الربع الأول من عام 1990م، كلفنا أنا والزميل عمر بن علي صعر من استوديوهات صلالة والمخرج سالم بن حمود الإسماعيلي، بالبرنامج الإذاعي (رحلة في الوطن العربي).. تناوب على هذا البرنامج أكثر من زميل، وعندما حان دورنا تقرر أن تكون رحلتنا إلى كل من مصر، وسوريا، والسودان، والجزائر.. طلبنا من الإذاعة أن تستخرج لنا تأشيرات للسودان والجزائر، إلا أن الإدارة اقترحت أن نبدأ الجولة من مصر وهناك نستخرج التأشيرات عن طريق سفارتنا.

ولكن بعد وصولنا القاهرة اكتشفنا أنه لا يمكن أن نحصل على هذه التأشيرات إلا من مسقط، بالصدفة كان سعادة الأستاذ حمد الراشدي وكيل الوزارة موجودا في القاهرة في مهمة عمل فاتصلنا به فاقترح علينا تعديل المسار، فبدل الجزائر والسودان نتوجه إلى الأردن وتونس اللتين لن نحتاج إلى تأشيرات لهما. تم ذلك، ولم أزر السودان والجزائر إلى اليوم.. بدأنا مباشرة من مصر التي لم أزرها منذ ثماني سنوات فكانت فرصة لاستعادة الذاكرة لأماكن وأجواء لا تنسى، ومنها إلى سوريا فتونس فالأردن.. كل حلقة عبارة عن حوار طويل مع أي شخصية نراها مناسبة ومتجاوبة في المجالات الفنية والأدبية والفكرية والثقافية عموما، لسهرات إذاعية، بهدف جمع ما لا يقل عن خمسين سهرة إذاعية. وقد تحقق لنا ذلك وعدنا باثنتين وخمسين ساعة متنوعة من الدول الأربع، وحتى من غيرها نتيجة مصادفة التقائنا ببعض الشخصيات في غير موطنها، أذكر منهم الممثل اللبناني محمود سعيد الذي صدف وجوده في الفندق نفسه الذي نقيم فيه في دمشق، وفنان عراقي التقيناه في الأردن. هذا العدد من الحلقات يكفي لبرنامج أسبوعي لسنة بالتمام والكمال.

بعد العودة بعدة شهور اشتعلت المنطقة والعالم بسبب غزو العراق للكويت وما تلاه من تصاعد في الأحداث حتى تم تحرير الكويت.. المؤسف أنه بسبب تداعيات الأزمة ولأن عُمان عضو أساسي في مجلس التعاون فقد تم تأجيل بث نصف الحلقات تقريبا وهي التي تنتمي للدول المؤيدة صراحة أو ضمنا للعراق، وقد انسحب ذلك حتى على الأغاني وما شابه، بنية أنه إجراء مؤقت تجنبا لأي استفزازات إلى أن تتجاوز المنطقة والأمة العربية تلك الظروف. لكن المؤسف أن تلك الحلقات ذهبت أدراج الرياح ولم يسأل أحد عن مصيرها، خاصة وأنها مادة خام لم تدخل المونتاج بعد..

كنا نعمل باحترافية متواضعة لا تخلو من الارتجال أحيانا، وقد اعتمدنا في توفير الشخصيات التي سنحاورها على مقترحات دوائر البرامج أو العلاقات العامة في الإذاعات التي نزورها وننزل ضيوفا رسميين عليهم، ومن يوافق نقوم مباشرة بالتسجيل معه دون أي تحضير واستعداد مسبق لضيق الوقت، وفي زمن ما قبل الإنترنت ومحركات البحث والذكاء الاصطناعي، معتمدين على معلوماتهم من ناحية وعلى مخزوننا الشخصي حسب كل شخصية محاولين أنا وعمر وسالم أن نساعد بعضنا كل بما يملك من معلومات أو متابعات.. بعض الشخصيات تشترط أجرا على المقابلة، فكنا نتجاوزها لأننا لم نزود بميزانية ندفع منها للشخصيات المستضافة.

بقيت من تلك الرحلة بعض الذكريات، أتذكر منها اللقاء بالممثلة المتألقة سلمى المصري في دمشق التي التقيناها صباحا في مبنى الإذاعة واتفقنا أن تشرفنا مساء في الفندق لإجراء المقابلة.

وعند مغادرتنا الإذاعة كان مرشدنا من العلاقات العامة طوال فترة إقامتنا شخصا وجيها مرحا لا تفارقه كلمة (رفيق) عند تحدثه مع أي شخص، وكان يحدثنا عن سلمى المصري وأحاول تجميع أكبر قدر من المعلومات عنها لأنني أنا من سيحاورها، ولم يقطع حديثه عنها إلا عندما فتح باب المصعد المزحوم في أحد الطوابق وأرادت فتاة حسناء الدخول، ولكن لا مجال فقالت بذوق: (شكرا لا ندايئكون) - أي لا نضايقكم- ولم تدخل. همست للرفيق مازحا متغزلا، مستخدما اللهجة السورية: (ايه والله ما بندايء).

