«سافرت عصر المسا وانويت فرقاهم

يا نوخذا بالوصل ما أطيق فرقاهم

دموع عيني تهل وتنوح فرقاهم

الله ما أسلا وقلبي صوبهم رايح

يا بن حمد شاقني ظبي رتع رايح

يا زين حسنه عجبني وإن مشى رايح

ما ألوم أنا من شكى من طول فرقاهم»

تشرفت بدعوة كريمة من المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا، لحضور «مسابقة نهام الخليج» في دورتها الرابعة في مدينة الدوحة بدولة قطر في الفترة من 26 إلى 30 أبريل 2024، وكذلك الندوة التي نظمتها المؤسسة على هامش هذه المسابقة وكانت بعنوان: التفكير المستقبلي في قضايا التراث الغنائي البحري: النهمة نموذجا «.

وهذه الفعالية المستمرة منذ عدة سنوات تشرف عليها سلمى النعيمي، وهي كما عرّفتنا بنفسها فنانة تشكيلية قطرية، دفعها قلقها على اندثار النهمة إلى أن تبادر بالدعوة لإقامة هذه الفعالية، بمساندة كاملة وكبيرة من المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا.

اللافت في الأمر هو العدد الجيد جدا من المشاركين في المسابقة، وكذلك الحضور الذي شمل جميع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بالإضافة إلى الجمهورية العراقية. ومن المعلوم أن نهمة قطر والبحرين والكويت وهي موضوع المسابقة تختلف عن تلك التي في عُمان والإمارات والعراق، ولكن مع ذلك جذبت هذه المسابقة متنافسين من هذه البلدان، لذلك تمنيت لو شارك أو حضر أشخاص متنافسون وباحثون من الجمهورية اليمنية صاحبة التراث الغنائي المشترك مع جميع أقطار الخليج والقاعدة الاجتماعية والثقافية الكبيرة في الجزيرة العربية.

منذ أجيال عديدة تغيرت أساليب الحياة الاجتماعية في كل المنطقة من الكويت شمالا إلى صلالة جنوبا والبحر الأحمر غربا، ورحلات الغوص عن اللؤلؤ في الخليج انقطعت تماما منذ فترة زمنية طويلة، والسفن الشراعية لم تعد تسافر من بحر عُمان نحو الشرق والغرب، وعبور الصحاري على ظهور الجمال لم يعد كذلك هو الآخر.

لقد كان الإنسان على مر العصور والقرون يكابد قساوة ومخاطر وسائل التنقل القديمة وطول مدتها في ظروف أقل ما يقال عنها إنها خطيرة، ولتقليل حدة المعاناة كان الغناء عونا للبحارة ووسيلة تعبيرية وترويحية. غير أن الحال تغير تماما، ولكن ظلت «النهمة» وفنون البحر الغنائية محفوظة من قبل المعاصرين لتلك الظروف، إلا أن هذا ليس ضامنا لتوارثها واستمرارها، فواجهت تحديات عدم الإقبال عليها وتوارثها من الأجيال الجديدة، وهذا هو واقع الكثير من فنون الغناء التراثية الوظيفية وبشكل خاص فنون العمل الغنائية. من هنا ربما جاء عنوان الندوة التي استمرت على مدى يومين، وكانت فرصة طيبة للحوار بشأن سبل المحافظة على «النهمة» التي بدأت تنقرض في بعض مواطنها الأصلية.. وفي جميع الأحول لن نذهب للمستقبل مع كل التراث الغنائي، فالكثير منه فَقَد وظيفته الأصلية.

من هنا، لا بد من وسائل جديدة للمحافظة على هذه الفنون الغنائية وجذب ممارسين جدد لها من داخل مواطنها الأصلية أو من خارجها، وهذا مفهوم جديد طرحته هذه المسابقة عندما وسع المنظمون دائرة المشاركين إلى دول لا يمارس فيها هذا النوع من الغناء البحري، كعُمان والإمارات والعراق.

وهكذا، وكما ذكرت سابقا في أكثر من مناسبة لن تستطيع هذه الأنماط الغنائية التراثية البقاء، إلا في ظل ابتكار وسائل جديدة لتوارثها وممارستها وإدارة هذا التغير بالاستبدال الوظيفي كما سميته في كتابي: « الدليل المصور لأنماط الموسيقى التقليدية وآلاتها»، وهذا يعني لعب دور وظيفي جديد في ظروف الحياة المعاصرة. ورغم ذلك لن يكون بوسعنا المحافظة عليها جميعها، وفي حالة مثل عُمان صاحبة التراث الغنائي الهائل والمتنوع لا بد من الانتخاب والتصنيف، ذلك أن بعضها ستكون مناسبة لوظائف جديدة كالمسابقات والفعاليات السياحية والثقافية أو للتعليم بجميع مراحله وغير ذلك، أما بعضها الآخر فلن تلبي هذه الاحتياجات المستجدة لأسباب كثيرة، منها على سبيل المثال وربما الأهم اختلاف توجهات واحتياجات الأبناء والأحفاد الثقافية والفنية والجمالية عن آبائهم وأجدادهم. إن اختلاف ظروف المعيشة تفرض نفسها على انتخاب أنماط الغناء، وهؤلاء الأبناء والأحفاد الذين يراد توريثهم هذه الفنون الغنائية التراثية سيجدون صعوبة وربما رفض أدائها لأسباب كثيرة.. ولكن يبقى التوثيق العلمي لكل التراث الغنائي هو الأمر الأهم في جميع الأحوال، فهذا التوثيق يفيد مجالات معرفية وموسيقية عديدة ومنها المعرفة بالهُوية الثقافية، وما سوف يفرزه مستقبلا التعليم الموسيقي في عُمان وبلدان الخليج سيكون حتما مختلفا تماما، وقد استمعنا إلى مؤلفات موسيقية قدمها أبناء هؤلاء البحارة والبدو تحاكي التأليف الموسيقي الغربي الكلاسيكي وغير الكلاسيكي، وهذا واحد من التوجهات الموسيقية التي بدأت تبرز في المنطقة في السنوات الأخيرة إلى جانب أساليب الغناء الطربي المحلي والعربي.

ملاحظة: مصدر نص الزهيرية (مسبع) في مطلع المقال مقتبس من كتاب: « الفجري وفنون العمل على ظهر السفينة في قطر» جمع وإعداد محمد ناصر الصايغ.

مسلم الكثيري موسيقي وباحث