مع أن مؤسسة تكوين افتتحت قبل فترة بشكل غير رسمي عن طريق موقعها في الشبكة العالمية؛ إلا أنه لم يحدث ذلك الضجيج في وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما حدث في مؤتمرها الأول في المتحف المصري الكبير، والذي سمي بمؤتمر التأسيس، وقد ظهر فيه أمناء المؤسسة، وهم: يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وإسلام بحيري من مصر، وفراس السواح من سوريا، وألفة يوسف من تونس، ونايلة أبي نادر من لبنان، وقد شارك في المؤتمر مجموعة من الباحثين والناقدين وعلماء من المسلمين والمسيحيين.
والمؤتمر كعادة المؤتمرات تمر أوراق أيامها دون ضجيج، ويخلصون إلى توصيات تنشر في وسائل الإعلام، قد تتحول إلى مشروع عملي، وقد تبقى -كالعادة - في ذاكرة التأريخ، ولكن ما حدث هنا؛ أن هناك من أثار ضجيجا حول مؤسسة تماثل مسجد الضرار، هدفها نشر الإلحاد، وهدم ثوابت الدين، والتشكيك بمسلمات المسلمين، وإباحة الفواحش والمحرمات، وإنكار السنة، وأنها ممولة من جهات مشبوهة، جعلت القاهرة مقرا لها، واتخذت من اسم أول سفر في التوراة عنوانا يميزها.
ولولا هذا الضجيج لما علم الناس عن المؤسسة ولا عن مؤتمرها الأول شيئا، إلا من قبل المهتمين بالفلسفة والفكر والتنوير، ثم من حقهم النقد، وهذه حالة صحية، لكنه ليس صحيا أبدًا هذا التجييش - إن صح التعبير- الذي هو أقرب إلى العاطفة والإقصاء منه النقد والتفنيد العلمي، وهذه التهم الجاهزة، والتي تظهر الأديان ومنها الإسلام، وكأنها في حال ضعف يرثى له، وأن الإسلام سوف يسقط بالكلية لوجود مؤسسة كهذه، أو مؤتمرات تقام بين فترة وأخرى.
مع أن مصر نفسها يوجد فيها أكبر مؤسسة إسلامية في العالم، وهي مؤسسة الأزهر الشريف، وفيها من الإمكانات والأوقاف ما لا يقارن بما عند مؤسسة تكوين، فضلا عن جامعتها ومدارسها وفروعها داخل وخارج مصر، وعن منشوراتها ومطبوعاتها ومؤتمراتها الدورية، فضلًا عن المؤسسات الإسلامية والمسيحية الأخرى في مصر ذاتها، وفي غير مصر بالمئات، مع رابطة العالم الإسلامي، وهيئة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والحوزات والجامعات شرقا وغربا، فهذه تستطيع التفنيد والنقد بإمكاناتها العديدة بكل سهولة ويسر، بيد أنهم بهذا الضجيج يظهرون الإسلام أنه سوف يسقط بوجود مؤسسة أو مؤتمر له صبغة فلسفية علمانية أو حداثوية أو تنويرية في مصر أو غيرها، كما حدث سابقا مثلا مع مؤسسة (مؤمنون بلا حدود).
والضجيج فيما يبدو لي ليس مع المؤسسة كمؤسسة، فشعارها كما في موقعها «تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار، والتحفيز على المراجعة النقدية، وطرح الأسئلة حول المسلمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين»، الضجيج في نظري كان مع بعض الرموز الذين بفكرهم أثاروا شيئا من الجدل سابقا، فهو ضجيج أقرب إلى شخصنة المؤتمر أو المؤسسة من نقد ما خرج به المؤتمر ذاته، وكان على الأقل في الاتجاه المقابل لها أن يخرج من مرحلة الضجيج إلى ردات الفعل إذا كان نقديًا، وإذا لم يستطع أن يكون في مرحلة تأسيس الفعل، وهي حالة متقدمة جدا.
فالضجيج لا يجدي شيئًا من الجانبين، أو من أي جانب آخر، فهناك ضجيج أيضا يحدثه الطرف الآخر ضد اتجاهات إسلامية أو أصولية أو حركية، نراه بين حين وآخر، ولا يصح لأحد إقصاء الآخر، وكأن الفضاء ملك له، ثم لا يجوز استجداء السلطة، والأصل في الدولة أن تكون مركزية تحمي الجميع، وتترك التدافع بشكل طبيعي ليتهذب، لا ليتصارع ويتنافر.
