تمثل حياتنا الواقعية في منصات التواصل الاجتماعي مشهدا غرائبيا يشبه الأفلام السينمائية، في ضدّيّة عجيبة لم يكن من الممكن تصورها قبل أربعة عشر عاما حين بدأ الانستجرام بالعمل ودخول الساحة ملتهما كل المنصات دفعة واحدة في صعود أسطوري حينها وفي فترة وجيزة.

نأى كثير من الناس حينها عن دخول هذا العالم الجديد، وشيئا فشيئا نمت سطوة هذا الموقع التواصلي لتتعدى تخليد الصور والذكريات إلى صناعة مالية وثقافية ونفسية وأيديولوجية حتى!. في البدء كانت لمشاركة الصور والتعارف بين الناس، ثم صارت منصة للمقاطع القصيرة التي كانت كوميدية في الغالب، ثم أصبحت منصة يبني فيها الناس شهرتهم وصورتهم التي يودُّون تصدريها إلى الآخرين للوصول إلى الوظائف التي تتناسب وتوجهاتهم وخبراتهم، ثم صارت صناعة بعينها.

يتعامل علماء النفس والاجتماع مع الظواهر المشابهة التي تنتشر كالنار في الهشيم ثم تستقر عصارتها صخرًا باقيًا لا رمادًا متناثرًا، باعتبارها ظاهرة تستحق الدراسة والفحص والتأمل.

وتبنى عليها دراسات ونظريات وكتب معالجةً ما خلّفته تلك الموجة الهادرة تحليلا وتوصيفا ثم تقديما للحلول والمقترحات.

وقد كثرت الدراسات حول تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الناس، وأخص بالذكر موقع الانستجرام لأنه الموقع الذي يشبه السوق الإلكتروني المفتوح. فكثير من العلامات التجارية صارت تعتمد اعتمادا كليا على الانستجرام في تسويق وبيع منتجاتها، خصوصا مع ما يتيحه هذا الموقع من خاصية تسعير والكاتالوج وغيرها من الخدمات التي تجعل هذا البرنامج سوقا حرا بامتياز.

في الضفة الأخرى هناك والزبائن، أو الفئة المستهدفة كما يسميها متخصصو التسويق والمبيعات. أثرت برامج التواصل الاجتماعي وهذا البرنامج بالذات على تفكير الناس ونفسياتهم ونظرتهم للأمور، وعلى سبيل المثال فقد تبنى علماء كثر الدراسات العلمية التي تراقب تطور وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الحالة النفسية للناس وإصابتهم بالقلق والاكتئاب والتسمم النفسي واضطرابات النوم وغيرها من الأمراض النفسية كما رصدها موقع The Conversation المتخصص بالدراسات والأبحاث، والذي خصص جزءًا من أبحاثه لدراسة تأثير مواقع التواصل على الناس نفسيًا واجتماعيًا وسلوكيًا.

أحد أهم أسباب هذه الأمراض هو الشعور الدائم والمتجدد -في كل مرة يفتح فيها المستهلك مواقع التواصل- بالنقص، لأن كل شيء فيها لامعٌ وبرَّاق؛ في مشهد يجعل من الواقع المعاش عالمًا موازيًا للعالم الافتراضي. عالمٌ واقعيٌّ مليء بالعقبات والكد والكدح، مقابل عالمٍ مليء باللهو والمرح والبطالة والتبضع اللانهائي.

هذه المقارنات اللامنطقية التي تجعل العقل اللاواعي مشدودًا إلى كل جديد، من ملبس ومأكل ومشرب في زيف لانهائي وممتد حتى لا يعود الإنسان يعيش لأجل ذاته وعائلته؛ بل لأجل أن يراه الآخرون ويسمعه الآخرون ويُعجَبَ به الآخرون. قبل عدة أيام شاهدت مقطعين أرسلهما إليّ صديقان لي في هذه المنصة بغير ما اتفاق، ومن السخرية أن المقطعين متضادين تضادًا تامًا أحدهما عن عائلة عمانية يتحدث أطفالها الإنجليزية بطلاقة لافتة، ولا يعرفون الأسماء العربية لما شاهدوه في الحظيرة من ماشية وطيور، فبدهشة تشبه الدهشة السينمائية في الأفلام؛ أي أن أولئك الأطفال يتكلمون كما لو كانوا نسخا كربونية من الأفلام الهوليودية. في المقابل، أرسل إليّ الصديق الآخر مقطعا -دقائق بين المقطعين!- لعائلة أجنبية تعيش في الريف، وكيف أن الصبية الصغار مرحون يعيشون الحياة كما ينبغي أن تعاش، بعيدا عن مواقع التواصل الاجتماعي والمشتتات الذهنية.

استحضر قصة مالك بن نبي ذلك المفكر الجزائري الحر، الذي قاوم الاحتلال الفرنسي للجزائر حتى نفاه المستعمرون؛ وبعدما تحررت الجزائر من رسن الاستعمار، وجد مالك أن قومه يتحدثون لغة المستعمر ويعيشون حياتهم كما كان المستعمر يفعل، فابتكر مصطلح القابلية للاستعمار الذي ضمّنه كتابه «شروط النهضة» وأعماله الأخرى.

وإذا كان بن نبي يرى القابلية للاستعمار في وقت لم يتوغل فيه الإعلام المرئي بعد وكان الاعتماد الكلي على الصحافة حينها؛ فإلى أي مسلك نحن ذاهبون اليوم وقد أصبحت القدرة على التأثير بيد كل فرد على حدة، فضلًا عن القدرات الهائلة في حال تبنت مؤسسة أو منظمة التأثير على الناس لمآرب سياسية واقتصادية وقومية حتى، إلى صعود؟ أم هو منحدر ينبغي أن نتنبه له منذ التو واللحظة قبل أن يجرفنا التيار!.

غني عن الذكر الدور الذي تمارسه القوى المناصرة للاحتلال في مواقع التواصل باستعمال المؤثرين والجيوش الوهمية، وكيف استفادت في توجيه الناس وغسل أدمغتهم، حتى ليكاد الواحد منهم لا يصدق أن الشمس تشرق من المشرق إلا إذا صدر بذلك بيان وخطاب من المشهور الذي يتابعه أو المؤسسة التي يتبعها.

أما عن السلامة النفسية والصحة الروحية والجسدية كذلك، فيستطيع المرء تجربة حذف هذه المواقع لمدة أسبوع واحد؛ وسيدرك تأثيرها الإدماني والسام عليه فورا، والتجربة خير برهان.