ينظر الكثيرون للسيرة الذاتية بعين الشك، من حيث إن الإنسان لا يذكر عيوبه عندما يتصدّى لسيرته، ويُكثر من الإطراء على ذاته، يقول الكاتب أحمد أمين في مقدمة كتابه «حياتي» الصادر عام 1950م «إنّ النفسَ إمّا أن تغلو في تقدير ذاتها؛ فتنسب إليها ما ليس لها، أو تبالغ في تقدير ما صدر عنها، أو تبرر ما ساء من تصرفها، وإمّا أن تغمطها حقّها ..أمّا أنْ تقفَ من نفسها موقف القاضي العادل، والحكم النفس إلا بضروب من اللباقة، وأفانين من اللياقة».
لكنني وجدت في كتاب «مسيرتي.. مذكرات شاهد على عصرين» للسيد قحطان بن ناصر البوسعيدي سيرة مختلفة، لأن القصد من وضع الكتاب، كان مختلفا، فقد كتبه ليكون وصيته لأولاده، شارحا لهم الظروف التي عاشها، فهو يقول مخاطبا أبناءه «هذه وصيتي ومذكرة حياتي لكم، لتكون لكم عبرة وعظة في حياتكم» وكاد الأمر أن ينتهي عند هذا الحدّ، ولكن بعد أن اطّلع الدكتور سالم بن سعيد البوسعيدي على ما كتب وجده «أكثر من مجرّد وصية للأبناء، إنها مسيرة حياة وشهادة عصر وتاريخ حقبة من الوطن» كما يقول في مقدمة الكتاب، الصادر عن دار رؤى بمسقط في 330 صفحة من القطع المتوسط، فأصرّ عليه أن تخرج للعامّة وأن لا يحرم الآخرين منها، والمعروف أن مَنْ يكتب وصية يحرص أن يكون صادقا، أمينا، بعيدا عن التصنّع، لتكون وصيّته وثيقة يسير على هديها الأولاد، فلا مجال للخيال في كتابتها، ولا الزخرف اللفظي، فالهدف هو إيصال رسالة واضحة ومحدّدة لمرسل إليه هو امتداد له، من هنا تبرز ميزة هذه السيرة التي خرجتْ من حيّز الأسرة إلى الملأ عندما طبعها، وحين قرأتها وجدت نفسي إزاء سيرة مكتوبة بصدق، وكأن كاتبها يتحدّث معك وهو يفتح ذاكرته ملتقطا أبرز الأحداث التي شكّلت «مسيرته» بدءا من طفولته، ووفاة والده وهو جنين في الشهر الثالث، ذاكرا تفاصيل عن نسبه وأسرته وجدّه ووالده ووالدته وعيشه في كنف أمه وجدّته، وانتقاله مع والدته من «الفتح» إلى «الفلج» والعيش ببيت مبني من الطين وانضمامه لمدارس تحفيظ القرآن وانتقاله من بوشر إلى مسقط للالتحاق بالمدرسة السعيدية، واصفا مظاهر الحياة في «كلبوه» في عام 1961م وبساطة الحياة فيها وهدوءها، ومن ثم التحاقه بالجيش في 1965 ووصف الحياة في معسكر التدريب بغلا من النهوض المبكر إلى التدريبات والوجبات الغذائية، ومكوّناتها ومشاركته في حرب ظفار في 1966 م، وذكر المعارك التي كانت تدار في جبال ظفار، ولم يكتف بذلك بل تحدّث عن صلالة ومظاهر الحياة فيها، وقد لفت نظري اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة من بينها أنه ذكرَ جدولا بأسعار الفواكه، بالروبية الهندية، وكمّيّتها، ومن ثم التحاقه بدورة في بيت الفلج للتدريب على استخدام اللاسلكي شارحا كيفية كتابة الرسائل والبرقيات، ومن ثم عودته إلى صلالة في معسكر «أم الغوالف» و«عقبة الياسمين» و«حلوف» واستمر على ذلك حتى سنة 1972، ويخرج من الحرب بوقفة تأمل وقراءة للمشهد متطرقا للحديث عن الأيدي الخفية التي كانت تقف وراءها لتحقيق مآربها والدول الغربية والمنظمات السرية التي تدير دفة الصراعات بشتى الطرق.