هذا الضجيج بسلبياته وإن ظهر مناصروه البطولة فيه لا يجدي شيئا كما أسلفت، فالفكرة تتقوى وتنتشر بأي ضجيج حولها، بينما تتدافع وتتهذب إن قوبلت بالنقد والفكرة الأخرى، وفي مصر الحديثة ذاتها نماذج عديدة، فمحمد عبده اتهم بالماسونية، ومنهم من كفره ومنع من التدريس في الأزهر، وتعاونت السلطة الدينية مع السلطة السياسية لينفى خارج مصر، ثم حدث الأمر مع تلميذه قاسم أمين ورؤيته حول تحرير المرأة، وعلي عبد الرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم، ثم محمود أبو رية ورؤيته حول السنة وأبي هريرة، وخالد محمد خالد وكتابه من هنا نبدأ، وهكذا حتى طه حسين وكتابه حول الشعر الجاهلي، فذلك الضجيج ذهب كغيره، فهو أقرب إلى الهواء المرسل، وبقي ما تدافع معه نقدا وتفكيكا، لتتقبل العديد من أفكارهم المؤسسة الدينية نفسها، ومنها الأزهر فيما كتبه هؤلاء أو بعضه، ويتدافع معه حتى اليوم في حوزاتها وجامعاتها، ولهذا رفض محمود شلتوت مصادرة الكتب وما يحمله من فكر، فالكتاب يواجه بالكتاب، والفكرة تواجه بالفكرة.
ثم إطلاق التهم جزافًا عن طريق الضجيج إن كان كلامًا مرسلًا سيمر كغيره من الكلام، ولكن تهييج العقل الجمعي به من جهة، واستجداء السلطة من جهة ثانية، قد يؤدي إلى نتائج سلبية، تسجل كنقاط سلبية في تأريخ مجتمعاتنا المعاصرة، فعلي عبد الرازق أقصي وطرد من وظيفته، ونجيب محفوظ طعن في رقبته، وفرج فودة قتل وهو في طريقه ومعه ابنه الصغير، ونصر حامد أبو زيد حكم عليه بالردة، وأرادوا إبطال رابطته بزوجه ابتهال يونس.
أيضا علينا أن ندرك أن فضاء المعرفة اليوم، ومنها المعرفة الدينية ليست حكرًا على المؤسسة الدينية، وليست حكرًا على رجال بأعيانهم، ولا على مؤسسات معينة، ولو غلقنا دولنا القطرية لأي اتجاه آخر؛ فإن الفضاء اليوم لا يمكن غلقه، والعالم مفتوح على بعضه، وأصبحت في المقابل رموز عقلية لها مكانتها المعرفية والنقدية، لا يخلو منها قطر إسلامي أو عربي، ولهم حضورهم في وسائل التواصل وغيرها، فلا مفر اليوم إلا أن نعترف بالآخر، وأن نتدافع معه علميا وفكريا، وأن نتجاوز مرحلة الضجيج والتهييج السلبي وإصدار الأحكام المسبقة، وألّا ندور في دائرة الشخصنة والخوف وردات الفعل بشكل سلبي ومبالغ فيه.
والمؤتمر كعادة المؤتمرات تمر أوراق أيامها دون ضجيج، ويخلصون إلى توصيات تنشر في وسائل الإعلام، قد تتحول إلى مشروع عملي، وقد تبقى -كالعادة - في ذاكرة التأريخ، ولكن ما حدث هنا؛ أن هناك من أثار ضجيجا حول مؤسسة تماثل مسجد الضرار، هدفها نشر الإلحاد، وهدم ثوابت الدين، والتشكيك بمسلمات المسلمين، وإباحة الفواحش والمحرمات، وإنكار السنة، وأنها ممولة من جهات مشبوهة، جعلت القاهرة مقرا لها، واتخذت من اسم أول سفر في التوراة عنوانا يميزها.
ولولا هذا الضجيج لما علم الناس عن المؤسسة ولا عن مؤتمرها الأول شيئا، إلا من قبل المهتمين بالفلسفة والفكر والتنوير، ثم من حقهم النقد، وهذه حالة صحية، لكنه ليس صحيا أبدًا هذا التجييش - إن صح التعبير- الذي هو أقرب إلى العاطفة والإقصاء منه النقد والتفنيد العلمي، وهذه التهم الجاهزة، والتي تظهر الأديان ومنها الإسلام، وكأنها في حال ضعف يرثى له، وأن الإسلام سوف يسقط بالكلية لوجود مؤسسة كهذه، أو مؤتمرات تقام بين فترة وأخرى.
مع أن مصر نفسها يوجد فيها أكبر مؤسسة إسلامية في العالم، وهي مؤسسة الأزهر الشريف، وفيها من الإمكانات والأوقاف ما لا يقارن بما عند مؤسسة تكوين، فضلا عن جامعتها ومدارسها وفروعها داخل وخارج مصر، وعن منشوراتها ومطبوعاتها ومؤتمراتها الدورية، فضلًا عن المؤسسات الإسلامية والمسيحية الأخرى في مصر ذاتها، وفي غير مصر بالمئات، مع رابطة العالم الإسلامي، وهيئة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والحوزات والجامعات شرقا وغربا، فهذه تستطيع التفنيد والنقد بإمكاناتها العديدة بكل سهولة ويسر، بيد أنهم بهذا الضجيج يظهرون الإسلام أنه سوف يسقط بوجود مؤسسة أو مؤتمر له صبغة فلسفية علمانية أو حداثوية أو تنويرية في مصر أو غيرها، كما حدث سابقا مثلا مع مؤسسة (مؤمنون بلا حدود).
