في الذكرى الثالثة والثلاثين لرحيل موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب (توفي في 4 مايو 1991م) يطيب لي أن أتناول موضوعًا قلّما كان موضع ترحيب من عشاق هذا الفنان الكبير، الذي من نافل القول وصْفُه بأنه أحد مجددي الموسيقى العربية، ومن أهم من اشتغل بها في القرن العشرين، ولا يُنكر أهميتَه فيها إلا جاحد. لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال غض الطرف عن انتحالاته الموسيقية التي أجدني وأنا أتأمل حكاياتها أتساءل: لماذا يسقط موسيقيّ وملحن عبقري (ولا أكتفي بوصف موهوب) في درك الانتحال إذا كان قادرًا طوال مسيرته الفنية على تقديم روائع لحنية من قبيل «أنت عمري» أو «الجندول» أو «الروابي الخضر» أو «كليوباترا» أو «أغدًا ألقاك»!

لعل أول سرقة يُتّهم بها موسيقار الأجيال هي مقدمة «جفنه عَلَّم الغزل» عام 1933 التي يقف المرء مذهولًا أمام جمالها اللحني ليكتشف فيما بعد أنه نقلها من مقدمة الأغنية الكوبية «بائع الفول السوداني» (El Manisero)، للموسيقار الكوبي دون أبيازو عام 1930.

الأمر نفسه حدث مع أغنية «يا مسافر وحدك» التي غناها عبدالوهاب في فيلم «ممنوع الحب» المُنتَج عام 1942م، والتي اتضح أن لحنها مسروق من أغنية تُدعى «poso laypamai» (آسفة بشدة) للمطربة اليونانية صوفيا فيمبو، ورغم أن هاتين السرقتين حدثتا وهو في مقتبل العمر ما يُمكن أن يَلتمس له البعضُ عذرًا، لكن الثابت أن هذه الاتهامات بالسرقة ظلت تلاحقه طوال مسيرته الفنية، أي حتى عندما صار فنانًا كبيرًا ملء السمع والبصر.

غير أن أشهر سرقات عبدالوهاب الفنية وردتْ في مقال لصحيفة «السياسة» الكويتية نُشِر في 28 يونيو 1979 (ونقلتْه عنها بعد ذلك عدة صحف عربية) يقول: إن منظمة اليونسكو نشرت في ذلك العام قائمة من ثلاث عشرة «سرقة» استولى عليها عبدالوهاب من موسيقى غيره، ومن هذه السرقات لحن أغنية «أحب عيشة الحرية» و«طول عمري عايش لوحدي» المأخوذان من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن والمعروفة باسم القدر، وموسيقى «النيل نجاشي»، و«النهر الخالد» المأخوذتان من إحدى افتتاحيات تشايكوفسكي، وأغنية «القمح الليلة» المأخوذة من إحدى مقطوعات تشايكوفسكي أيضًا. ومقطع «كان عهدي وعهدك في الهوى» من أغنية «أهون عليك» المأخوذ من أوبرا عايدة لفيردي، وأغنية «يا اللي نويت تشغلني» المأخوذة من أوبرا ريجوليتو لفيردي أيضًا، وأوبريت «مجنون ليلى» مع أسمهان المأخوذ من أوبرا "شمشون ودليلة» لكامي سان صانز، ولحن أغنية «سجى الليل» المأخوذ من «رقصة العبيد» لكورساكوف.

وقد انبرى كثيرون للدفاع عن موسيقار الأجيال، أهمهم الموسيقار اللبناني سليم سحاب الذي كتب بعد نحو ثلاثة أشهر من مقال جريدة «السياسة» مقالين في الدفاع عنه نُشِرا في صحيفة «السفير» اللبنانية يومي 16 و30 سبتمبر 1979م، وقد استند في دفاعه (الذي لم يقنعني) إلى أن ظاهرة الاقتباسات الفنية شائعة منذ القدم، وهي موجودة أيضًا في الفن الغربي، ولو افترضنا أن عبدالوهاب -على سبيل المثال- قد أخذ موسيقى «أحب عيشة الحرية» من بداية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، فإن الشائع أن بيتهوفن نفسه قد اقتبسها من رقصة إيطالية في أوبرا «ترانتيلا» من القرن السادس عشر، وكذلك كان الأمر مع باخ وموتسارت وغيرهم الذين أخذوا العديد من موضوعات أعمالهم من آخرين، ولكنهم بنوا وطوروا عليها.