وأصبحت هذه العبارة لزمة للمزاح بيني وبينه. فاستأنف هذا الرفيق حديثه وقال لنا: إن زوجها يعمل ضابطا في جمارك المطار، ويمكن أن يسهل لنا أمر مغادرتنا. قلت في نفسي أووو جيد إذا سنوثق علاقتنا بمدام سلمى اليوم، لأنني أنوي شراء بعض القطع السورية التقليدية التي ربما تزيد عليّ الوزن.. في المساء جاءت الفنانة سلمى المصري برفقة زوجها، وبدأنا نجري الحوار، فيما جلس زوجها الذي لا تبدو عليه الشخصية العسكرية على مسافة بسيطة عنها، ولأن الحوار يستعرض مسيرتها الفنية فطبيعي أن أسألها عن البدايات وهل واجهت أي معارضة أو تحفظات اجتماعية؟ فكان ردها الصاعق لي عندما قالت إن من أشد المؤيدين والداعمين لمسيرتها هذا الرجل الجالس معنا (زوجي المخرج شكيب غنام)!!! ياااا إلهي ما هذه الورطة؟ أنا أعرف المخرج شكيب غنام ومعجب حتى باسمه، ولكن لا أحفظ شكله. إذا كيف قال لي الرفيق إن زوجها يعمل ضابطا في المطار، ولم يذكر حتى اسمه!! لقد ورطني حقا، وكان الأولى أن أشركه في اللقاء أو أن أكسبه لحلقة خاصة به.. سرحت ثواني أستجمع فيها تشتتي لأرقع الموقف، فقلت للمستمعين إن المخرج المبدع شكيب غنام موجود هنا بيننا، ولكنه فضل الجلوس مستمعا، إلا أنني سأدخل عليه بلا استئذان، فوجهت له السؤال لإعطاء المستمع شهادته وعلاقته بسلمى المصري. ولكن الرجل لم تنطلِ عليه، إلا أنه لم يشأ أن يحرج هذا المذيع العشريني في العمر، فمررها بتلميح قائلا ما معناه: إن المذيعين الأذكياء مثلك يحسنون التصرف وإجراء الحوارات، وأدلى بدلوه.. لم يهدأ لي بال حتى أفرغ غيظي على (الرفيق)، الذي سألته معاتبا فور مغادرتهما: ما هذا الإحراج الذي أوقعتني فيه؟ كيف تقول لي إن زوجها ضابط في المطار بينما زوجها هو المخرج الشهير شكيب غنام؟!! فكان رده: (أنا ما كنت بحكي على زوج الست سلمى، أنا كان قصدي زوج اللي شفناها بالمصعد «لا ندايأكُن»).

الموقف الآخر الذي أتذكره، ولكن بمسحة حزينة كان في تونس، التي التقينا فيها بعدد من الشخصيات الفنية وغيرها، من ضمنهم الفنان أحمد حمزة صاحب الأغنية الشهيرة (جاري يا حمودة) التي اشتهرت بها أيضا الفنانة (عليا التونسية) وقد تحدث عن قصة الأغنية- التي كانت تبثها التلفزيونات والإذاعات العربية كثيرا- بأنها عبارة عن أهزوجة شعبية سمعها في أحد الأحياء الشعبية (جاري يا حمودة، يا جاري دبّر عْليّا، الناس تبات رقوده وانا النوم حرم عليا) وبنى عليها باقي الكلمات.. كما قام الزميل عمر صعر بتسجيل سهرة مع الفنانة عليا التونسية التي التقيناها وقد كبرت، أو هكذا بدت في عيوننا لأننا في العشرينات من أعمارنا، إلا أنها كانت بنشاط شابة صغيرة بشوشة مشرقة.. وفي نفس الوقت كنت أسجل مع مطربة صاعدة ومدهشة هي (سُنيا مبارك) المتمسكة بالمدارس الكلاسيكية للغناء العربي والفرنسي على السواء.. بتاريخ 20/مارس/1990/م، بعد لقاء عليا التونسية بثلاثة أيام فقط كنا في العاصمة الأردنية عمّان، آخر محطات الرحلة، وإذا بأحد المسؤولين في الإذاعة الأردنية يسألنا: هل التقيتم بعليا التونسية في تونس؟ قال عمر: نعم، وأجريت معها حوارا ممتعا. فناوله جريدة ذلك اليوم لنتفاجأ بخبر وفاة الفنانة عليا التونسية إثر أزمة قلبية لم تمهلها.. لذلك نعتقد أن آخر حديث إذاعي لعليا التونسية هو ذلك الذي أجريناه لإذاعة سلطنة عمان، قبل وفاتها بيوم أو يومين.