ثم يتحدّث عن ملامح الحياة العسكرية، فالكاتب تدرّج بالمناصب، حتى صار عميدا في الجيش، كما ذكر رحلاته إلى لبنان، والسعودية، وبريطانيا، وأمريكا، وسويسرا مشاركا في دورات تدريبية حتى إحالته إلى التقاعد وتعيينه عضوا في مجلس الدولة عام 2002 م، ولم تنته سيرته، بل ينتقل للحديث عن حياته العائلية، ورضاه عنها، وطبيعة الحياة في المجتمع العماني، ثم يذكر الأحداث العائلية المؤلمة وأبرزها وفاة ولده «حسام» في حادث سير، وكان في ريعان شبابه، رحمه الله، وفي فصل عنوانه «حياتي الروحية والثقافية» يتحدّث عن تفرّغه، بعد التقاعد، للعبادة، فالجانب الديني هو الأكثر حضورا في حياته، حتى أنه بنى في بيته محرابا لخلواته يتعبّد به، أما عن اهتماماته الثقافية فيذكر أنها بدأت بقراءة كتاب «ألف ليلة وليلة» ثم عثوره على أكياس من الكتب المصادرة من المجموعات اليسارية أثناء الحرب، والانكباب على قراءتها، وقبل كل ذلك مداومته على قراءة القرآن الكريم منذ الصغر، وقد توّج اهتماماته الثقافية بإنشاء «مجلس السبت» الثقافي في بيته، ثم يتحدّث عن أمكنة لها وقع في ذاكرته وروحه، كبوشر وصاد والعذيبة وطقوس رمضان والأعياد، ويختتم الكتاب بصور توثيقية لمراحل مختلفة من حياته.
لقد قدّم السيد قحطان شهادة عن أحوال المجتمع العماني كاشفا عن سيرة رجل عصامي، عاش طفولة قاسية، من يُتمٍ مبكّر ونشأة بظروف صعبة، لكنه شقّ طريقه بعزيمة لا تلين، متسلّحا بالإيمان، والصبر، والوعي، فجاء كتابه «مسيرتي» ليكون وصيّة ليس لأولاده، بل للأجيال العمانية القادمة.
لكنني وجدت في كتاب «مسيرتي.. مذكرات شاهد على عصرين» للسيد قحطان بن ناصر البوسعيدي سيرة مختلفة، لأن القصد من وضع الكتاب، كان مختلفا، فقد كتبه ليكون وصيته لأولاده، شارحا لهم الظروف التي عاشها، فهو يقول مخاطبا أبناءه «هذه وصيتي ومذكرة حياتي لكم، لتكون لكم عبرة وعظة في حياتكم» وكاد الأمر أن ينتهي عند هذا الحدّ، ولكن بعد أن اطّلع الدكتور سالم بن سعيد البوسعيدي على ما كتب وجده «أكثر من مجرّد وصية للأبناء، إنها مسيرة حياة وشهادة عصر وتاريخ حقبة من الوطن» كما يقول في مقدمة الكتاب، الصادر عن دار رؤى بمسقط في 330 صفحة من القطع المتوسط، فأصرّ عليه أن تخرج للعامّة وأن لا يحرم الآخرين منها، والمعروف أن مَنْ يكتب وصية يحرص أن يكون صادقا، أمينا، بعيدا عن التصنّع، لتكون وصيّته وثيقة يسير على هديها الأولاد، فلا مجال للخيال في كتابتها، ولا الزخرف اللفظي، فالهدف هو إيصال رسالة واضحة ومحدّدة لمرسل إليه هو امتداد له، من هنا تبرز ميزة هذه السيرة التي خرجتْ من حيّز الأسرة إلى الملأ عندما طبعها، وحين قرأتها وجدت نفسي إزاء سيرة مكتوبة بصدق، وكأن كاتبها يتحدّث معك وهو يفتح ذاكرته ملتقطا أبرز الأحداث التي شكّلت «مسيرته» بدءا من طفولته، ووفاة والده وهو جنين في الشهر