الكتابة عن الموت هي نفسها الكتابة عن الحياة بشكل أو بآخر، إذ تحل الكلمات والمآثر محل الدموع والأحزان، لذا فإن الكتابة عن الراحلين لا يعني التذكير بما يعنيه فقدهم ورحيلهم. هنا أجد نفسي ملزما بالتذكير بالمطرب الشعبي التونسي بلقاسم بوقنة (1963-2024) الذي وافته المنية في مستشفى قبلي منذ يومين بعد معاناة مع مرض مزمن. تعرفت إلى صوت فنان الجنوب، كما يُعرف في تونس، أثناء إقامتي في الخضراء بين عامي 2005 و2008، إذ لامست أغانيه ذات الطابع الصحراوي شيئا في ذاتي، خاصة أغنية (يا والدة) التي كتب كلماتها الشاعر الشعبي التونسي أحمد البرغوثي (ت 1934)، وتقول كلماتها:
«يا والدة كانك علي دماعة.. بالفاتحة ما تغفلي ساعة
ما تغفلي مضنونك.. كانه عليك يعز كيف عيونك
وادعيلنا بصحة البدن يصونك.. وقتن تحطي جبهتك في القاعة
يا والدة حالو على دونك.. فجوج موحشة تصعب على القطاعة»
كما أعجبت بأغنيته «على الله يا أم العيون الجميلة كوني خليلة، الخلوق يا بنت صبحت عليلة» وكذلك أغنيته «عندي سبعة سنين» التي كتب كلماتها الشاعر محمد الطويل المرزوقي (ت 1990)، تقول كلماتها:
«عندي سبع سنين تعدوا خلوقي فدوا.. مكاتيبي هزّوا ما ردوا
عندي سبع سنين روحي.. هزوا ما ردوا مكاتيبي
من الغربة يا عيني نوحي.. ويا دمعة عل خدي سيبي»
كانت أغانيه تذاع في الإذاعة الوطنية التونسية ويسمعها الناس في سيارات الأجرة، وتُسمع أكثر في المناطق الصحراوية، وخاصة في مدينته «دوز» المعروفة بمهرجانها الصحراوي، وقد حضرت فعالياته في شتاء 2005، برفقة أصدقاء لا يزالون في الذاكرة مهما تباعدت المسافات وفرقتنا السنون. وكنتُ قد قرأتُ عن مهرجان «دوز» في مجلة العربي الكويتية في العدد (532) عام 2003 في استطلاع مصور من إعداد الكاتب أشرف أبو اليزيد (60 عاما) الذي افتتح استطلاعه قائلا:
«في معجم الصحراء ألف معنى ومعنى، تغوص في كثبان من المفردات التي تحتضنها ثقافتنا العربية، ليس أولها: الخيل والليل والبيداء، ولن يكون آخرها جلمود صخر حطه السيل من عل. لكن الصحراء التي ترتكن في قواميس اللغة إلى ترادفها مع الأرض الفضاء الواسعة فقيرة الماء، نادرة النبات، تمتلك في (دوز) في الجنوب الغربي من الجمهورية التونسية مفرداتها الخاصة، وشروحها الأكثر خصوصية. ولعل مهرجان المدينة السنوي الذي تمتد جذوره إلى عام 1910، يحاول أن يؤصل هذه المعاني الخالدة، المتجددة الروح، الباذخة العطاء».
في هذا المهرجان تعرفت على روح الصحراء التونسية ودفء سكانه في شتاء قارس، وتعرفت أيضا على أهم شعراء دوز الشعبيين أمثال الشاعر المرحوم علي الأسود المرزوقي (ت 2014) صاحب المقطع الشعري:
«لا تفكر في ربيع عربنا ربيع الغُبن.. ربيع غرقت فيه مراكبنا
لا تفكر في ربيع الهم ربيع الدّم.. ربيع أمطاره صبت سم
ربيع يندب ويحمّم ومعطبنا.. بركنا على لركاب ضربنا».
وقد سمعت عن الشاعر المذكور عن طريق ابنه محمد الذي كان معلمًا للغة العربية في إحدى مدارس تعليمية ظفار، وقد عرّفني على أنبل الأصدقاء في تونس منهم ابن عمه عمر المرزوقي، الكاتب والصحفي عادل الحاج سالم -شفاه الله وعافاه- وأصدقاء آخرين يصعب حصرهم.
مكثت في «دوز» عدة أيام في العطلة المدرسية الشتوية، تمكنت خلالها من فهم طبائع أهل الجنوب التونسي ونبل أخلاقهم وتكاتفهم، وبعد أن أتقنت اللهجة التونسية كان الزملاء والأصدقاء يقدمونني لمن يتساءل على أنني مرزوقي من «دوز».
اقتربت أكثر من الفنون التونسية الصحراوية في المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي، حيث يقدم الطلبة مشروعات تخرجهم عن بعض ألوان الفنون الشعبية تحت إشراف أساتذة مختصين في الأنثروبولوجيا الثقافية منهم الدكتور حفناوي عمايرية، الذي درّسنا مادة بالعنوان ذاته.
