لا قواعد تحكم العالم إلا غطرسة القوة، ومن يملك القوة يستطيع بكل بساطة أن يدوس على كل القوانين والأنظمة والمبادئ التي يُوهم الجميع أنه يُقدسها ويُدافع عنها حتى الرمق الأخير، أمّا القيم فلا مكان لها عند أغلب الأنظمة السياسية التي تتحكم اليوم في مصاير العالم، سقطت تلك القيم من حسابات الفاعلين السياسيين، أو أغلبهم على الأقل، وضاع خلال ذلك مفهوم العدل والمساواة وحقوق الإنسان.. إلخ، ولذلك لا ينتظر أحد في العالم أن تنتصر له عدالة النظام العالمي، فهذا نظامٌ، العدلُ فيه هو مصلحة الدول الكبرى وحدها، وأينما كانت تلك المصلحة رفع النظام العالمي قميص حقوق الإنسان وحرية التعبير وحقوق الأقليات.

وإذا كانت هذه الحقيقة مفهومة منذ عقود طويلة فإن الحرب على غزة كشفتها، بل فضحتها أمام الجميع ودون أي مواربة، وأصبحت أوراق الجميع فوق الطاولة تمامًا. ولم تتعلم الدول الكبرى بما في ذلك الدول الأوروبية مما حدث في الحربين الكونيتين التي سُفِكت فيهما دماءٌ كثيرةٌ، وتحولت خلال تلك الحربين مصاير دول وإمبراطوريات كبرى من ذروة المجد إلى قاع الهوان والسيطرة ولو إلى حين.

وبعد قرابة ثمانية عقود على صمت مدافع الحرب العالمية الثانية، وانقشاع الغبار النووي الذي خلفته قنبلتان ذريتان رمت بهما أمريكا على اليابان، وانتحار أودلف هتلر الذي يصادف هذا اليوم السابع من مايو، وتعاهد الحلفاء والمحور لاحقًا على عدم العودة إلى مثل هذه الحروب الدموية ما زالت الدماء تسيل في الكثير من دول العالم، وتسيل بشكل كثيف ومؤسف في غزة التي تتعرض لأبشع عملية إبادة جماعية أمام مرأى ومسمع العالم، بل إن دول العالم الكبرى، وفي مقدمتها أمريكا، تمد السفّاح المحتل بأقذر أنواع الأسلحة التي تفتك بالفلسطينيين أطفالا ونساء بشكل فظيع جدًا لا يمت إلى أي مستوى من مستويات الإنسانية. لكنها غطرسة القوة عندما تصادف الأحقاد التاريخية والدينية، وتظهر الوجه الحقيقي للتوحش «الحضاري» الحديث.

ورغم مقتل أكثر من 34 ألف فلسطيني وفقد أكثر من 10 آلاف آخرين ما زالوا تحت الأنقاض وإصابة أكثر من 80 ألف فلسطيني بإصابات بليغة ستقود أغلبهم إلى الموت البطيء في ظل انهيار المنظومة الصحية الفلسطينية، وحصار القطاع بالنار والجوع إلا أن المذابح ما زالت مستمرة بالمستوى الهمجي نفسه الذي بدأت به. وما زال الجسر الجوي الأمريكي الذي يُغذي المحتلّ بالأسلحة مستمرًا ولم يتوقف، بل إن إمداداته في ازدياد مع اقتراب موعد اجتياح مدينة رفح التي يتوقع مراقبون أنها ستشهد أحد أعظم المذابح في التاريخ فيما لو نفذت قوات الاحتلال مخططاتها الخبيثة.

ولا أحد يستطيع فعل شيء إلا التنديد والاستنكار، فمن يَملك القوة يدعم ما يحدث، إنْ لم يدعمه في العلن فإنَّه يدعمه في الخفاء، ويؤكد دعمه بالسلاح والسياسة.

أما الفلسطينيون فإنهم يعيشون أكثر من مأساة في آنٍ واحدٍ، ولعلّ أعظم تلك المآسي وأفظعها هي مأساة الخذلان التي يشعرون بها، فرغم وحشية ما يحدث تركهم الجميع وحدهم في مواجهة عمليات إبادة ممنهجة وخطيرة، وجدوا أنفسهم في مواجهة أعتى أنواع الأسلحة، وأخطر أحقاد التاريخ، وأكثر أُناسه توحشًا ورغبةً في سفك الدماء.