ويبدو أن سحاب اختار لحن «أحب عيشة الفلاح» كمثال لأن عبدالوهاب نفسه قد اعترف بسرقته في حواره لتلفزيون لبنان عام 1966 مع المذيعة ليلى رستم.

وقد كانت جرأة تُحسبُ لها أن تطرح عليه هذا السؤال في ذلك الوقت وهو في قمة شهرته الفنية، قالت ليلى: «ما أكثر ما كُتِب عن اقتباس عبدالوهاب، ونقل عبدالوهاب لموسيقى الآخرين» فقاطعها: «وسرقة عبدالوهاب!»، فأكملتْ سؤالها وهي تضحك: «أين يقف الاقتباس وتبدأ السرقة؟ وهل هناك موازين معينة يمكن الحكم من خلالها؟» فشرع الفنان الكبير يشرح لها ولمشاهديها أنّ أخْذ جملة موسيقية ووضعها في اللحن يسمى نقلًا، ووفقًا للمعيار الذي وضعته جمعية الموسيقيين (وهي مؤسسة فرنسية عالمية تأسست 1850، تهتم بحماية حقوق الملكية الفكرية الخاصة بالموسيقى والشعر) لتقدير حالات السرقة اشترطت نقل أربع موازير كاملة. ثم يعلق على هذا الشرط الذي وضعته الجمعية بالقول إنه شرطٌ خاطئ، «لأن العبرة بصدارة الحتة (الجملة الموسيقية)، وبشخصيتها، فمن الممكن أن تتكون الحتة من مازورة أو اثنتين لكن شخصيتها تشعرك بأنها مأخوذة بالكامل»، فلو أن أحدًا أخذ شيئًا كهذا ولم يذكر اسم صاحب الجملة الموسيقية فلا شك أنه ناقل»، هنا باغتته ليلى بسؤال: «عملت أنت حاجة زي كدة؟» فأجاب: «عملت. في أول حياتي» وضرب لها مثلًا بمقطع من «أحب عيشة الحرية» المأخوذة من بيتهوفن، و«يا ورد مين يشتريك» التي اقتبسها من فلكلور روسي. ويصف عدم ذكره حينها للأصل المقتبس منه بأنها «حركة بايخة مني، كان لازم أقول»!

لكن الثابت من وقائع كثيرة أن موسيقار الأجيال لم يكتفِ بالانتحال في بداية حياته فقط، بل تُروى عنه حكايات السرقة وهو في عزّ مجده الفني. على سبيل المثال تنقل رتيبة الحفني في كتابها «محمد عبدالوهاب: حياته وفنه» حكاية رواها الناقد الفني المصري طارق الشناوي في مقال له بمجلة «روز اليوسف» في 13 مايو 1991م، وهي أن الموسيقار محمد الموجي حكى له عن لقائه الأول بعبدالوهاب وذلك بعد أن استمع إلى أول ألحانه «صافيني مرة» وطلب عبدالوهاب من الموجي أن يسمعه بعض ألحانه الأخرى فعزف على العود أغنية «أكتب لك جوابات واستنى ترد عليه»، ورشح له عبدالوهاب ليلى مراد لتغني هذا اللحن، وبعد ذلك أسمعه الموجي لحنًا آخر ولكن عبدالوهاب لم يرشح أحدًا لغنائه.

ويضيف الشناوي: لم يمض على هذه الواقعة أكثر من أسبوع إلا ووجد محمد الموجي أن لحنه يغنيه عبدالوهاب بصوته ولكن بكلمات أخرى كتبها الشاعر حسين السيد، حيث تغيرت كلماته إلى «أحبك وأنت فاكرني وأحبك وأنت ناسيني». وغضب الموجي وواجه عبد الوهاب بما فعل، فكان رد موسيقار الأجيال بالغ الطرافة: «إن الأب عندما يعجب بكرافات (ربطة عنق) من أحد أبنائه، فإن من حقه أن يستعيره»! ومنذ ذلك الحين - يضيف الشناوي - والموجي لا يُسمِع عبدالوهاب أي لحن له قبل أن يقدمه للناس.