هكذا أعادتني وفاة بلقاسم بوقنة إلى ذاكرة غنية وحياة كاملة عشتها في تونس بدفئها الحميم وصداقاتها المبهجة، ومثل هؤلاء يستحقون أن نتذكرهم دائما؛ لأنهم أثثوا الذاكرة من حيث يدرون ولا يدرون.
محمد الشحري كاتب وروائي عماني
«يا والدة كانك علي دماعة.. بالفاتحة ما تغفلي ساعة
ما تغفلي مضنونك.. كانه عليك يعز كيف عيونك
وادعيلنا بصحة البدن يصونك.. وقتن تحطي جبهتك في القاعة
يا والدة حالو على دونك.. فجوج موحشة تصعب على القطاعة»
كما أعجبت بأغنيته «على الله يا أم العيون الجميلة كوني خليلة، الخلوق يا بنت صبحت عليلة» وكذلك أغنيته «عندي سبعة سنين» التي كتب كلماتها الشاعر محمد الطويل المرزوقي (ت 1990)، تقول كلماتها:
«عندي سبع سنين تعدوا خلوقي فدوا.. مكاتيبي هزّوا ما ردوا
عندي سبع سنين روحي.. هزوا ما ردوا مكاتيبي
من الغربة يا عيني نوحي.. ويا دمعة عل خدي سيبي»
كانت أغانيه تذاع في الإذاعة الوطنية التونسية ويسمعها الناس في سيارات الأجرة، وتُسمع أكثر في المناطق الصحراوية، وخاصة في مدينته «دوز» المعروفة بمهرجانها الصحراوي، وقد حضرت فعالياته في شتاء 2005، برفقة أصدقاء لا يزالون في الذاكرة مهما تباعدت المسافات وفرقتنا السنون. وكنتُ قد قرأتُ عن مهرجان «دوز» في مجلة العربي الكويتية في العدد (532) عام 2003 في استطلاع مصور من إعداد الكاتب أشرف أبو اليزيد (60 عاما) الذي افتتح استطلاعه قائلا:
«في معجم الصحراء ألف معنى ومعنى، تغوص في كثبان من المفردات التي تحتضنها ثقافتنا العربية، ليس أولها: الخيل والليل والبيداء، ولن يكون آخرها جلمود صخر حطه السيل من عل. لكن الصحراء التي ترتكن في قواميس اللغة إلى ترادفها مع الأرض الفضاء الواسعة فقيرة الماء، نادرة النبات، تمتلك في (دوز) في الجنوب الغربي من الجمهورية التونسية مفرداتها الخاصة، وشروحها الأكثر خصوصية. ولعل مهرجان المدينة السنوي الذي تمتد جذوره إلى عام 1910، يحاول أن يؤصل هذه المعاني الخالدة، المتجددة الروح، الباذخة العطاء».
في هذا المهرجان تعرفت على روح الصحراء التونسية ودفء سكانه في شتاء قارس، وتعرفت أيضا على أهم شعراء دوز الشعبيين أمثال الشاعر المرحوم علي الأسود المرزوقي (ت 2014) صاحب المقطع الشعري:
«لا تفكر في ربيع عربنا ربيع الغُبن.. ربيع غرقت فيه مراكبنا
لا تفكر في ربيع الهم ربيع الدّم.. ربيع أمطاره صبت سم
ربيع يندب ويحمّم ومعطبنا.. بركنا على لركاب ضربنا».
وقد سمعت عن الشاعر المذكور عن طريق ابنه محمد الذي كان معلمًا للغة العربية في إحدى مدارس تعليمية ظفار، وقد عرّفني على أنبل الأصدقاء في تونس منهم ابن عمه عمر المرزوقي، الكاتب والصحفي عادل الحاج سالم -شفاه الله وعافاه- وأصدقاء آخرين يصعب حصرهم.
مكثت في «دوز» عدة أيام في العطلة المدرسية الشتوية، تمكنت خلالها من فهم طبائع أهل الجنوب التونسي ونبل أخلاقهم وتكاتفهم، وبعد أن أتقنت اللهجة التونسية كان الزملاء والأصدقاء يقدمونني لمن يتساءل على أنني مرزوقي من «دوز».
اقتربت أكثر من الفنون التونسية الصحراوية في المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي، حيث يقدم الطلبة مشروعات تخرجهم عن بعض ألوان الفنون الشعبية تحت إشراف أساتذة مختصين في الأنثروبولوجيا الثقافية منهم الدكتور حفناوي عمايرية، الذي درّسنا مادة بالعنوان ذاته.
هكذا أعادتني وفاة بلقاسم بوقنة إلى ذاكرة غنية وحياة كاملة عشتها في تونس بدفئها الحميم وصداقاتها المبهجة، ومثل هؤلاء يستحقون أن نتذكرهم دائما؛ لأنهم أثثوا الذاكرة من حيث يدرون ولا يدرون.
محمد الشحري كاتب وروائي عماني