الثالث، ذاكرا تفاصيل عن نسبه وأسرته وجدّه ووالده ووالدته وعيشه في كنف أمه وجدّته، وانتقاله مع والدته من «الفتح» إلى «الفلج» والعيش ببيت مبني من الطين وانضمامه لمدارس تحفيظ القرآن وانتقاله من بوشر إلى مسقط للالتحاق بالمدرسة السعيدية، واصفا مظاهر الحياة في «كلبوه» في عام 1961م وبساطة الحياة فيها وهدوءها، ومن ثم التحاقه بالجيش في 1965 ووصف الحياة في معسكر التدريب بغلا من النهوض المبكر إلى التدريبات والوجبات الغذائية، ومكوّناتها ومشاركته في حرب ظفار في 1966 م، وذكر المعارك التي كانت تدار في جبال ظفار، ولم يكتف بذلك بل تحدّث عن صلالة ومظاهر الحياة فيها، وقد لفت نظري اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة من بينها أنه ذكرَ جدولا بأسعار الفواكه، بالروبية الهندية، وكمّيّتها، ومن ثم التحاقه بدورة في بيت الفلج للتدريب على استخدام اللاسلكي شارحا كيفية كتابة الرسائل والبرقيات، ومن ثم عودته إلى صلالة في معسكر «أم الغوالف» و«عقبة الياسمين» و«حلوف» واستمر على ذلك حتى سنة 1972، ويخرج من الحرب بوقفة تأمل وقراءة للمشهد متطرقا للحديث عن الأيدي الخفية التي كانت تقف وراءها لتحقيق مآربها والدول الغربية والمنظمات السرية التي تدير دفة الصراعات بشتى الطرق.
ثم يتحدّث عن ملامح الحياة العسكرية، فالكاتب تدرّج بالمناصب، حتى صار عميدا في الجيش، كما ذكر رحلاته إلى لبنان، والسعودية، وبريطانيا، وأمريكا، وسويسرا مشاركا في دورات تدريبية حتى إحالته إلى التقاعد وتعيينه عضوا في مجلس الدولة عام 2002 م، ولم تنته سيرته، بل ينتقل للحديث عن حياته العائلية، ورضاه عنها، وطبيعة الحياة في المجتمع العماني، ثم يذكر الأحداث العائلية المؤلمة وأبرزها وفاة ولده «حسام» في حادث سير، وكان في ريعان شبابه، رحمه الله، وفي فصل عنوانه «حياتي الروحية والثقافية» يتحدّث عن تفرّغه، بعد التقاعد، للعبادة، فالجانب الديني هو الأكثر حضورا في حياته، حتى أنه بنى في بيته محرابا لخلواته يتعبّد به، أما عن اهتماماته الثقافية فيذكر أنها بدأت بقراءة كتاب «ألف ليلة وليلة» ثم عثوره على أكياس من الكتب المصادرة من المجموعات اليسارية أثناء الحرب، والانكباب على قراءتها، وقبل كل ذلك مداومته على قراءة القرآن الكريم منذ الصغر، وقد توّج اهتماماته الثقافية بإنشاء «مجلس السبت» الثقافي في بيته، ثم يتحدّث عن أمكنة لها وقع في ذاكرته وروحه، كبوشر وصاد والعذيبة وطقوس رمضان والأعياد، ويختتم الكتاب بصور توثيقية لمراحل مختلفة من حياته.
لقد قدّم السيد قحطان شهادة عن أحوال المجتمع العماني كاشفا عن سيرة رجل عصامي، عاش طفولة قاسية، من يُتمٍ مبكّر ونشأة بظروف صعبة، لكنه شقّ طريقه بعزيمة لا تلين، متسلّحا بالإيمان، والصبر، والوعي، فجاء كتابه «مسيرتي» ليكون وصيّة ليس لأولاده، بل للأجيال العمانية القادمة.