(1)
أيَّتها «البومة العمياء»، الناطقة أكثر مما ينبغي، التي جاءت هديَّة كريمة وملغومة، في القراءات، من صادق هدايت (الذي أظنّ، بأمنية لا ينبغي أن تعني أي شيء أو أي شخص، أن كان عليه الانتحار في مسقط أو طهران، وليس في باريس)، وذلك الصَّدى الشَّجي والمخيف الذي يتردَّد في آخر الليل في خرافات القرية وأساطيرها والعين المفقوءة بين ما أنا عليه الليلة وبين ما كنت أعرفه من سنوات بعيدة على أنه مجز الصُّغرى: في كل عين ثمَّة نافذة مطفأة، وعلى كل زند يلتقط أنفاسه الوجد، والبحر والفراق.
لم تكن الحياة تتَّسع لأكثر من خطوة واحدة، وأنا خطيئة ميؤوس منها لأسباب لن أسامح مجز الصُّغرى بسببها.
ومجز الصُّغرى كانت أكبر مني (عهدذاك)، وأنا أصغر منها (عهدذا).
أيَّتها البومة العمياء...
(2)
الأموات مَطيَّة (لأمواتٍ غيرهم).
(3)
أصغرُ من كَفِّهِ، أكبر من اسمه، أرقُّ من عظامه، أكثر ضآلة من تأتأته، أعظم من المطر، خير من النِّسيان، لا جدوى تُرتجى منه.
أعرفهُ ولا أريد أن أعرفهُ.
(4)
أستطيع أن أعيش يومًا آخر من دون الاضطرار لتذكُّر تاريخ السُّلالة وأصل الملوك، والأمصار، وكل ما يراه ولا يراه ابن خلدون.
لي الحق في أن أعيش يومًا واحدًا بعيدًا عن التَّاريخ.
(5)
يا الله: هذه حجرة صغيرة، حرارتها كبيرة مثل نبوءة سان جون بيرس، وأعنف من الزنزانة التي قضى فيها صديقي عشر سنين. جدرانها عالية، طوبها أرقٌ أزرقُ، أحرامها البحر والضَّراعة، ونافذتها واسعة كأنها عين صقر ميِّت.
يا الله: ما أكبر هذه الحجرة الصغيرة، وما أقل هذا السَّطر!.
(6)
انقضى كل ذلك الشَّباب بحثًا عن مخدَّة (يعود كل ذلك الشَّباب بياسمينةٍ يابسةٍ في كل ليلة تهشُّ فيها الرِّيح النُّجوم بحثًا عن وسادة).
وأتذكَّركِ.
(7)
نموت في إحصاء التِّذكارات والصَّلوات، ونُبعث مع المهرِّج في فيلم «أتذكَّر» لفلِّيني).
(8)
-- هل تأخر الوقت؟
- نعم.
-- وما العمل إذًا؟
- سننتظر الوقت كي يتأخر أكثر.
(9)
يُغطِّي الليل عباءتك (لا يغادرها، لا يبوح بها، لا يُفَسِّرها، لا يعرف أنه ليل، ولا يدرك مقتلتنا في قميصك الأزرق).
ليس علينا أن نعتب الليل.
(10)
يكفي أن تحضر مجلس العزاء هذا كي تكتشف أن الجميع يضحكون على الميِّت، وأنهم أموات، وأن المدفون لا يضحك.
ثم يحدث ما هو أسوأ: تصير أنت الميت، والميت لا يستطيع أن يضحك (أيضًا).
لا داعي لحضور مجلس عزاء في أية وفاة بعد الآن (لا داعي لذلك العذاب والحزن المُضاعَفين).
ينبغي أن يموت الميت، فحسب.(11)
سقط النَّجم في البحث عن القمر، غابت الشَّمس هربًا من رجال الرحلات المكوكيَّة، وتراوحت الدَّمعة، ثم راحت (وأنت بريء من كل ما حدث، باستثناء أنك يتيم، ولا أهل لك).
