المؤسسات الإعلامية وخصوصا الصحفية منها ترقد على بيضة من ذهب ألا وهي البيانات والمعلومات التي تمتلكها وتخزنها في قاعدة بياناتها سواء أكانت تلك البيانات مخزنة في موقعها الإلكتروني كأخبار وتقارير وتحليلات وآراء أو كقاعدة بيانات عن أعداد قرائها وأماكن وجودها وتفضيلات الأخبار التي يقرأونها وغيرها من البيانات الكبيرة التي لا يمتلكها إلا محركات البحث العملاقة. الصحف ووسائل الإعلام الأخرى لم تنتبه إلى تلك البيضة التي ترقد عليها، بل إن من استفاد من تلك البيانات هي تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي عثرت على ضالتها في البيانات الضخمة في أرشيف تلك الصحف ووسائل الإعلام الأخرى وقامت بتوليد والاستفادة من تلك البيانات والمعلومات في محركات بحثها خصوصا أن معظم كلمات البحث المفتاحية والأسئلة الشائعة التي توجه لتطبيقات الذكاء الاصطناعي هي عبارة عن أسئلة تحاول البحث لها عن إجابات التي يتوافر معظمها في سجلات وسائل الإعلام المختلفة.

المعركة اشتعلت بين الصحافة ووسائل الإعلام بعد إن انتبهت بعض الصحف إلى أن المعلومات التي يولدها الذكاء الاصطناعي هي مستقاة من قصص قامت تلك الصحف بنشرها عبر صفحاتها ومواقعها الإلكترونية من دون حتى الإشارة إلى مصدر تلك المعلومات ولا تاريخ نشرها. شرارة المعركة والمواجهة وجها لوجه بين الذكاء الاصطناعي والصحافة بدأت عندما أعلنت جريدة «النيويورك تايمز» الأمريكية نيتها في مقاضاة كبريات شركات التقنية القائمة على مشروعات الذكاء الاصطناعي التوليدي بحجة استخدام أرشيف معلومات الجريدة من دون الحصول على تصريح مسبق من الجريدة وحجتهم في ذلك أن تلك الشركات يجب أن تدفع للجريدة مبالغ مالية ضخمة نتيجة لاستخدام قاعدة بياناتها التي تحتوي على المئات أو الآلاف من المقالات والأخبار.

الأخبار الجيدة أن شركة «اوبن أيه آي» المالكة لمحرك تشات جي بي تي أيقنت أنها لا يمكنها الحصول على تلك البيانات إلا بعد شراء حقوقها من مالكها الحقيقي وهذا ما قامت به مؤخرا من التفاوض مع مؤسسات إخبارية مختلفة عرضت بموجبه عائدا ماديا يصل إلى خمسة ملايين دولار سنويا لترخيص محتواها، في مقابل حصولها على النفاذ التام لتلك البيانات والمعلومات المحمية أصلا بموجب قوانين النشر والطباعة، وهذا أيضا ما قاد شركة «أبل» عملاق التقنية في مسعاها لتطوير خدمات الذكاء الاصطناعي الخاصة إلى التفاوض مع ناشرين ووسائل إعلام مختلفة مثل الديلي بيست ومجلة بيبل وسي ان بي سي الإخبارية لترخيص أرشيف المحتوى الخاص بتلك الوسائل والحصول على بياناتها الصحفية والإعلامية.

قاعدة بيانات الصحف ووسائل الإعلام الأخرى أو ما كان يطلق عليه بالأرشيف الصحفي يعد اليوم ثروة حقيقية من المعلومات والبيانات يمكن البناء عليه في تحقيق مكاسب جيدة لوسائل الإعلام عن طريق بيع تلك البيانات إلى شركات التقنية الكبرى سواء أكانت محركات بحث أو مواقع إعادة بث الأخبار أو محركات الذكاء الاصطناعي أو منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي تتغذى وتقتات على ما تنشره وسائل الإعلام من منشورات وأخبار على مدار الساعة لقرائها ومتابعيها، ويمكن التنبؤ بأن المستقبل القريب حافل بالكثير من المواجهات بين المؤسسات الإعلامية خصوصا الصحفية منها وبين ما يمكن تسميته بمنصات الإنترنت المختلفة الأشكال والألوان.

ليس ببعيد عن هذه المواجهة بين الذكاء الاصطناعي والصحافة مواجهة سابقة كانت بين وسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا فيسبوك وجوجل من جهة وبين المؤسسات الصحفية من جهة أخرى حينما أعلن الطرفان عن التوصل إلى اتفاق تدفع فيه وسائل التواصل ومحرك البحث مبالغ مالية للصحف جراء استخدامها لمحتوياتها.

في منطقتنا العربية لا يزال هذا الجدل بعيدا عنا ولا نزال كصحفيين وإعلاميين بعيدين كل البعد عن تقدير ما نمتلكه من بيانات ومعلومات مخزنة في سجلات صحفنا ومواقعنا الإلكترونية ونعطي وبكل حب كل من يرغب في استغلال منجمنا الذهبي الذي نرقد عليه. قد يلزمنا الكثير من الوقت لإدراك القيمة الحقيقية لأرشيفنا الصحفي.