قد لا يكون ما تقرأه عزيزي القارئ في هذه الزاوية بجديد عليك؛ فقد أُشبِع كتابةً ونقاشًا منذ زمن الأجداد ومن قبلهم وحتى زماننا، وسيستمر بوتيرة أسرع مع الأجيال اللاحقة لجيلنا هذا، لكنه بوح أتمنى أن يصل إلى القلب؛ قلب كل قارئ يحلم بشيء من الدعة والسكون والهدوء النفسي في ظل حياة صاخبة متلاطمة ظاهرها التسارع في نمط الحياة اليومي، وباطنها كثير من العلل والأسقام والأوجاع والشكوى والأنين من الحياة وقساوتها وظلمها.

لماذا الكتابة إذن عن موضوع محسوم مسبقًا، ولن يُقدّم فيه سطر كُتب أو مقال خُط أو حتى كُتب عنه كتاب بأكمله. لماذا الحديث عن التسارع في الحياة ونمطها وكأن الناس لم يعُد لديهم وقت لأي شيء آخر بحجة أن نمط الحياة صار سريعًا لدرجة الجنون؛ فلم يعد هنالك متّسع في الحياة للأحاديث البشرية الطويلة أو القراءات المتمهلة الطويلة أو الاستماعات والمشاهدات المتعمقة المتأنية. لماذا بات كل شيء سريعًا وخاطفًا لا يتعدى زمنه الدقيقة الواحدة أو الدقيقتين على الأكثر؟ والسؤال الأكثر إلحاحًا في الموضوع: أين نقضي وقتنا وكيف نقضيه؟

في مقابلة مع الكاتب والمفكر المصري محمود السعدني يتحدث فيها عن الهدوء والراحة في زمانه، يقول: «إن مشوارًا من الإسماعيلية للقاهرة بصحبة بعض من زملائه أخذ منه شهرًا كاملًا بالسيارة بدلًا من ساعتين أو ثلاث، حيث اختار الأصدقاء التوقف في كل قرية يمرون عليها للسلام على مَن يعرفون ومَن لا يعرفون من الأصحاب. وقد يكون السعدني في مثاله هذا مبالغًا بعض الشيء في وصف الراحة أيام الأزمان الخالية لكنها كانت أيامًا -كما وصفها هو- ينعم فيها الإنسان بالراحة، ويستمتع بطعم الحياة ورونقها بعيدًا عن الأيام المتسارعة التي يتقاتل فيها الناس، ويلهثون للّحاق بقطار الحياة السريع.

أكتب هذه الزاوية ليس لتقديم نصح أو إرشاد؛ فالموضوع أكبر مني وهو فوق ما يتصوَّره إنسان من قدرته على التحكم في الوقت أو إيقافه أو تسريعه، أكتب هذا لأنني بدأت أشعر أن حياة البشر باتت مشحونة بالضغوطات اليومية المتراكمة والتي تنعكس تلقائيًا على حياة الناس بعضهم بعضًا مما يترتب عليها الكثير من الأمراض العضوية والنفسية، وتكثر فيها الخلافات والمشاحنات وضيق الصدر والبغضاء والحنق والمزاج المتعكر مما ينعكس سلبًا على صحة الإنسان وعافيته.

بعض المواقف التي تعرَّضتُ لها مؤخرًا كشفت لي عن حجم ما يعانيه البشر من ضغوطات الحياة عليهم، قد تكون الأحوال الاقتصادية والمعيشية والمالية سببًا في ذلك، لكنني أُرجِع السبب الأكبر في ذلك إلى نمط الحياة الذي نحياه من كوننا ملأنا حياتنا بأشياء لا داعي لها وزاحمنا حياتنا بأشياء كان يمكن التخلي فيها عن الكثير من الكماليات الوقتية التي لا طائل ولا نفع منها، وادخار كل ذلك الوقت واستغلاله في قضاء أوقات أحلى مع الأسرة أو الأصحاب أو الزملاء أو في صحبة كتاب أو التأمُّل في الحياة والطبيعة والنفس.

لا أريد أن أجازف بإلقاء التُّهمة على ذواتنا في كل ما نفعله؛ فقد تحمَّلنا الحياة في كثير من الأحيان فوق ما نستطيع والتي تقسو على البعض منا فوق ما يتحمَّل، لكن في كثير من الأحيان نحن نقوم بتعذيب ذواتنا بأنفسنا ونجلب الشقاء لأنفسنا والتعاسة لأرواحنا من حيث ندري ولا ندري؛ بسبب أننا بتنا لا ندرك ما ينفعنا وما يضرنا، ومرد كل ذلك إلى أن الناس لم يعُد لديهم الوقت لتأمُّل الحياة والناس واستقطاع بعض الوقت للانفصال عن العوالم اللاهثة والركون إلى زوايا الراحة والهدوء، وقد لا يتأتى ذلك إلا إنْ كانت إرادتنا قوية فوق إرادة الحياة ذاتها.

قد يكون هذا المقال بوحًا عما يختلج في الفؤاد من أن الحياة سائرة إلى نغص أكبر، وتعاسة أكثر ما لم نملك الوقت لتصويب ذواتنا، والجلوس مع أنفسنا لساعات أطول بعيدًا عن مشتتات الحياة وصخبها وضجيجها ومحاولة تصحيح المسار، وتعديل اتجاه الرحلة من الشقاء إلى السعادة.