(12)
بَنْدٌ آخر أُضيف في صفقة الليل (بعد استشهاد كل الذين لم يعد يتذكرهم أحد سوى الليل): سيكون الليل أصدق القائلين.(13)
يا أنتِ: ليس أول ستيِّنات العمر موعد الموت، كما لم تكن العشرينيات قطاف الحب.
كل الزَّمان دوران الكاميرا أمام جرح طفيف (أندريه تاركوفسكي يفعل ذلك أفضل من الجميع. في الحقيقة، يفعل ذلك أفضل من نفسه حين يُتَتَبَّعُ الأمر من «طفولة إيفان» إلى «القُربان»).
(14)
يا الله، يا أنتِ: كلُّ هذه الأمطار بين راحتيك، ولا تزالين تمضين إلى الرَّب في الحالكات.
(15)
النهر لا يفهم الماء. القمر يحاول ما في وسعه في أعالي البحار.
(16)
هذا الطين المغموس في الماء شرسٌ جدا، وماكر إلى أبعد الحدود، وخؤون للغاية.
أخشى أنه لن يخرج منه أرنب مذعور، وأخشى أن أرنبًا خائفًا سَيَحْدُث.
أخشى من الخلق إذا حدث مرة أخرى.
(17)
كم هو حزينٌ هذا الجذع (كان هنا عاشقٌ استظلَّ بالشَّجرة، ثم غاب عن الأخبار، لم يعد أحد يتذكر عنه أي شيء، ثم خَفَقَ قلبٌ غريب في بلادٍ غريبة، ثم كان ما لا نعرف، ولا نستطيع أن ندرك).
(18)
من أسوأ ما يمكن أن يحدث هو علمك بشيء ما على نحوٍ متيقِّن تمامًا، لكن لا دليل لديك ولا تستطيع أن تثبته لأحد (لا أتكلم عن الرؤى، والحدوس، بل عن المعرفة الموضوعيَّة التي ستقتلنا جميعًا).
(19)
الحُبُّ افتقار. سيكون فقيرًا أكثر بمجرَّد تحقُّقه (وهذا تقريبًا من كلام المسلسلات التلفزيونيَّة)، سيصبح بعيدًا في القرب (في الأفلام السِّينمائية، هذه المرَّة)، سيمسي خيطًا في المطر، سيغدو صينيَّة نار في الذِّكريات، سيمسي كأسًا نصف مليء في الباقي، وسيكون قبرًا معشبًا في الأثر.
الحُبُّ افتقارٌ لأنه أقام الزَّمن دومًا على مَلَكَة ضعف السَّمع واللامبالاة بكل ما هو بعد ذلك.
تعالوا، تقريبًا، ننسى أن ذلك قد حَدَثَ لنا.
(20)
لقد نسيك جميعهم (لا تهمز السُّلوان، ولا تلكز الماء، ولا تغافل الطُّرقات، ولا تغافل الخمر).
(21)
من الكلام العام عن البحر: مساحته، على كوكبنا، أكبر بكثير من مساحة اليابسة. وكان العرب يعرفون كلمة «بحر» ويتداولونها في الشفاهي والمكتوب الدنيوي والسَّماوي، لكنهم لم يعرفوا كلمة «محيط»، بل أطلقوا على المحيط الأطلسي تسمية «بحر الظلمات» (وهم، بصورة ما، لم يكونوا مخطئين). وتعيش في البحر ملايين الكائنات، إلخ.
من كلام الشِّعر عن البحر: «للبحر وحده سنقول/ كم كنا غرباء/ عن أعياد المدينة» (سان جون بيرس). ويقول أيضًا: «أسموني الغامض/ وقد كان حديثي عن البحر».
(22)
الحياة لا تحدث في المرة التَّالية (لم تحدث في المرة السَّابقة). تحدث الحياة حين لا ندرك أنها تحدث.
فلأدع الحياة لشأنها، ولأهتم بشأني.