وفي الكتاب نفسه (محمد عبدالوهاب: حياته وفنه) تنقل رتيبة الحفني حكاية انتحال أخرى لعبدالوهاب رواها في العدد نفسه من «روز اليوسف» (عدد 13 مايو 1991) الناقد الفني المصري عصام زكريا: «عندما تقدم مع 45 مرشحًا بنشيد قومي للثورة، واختير نشيده، أقنع الدكتور حسين فوزي اللجنة بأن موسيقى هذا النشيد مسروقة من مقطوعة للموسيقار الإنجليزي [إدوارد] إلجار فحجبت الجائزة عنه رغم إعلان الصحف عن فوزه».

أما الكاتب المصري الراحل مكاوي سعيد فيخصص فصلًا في كتابه «القاهرة وما فيها» عنوانه «انقلاب السكرتير على المدير»، والسكرتير المقصود هنا رؤوف ذهني الملحن المصري الذي كان يشغل وظيفة سكرتير محمد عبدالوهاب، ومختصر الحكاية هو أن الصحفي محمد تبارك أجرى حوارًا لمجلة روز اليوسف مع رؤوف ذهني في نهاية عام 1956 بعنوان مثير: «رؤوف ذهني يصرخ: سرقني عبدالوهاب». ويقول إنه صاحب ألحان «بنت البلد» و«أيه ذنبي أيه»، عبدالوهاب ورؤوف ذهني في قسم الأزبكية»!! وخلال الحوار يزعم ذهني أن 70% من ألحان أفلام عبدالوهاب هو الذي وضعها (أي ذهني)، بل ويذكر المبالغ التي تلقاها مقابل هذه الألحان. ومنها ألحان «سألت عليّ»، و«دوس ع الدنيا» و«اللي يقدر على قلبي» (ما عدا المقطع الأخير منها) في فيلم «عنبر» وتقاضى عليها 150 جنيها، وأغنيات فيلم «غزل البنات»: «أبجد هوّز» و«عاشق الروح» والنصف الأول من أغنية «الحب جميل» التي شدت بها ليلى مراد في الفيلم، التي تقاضى عنها ذهني سيارة فورد آخر موديل حينئذ (1949)، وأضاف رؤوف ذهني إلى سرقات عبدالوهاب أغنيات فيلم «لستُ ملاكا» ومجموعة من أغنيات عبدالوهاب الإذاعية، وعددا من المقطوعات الموسيقية! وقد غضب عبدالوهاب من هذا الحوار ودفع لرؤوف ذهني 4000 جنيه في مقابل «تعهّد» يعترف فيه أنه لم يسبق له أن لحن أي شيء للأستاذ عبدالوهاب! لكن رؤوف ذهني عاد من جديد ونشر في مجلة «الوادي» في عام 1983 -أي قبل وفاته بعامين- مقالا تحت عنوان «أنا والعذاب ومحمد عبدالوهاب». وبعد أن توفي عبدالوهاب بعام واحد رفعت سنية محمود السعيد -أرملة رؤوف ذهني- قضية أمام محكمة جنوب القاهرة عام 1992 تطالب فيها بحقها الأدبي والعيني في أربعين أغنية لعبدالوهاب، وذلك بدعوى أن تلك الأغاني هي من تلحين زوجها وأن عبدالوهاب نسبها إلى نفسه، وقالت في دعواها إنها تعترف بأن زوجها كان قد حصل من عبدالوهاب على مقابل لتلحينه تلك الأغنيات، لكنها أتت الآن لتطالب بحقها كوارثة لزوجها في حق الأداء العلني عن هذه الأغاني.

مما تقدّم لا يمكن أن تكون كل هذه القصص والحكايات في أكثر من مصدر، ومن أكثر من شاهد، مجرد إشاعات مغرضة، أو مؤامرات من حزب أعداء النجاح، كما حاول الموسيقار سليم سحاب أن يبرر. وقد شدّني في دفاعه المستميت عن الفنان الكبير قوله: «ولا يمكن لعاقل القول إن محمد عبدالوهاب سارق موسيقى، وهو الذي صنع كل هذا التراث الفني، حيث إننا لو قلنا ذلك فكأنما نقول إن مليارديرًا قد سرق بضعة دراهم أو حفنة من الدولارات». لكن «الملياردير» سرق الدريهمات بالفعل، وباعترافه، يا أستاذ سحاب.