأنا فيها على قراءة موجز الأخبار من الموقع، وكان أبرز أخباره طمأنة المستمعين على صحة الشاعر عبدالله الخليلي، وحلقة من حديقة بركاء، ونزوى، التي فاجأتنا بتغير الطقس الذي لم نحسب له حسابا، فنحن المذيعين والضيوف يكون موقعنا خارج العربة، في الهواء الطلق، وكذلك الجمهور الذي يشغل ساحة خلف أو جنب طاولة المذيعين تكبر أو تصغر حسب العدد.. المطر ينزل بشكل متقطع بقدر ما يربكنا في المواصلة من عدمها.. وبما أننا نحرص على استضافة المواهب في أي مجال فقد كانت المفاجئة أن موهبة اليوم شاب يهوى جمع الثعابين الصغيرة، التي ملء بها زجاجة مياه غازية كبيرة! والمدهش أكثر أن مجموعة أخرى قد وزعها بين جيبيه، وفوق رأسه وقد غطاها بكمته (طاقيته) وواحد قد لفه بين أصابعه يلعب به وكأن بيده مسباح!! إلى هنا والوضع تحت السيطرة، ولكن طفلا صغيرا هو ابن سائق العربة أخذ يلعب بزجاجة الثعابين الموضوعة على الطاولة، ولم نلتفت أنه قد فتح غطاءها ليأتي الهواء المرافق للمطر ويسقطها على الأرض فتخرج الثعابين وتتوزع في المكان، لنزداد ارتباكا ونسارع لتغيير مكاننا ونصعد للعربة لنحشر أنفسنا مع المخرج، بينما الحاوي (مربي الثعابين) يجري خلف كائناته اللطيفة لتجميعها من تحت العربة.