والضجيج فيما يبدو لي ليس مع المؤسسة كمؤسسة، فشعارها كما في موقعها «تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار، والتحفيز على المراجعة النقدية، وطرح الأسئلة حول المسلمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين»، الضجيج في نظري كان مع بعض الرموز الذين بفكرهم أثاروا شيئا من الجدل سابقا، فهو ضجيج أقرب إلى شخصنة المؤتمر أو المؤسسة من نقد ما خرج به المؤتمر ذاته، وكان على الأقل في الاتجاه المقابل لها أن يخرج من مرحلة الضجيج إلى ردات الفعل إذا كان نقديًا، وإذا لم يستطع أن يكون في مرحلة تأسيس الفعل، وهي حالة متقدمة جدا.
فالضجيج لا يجدي شيئًا من الجانبين، أو من أي جانب آخر، فهناك ضجيج أيضا يحدثه الطرف الآخر ضد اتجاهات إسلامية أو أصولية أو حركية، نراه بين حين وآخر، ولا يصح لأحد إقصاء الآخر، وكأن الفضاء ملك له، ثم لا يجوز استجداء السلطة، والأصل في الدولة أن تكون مركزية تحمي الجميع، وتترك التدافع بشكل طبيعي ليتهذب، لا ليتصارع ويتنافر.
هذا الضجيج بسلبياته وإن ظهر مناصروه البطولة فيه لا يجدي شيئا كما أسلفت، فالفكرة تتقوى وتنتشر بأي ضجيج حولها، بينما تتدافع وتتهذب إن قوبلت بالنقد والفكرة الأخرى، وفي مصر الحديثة ذاتها نماذج عديدة، فمحمد عبده اتهم بالماسونية، ومنهم من كفره ومنع من التدريس في الأزهر، وتعاونت السلطة الدينية مع السلطة السياسية لينفى خارج مصر، ثم حدث الأمر مع تلميذه قاسم أمين ورؤيته حول تحرير المرأة، وعلي عبد الرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم، ثم محمود أبو رية ورؤيته حول السنة وأبي هريرة، وخالد محمد خالد وكتابه من هنا نبدأ، وهكذا حتى طه حسين وكتابه حول الشعر الجاهلي، فذلك الضجيج ذهب كغيره، فهو أقرب إلى الهواء المرسل، وبقي ما تدافع معه نقدا وتفكيكا، لتتقبل العديد من أفكارهم المؤسسة الدينية نفسها، ومنها الأزهر فيما كتبه هؤلاء أو بعضه، ويتدافع معه حتى اليوم في حوزاتها وجامعاتها، ولهذا رفض محمود شلتوت مصادرة الكتب وما يحمله من فكر، فالكتاب يواجه بالكتاب، والفكرة تواجه بالفكرة.
ثم إطلاق التهم جزافًا عن طريق الضجيج إن كان كلامًا مرسلًا سيمر كغيره من الكلام، ولكن تهييج العقل الجمعي به من جهة، واستجداء السلطة من جهة ثانية، قد يؤدي إلى نتائج سلبية، تسجل كنقاط سلبية في تأريخ مجتمعاتنا المعاصرة، فعلي عبد الرازق أقصي وطرد من وظيفته، ونجيب محفوظ طعن في رقبته، وفرج فودة قتل وهو في طريقه ومعه ابنه الصغير، ونصر حامد أبو زيد حكم عليه بالردة، وأرادوا إبطال رابطته بزوجه ابتهال يونس.
أيضا علينا أن ندرك أن فضاء المعرفة اليوم، ومنها المعرفة الدينية ليست حكرًا على المؤسسة الدينية، وليست حكرًا على رجال بأعيانهم، ولا على مؤسسات معينة، ولو غلقنا دولنا القطرية لأي اتجاه آخر؛ فإن الفضاء اليوم لا يمكن غلقه، والعالم مفتوح على بعضه، وأصبحت في المقابل رموز عقلية لها مكانتها المعرفية والنقدية، لا يخلو منها قطر إسلامي أو عربي، ولهم حضورهم في وسائل التواصل وغيرها، فلا مفر اليوم إلا أن نعترف بالآخر، وأن نتدافع معه علميا وفكريا، وأن نتجاوز مرحلة الضجيج والتهييج السلبي وإصدار الأحكام المسبقة، وألّا ندور في دائرة الشخصنة والخوف وردات الفعل بشكل سلبي ومبالغ فيه.