أيَّتها «البومة العمياء»، الناطقة أكثر مما ينبغي، التي جاءت هديَّة كريمة وملغومة، في القراءات، من صادق هدايت (الذي أظنّ، بأمنية لا ينبغي أن تعني أي شيء أو أي شخص، أن كان عليه الانتحار في مسقط أو طهران، وليس في باريس)، وذلك الصَّدى الشَّجي والمخيف الذي يتردَّد في آخر الليل في خرافات القرية وأساطيرها والعين المفقوءة بين ما أنا عليه الليلة وبين ما كنت أعرفه من سنوات بعيدة على أنه مجز الصُّغرى: في كل عين ثمَّة نافذة مطفأة، وعلى كل زند يلتقط أنفاسه الوجد، والبحر والفراق.
لم تكن الحياة تتَّسع لأكثر من خطوة واحدة، وأنا خطيئة ميؤوس منها لأسباب لن أسامح مجز الصُّغرى بسببها.
ومجز الصُّغرى كانت أكبر مني (عهدذاك)، وأنا أصغر منها (عهدذا).
أيَّتها البومة العمياء...
(2)
الأموات مَطيَّة (لأمواتٍ غيرهم).
(3)
أصغرُ من كَفِّهِ، أكبر من اسمه، أرقُّ من عظامه، أكثر ضآلة من تأتأته، أعظم من المطر، خير من النِّسيان، لا جدوى تُرتجى منه.
أعرفهُ ولا أريد أن أعرفهُ.
(4)
أستطيع أن أعيش يومًا آخر من دون الاضطرار لتذكُّر تاريخ السُّلالة وأصل الملوك، والأمصار، وكل ما يراه ولا يراه ابن خلدون.
لي الحق في أن أعيش يومًا واحدًا بعيدًا عن التَّاريخ.
(5)
يا الله: هذه حجرة صغيرة، حرارتها كبيرة مثل نبوءة سان جون بيرس، وأعنف من الزنزانة التي قضى فيها صديقي عشر سنين. جدرانها عالية، طوبها أرقٌ أزرقُ، أحرامها البحر والضَّراعة، ونافذتها واسعة كأنها عين صقر ميِّت.
يا الله: ما أكبر هذه الحجرة الصغيرة، وما أقل هذا السَّطر!.
(6)
انقضى كل ذلك الشَّباب بحثًا عن مخدَّة (يعود كل ذلك الشَّباب بياسمينةٍ يابسةٍ في كل ليلة تهشُّ فيها الرِّيح النُّجوم بحثًا عن وسادة).
وأتذكَّركِ.
(7)
نموت في إحصاء التِّذكارات والصَّلوات، ونُبعث مع المهرِّج في فيلم «أتذكَّر» لفلِّيني).
(8)
-- هل تأخر الوقت؟
- نعم.
-- وما العمل إذًا؟
- سننتظر الوقت كي يتأخر أكثر.
(9)
يُغطِّي الليل عباءتك (لا يغادرها، لا يبوح بها، لا يُفَسِّرها، لا يعرف أنه ليل، ولا يدرك مقتلتنا في قميصك الأزرق).
ليس علينا أن نعتب الليل.
(10)
يكفي أن تحضر مجلس العزاء هذا كي تكتشف أن الجميع يضحكون على الميِّت، وأنهم أموات، وأن المدفون لا يضحك.
ثم يحدث ما هو أسوأ: تصير أنت الميت، والميت لا يستطيع أن يضحك (أيضًا).
لا داعي لحضور مجلس عزاء في أية وفاة بعد الآن (لا داعي لذلك العذاب والحزن المُضاعَفين).
ينبغي أن يموت الميت، فحسب.(11)
سقط النَّجم في البحث عن القمر، غابت الشَّمس هربًا من رجال الرحلات المكوكيَّة، وتراوحت الدَّمعة، ثم راحت (وأنت بريء من كل ما حدث، باستثناء أنك يتيم، ولا أهل لك).
(12)
بَنْدٌ آخر أُضيف في صفقة الليل (بعد استشهاد كل الذين لم يعد يتذكرهم أحد سوى الليل): سيكون الليل أصدق القائلين.(13)
يا أنتِ: ليس أول ستيِّنات العمر موعد الموت، كما لم تكن العشرينيات قطاف الحب.
كل الزَّمان دوران الكاميرا أمام جرح طفيف (أندريه تاركوفسكي يفعل ذلك أفضل من الجميع. في الحقيقة، يفعل ذلك أفضل من نفسه حين يُتَتَبَّعُ الأمر من «طفولة إيفان» إلى «القُربان»).
(14)
يا الله، يا أنتِ: كلُّ هذه الأمطار بين راحتيك، ولا تزالين تمضين إلى الرَّب في الحالكات.
(15)
النهر لا يفهم الماء. القمر يحاول ما في وسعه في أعالي البحار.
(16)
هذا الطين المغموس في الماء شرسٌ جدا، وماكر إلى أبعد الحدود، وخؤون للغاية.
أخشى أنه لن يخرج منه أرنب مذعور، وأخشى أن أرنبًا خائفًا سَيَحْدُث.
أخشى من الخلق إذا حدث مرة أخرى.
(17)
كم هو حزينٌ هذا الجذع (كان هنا عاشقٌ استظلَّ بالشَّجرة، ثم غاب عن الأخبار، لم يعد أحد يتذكر عنه أي شيء، ثم خَفَقَ قلبٌ غريب في بلادٍ غريبة، ثم كان ما لا نعرف، ولا نستطيع أن ندرك).
(18)
من أسوأ ما يمكن أن يحدث هو علمك بشيء ما على نحوٍ متيقِّن تمامًا، لكن لا دليل لديك ولا تستطيع أن تثبته لأحد (لا أتكلم عن الرؤى، والحدوس، بل عن المعرفة الموضوعيَّة التي ستقتلنا جميعًا).
(19)
الحُبُّ افتقار. سيكون فقيرًا أكثر بمجرَّد تحقُّقه (وهذا تقريبًا من كلام المسلسلات التلفزيونيَّة)، سيصبح بعيدًا في القرب (في الأفلام السِّينمائية، هذه المرَّة)، سيمسي خيطًا في المطر، سيغدو صينيَّة نار في الذِّكريات، سيمسي كأسًا نصف مليء في الباقي، وسيكون قبرًا معشبًا في الأثر.
الحُبُّ افتقارٌ لأنه أقام الزَّمن دومًا على مَلَكَة ضعف السَّمع واللامبالاة بكل ما هو بعد ذلك.
تعالوا، تقريبًا، ننسى أن ذلك قد حَدَثَ لنا.
(20)
لقد نسيك جميعهم (لا تهمز السُّلوان، ولا تلكز الماء، ولا تغافل الطُّرقات، ولا تغافل الخمر).
(21)
من الكلام العام عن البحر: مساحته، على كوكبنا، أكبر بكثير من مساحة اليابسة. وكان العرب يعرفون كلمة «بحر» ويتداولونها في الشفاهي والمكتوب الدنيوي والسَّماوي، لكنهم لم يعرفوا كلمة «محيط»، بل أطلقوا على المحيط الأطلسي تسمية «بحر الظلمات» (وهم، بصورة ما، لم يكونوا مخطئين). وتعيش في البحر ملايين الكائنات، إلخ.
من كلام الشِّعر عن البحر: «للبحر وحده سنقول/ كم كنا غرباء/ عن أعياد المدينة» (سان جون بيرس). ويقول أيضًا: «أسموني الغامض/ وقد كان حديثي عن البحر».
(22)
الحياة لا تحدث في المرة التَّالية (لم تحدث في المرة السَّابقة). تحدث الحياة حين لا ندرك أنها تحدث.
فلأدع الحياة لشأنها، ولأهتم بشأني.