ثمّة احتمال كبير خلال إجازة نهاية السنة أن يقرأ أقرباؤك أحد أكثر الكتب مبيعًا على هواتفهم أو لوحاتهم الرقمية أو أجهزة القراءة الإلكترونية الخاصّة بهم. فمنذ ظهور هاتف «آيفون» عام 2007 وإطلاق جهاز «كيندل» للقراءة الإلكترونية عام 2010، غيّرت الوسائط الجديدة علاقتنا بالكتب.
لقد أصبحت معظم الصحف الآن، بما في ذلك صحيفة نيويورك تايمز التي يبلغ عمرها 166 عاما، متاحةً رقميًّا، بل إن بعضها لم يعد له وجود سوى على شبكة الإنترنت. وفي الفضاء العلمي، تُنشر المقالات على نحوٍ متزايد بشكل رقمي، ويُستغنى في أحيانٍ كثيرة عن نشر نسختها الورقية. لكن في مجال الأدب، يُظهر الشكل الورقي مقاومة مذهلة.
اختراعات ثورية
يمكن مقارنة الثورة الرقمية التي نعيشها اليوم بلحظتين حاسمتين أخريين في تاريخ البشرية. تتمثل اللحظة الأولى في اختراع الكتابة قبل ستة آلاف سنة مع ظهور الحروف المسمارية المنقوشة على الألواح الطينية في بلاد ما بين النهرين. وتكمن الأخرى في اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر على يد جوتنبرج (Gutenberg) الذي استخدم حروفا معدنية قابلة للنّقل.
غير أن هذه الاختراعات قد أثارت الكثير من الشكوك في زمنها. كان أفلاطون يرى في الكتابة تهديدًا للذّاكرة البشرية، بينما كان الرهبان في الأديرة قلقين من انتهاء دورهم كنسّاخين. وفي كلتا الحالتين، نحن نعلم اليوم أن مخاوف من عاصروا هذه الاختراعات كانت مبرّرة. فقدرتنا في الواقع على الاحتفاظ بالمعلومات لم تعد على الإطلاق كما كانت قبل اختراع الكتابة، وأنهى اختراع المطبعة عمل الرهبان النُّساخ.
إن انتشار الشاشات في كل مكان والثورة التي أحدثها ذلك كان له أيضا معارضون بطبيعة الحال. وهنا مرّة أخرى، تستند انتقادات هؤلاء المعارضين إلى عناصر قائمة على أسس علمية. نحاول في شبكة الأبحاث E-READ، التي نعمل ضمنها، فهم وظيفة القراءة في العصر الرقمي، في الوقت الذي تواصل فيه الأبحاث الإشارة إلى الآثار السلبية للشاشات.
الإدمان على الشاشات
يُقارَن استخدام المراهقين للهواتف الذكية أحيانًا بالإدمان على المخدّرات. وتُظهر العديد من الدراسات الاستقصائية حول العالم أن جيلًا بأكمله قد نشأ وهو دائم الاتّصال بالشبكات، حيث إن أبناء هذا الجيل يتفقّدون هواتفهم المحمولة ما يصل إلى 75 مرة في اليوم.
ووفقًا لدراسة إيطالية حديثة، فإن هؤلاء «المواليد الرقميين»، كما يُسمّون، هم أقلّ استقلالية وأقل سعادة مقارنةً بأسلافهم. إنهم يعانون من أشكالٍ جديدة من القلق الاجتماعي يُطلق عليها «الفومو» (FOMO - Fear Of Missing Out)، أي الخوف من تفويت شيء ما أو الخوف من تفويت حدث أو أخبار مهمة. هذا فضلا عن ظاهرة الـ «vamping»، وهي ممارسة تتمثل في تبادل الرسائل النصية حتى وقت متأخر من الليل.
إن الضحية الأولى لهذه الممارسات - التي تشجّع على الاتصال المستمر والمشتّت للانتباه - هي القراءة المتعمّقة التي تتطّلب مستوًى معينا من التركيز، سواء تعلّق الأمر بقراءة الأدب أو المقالات أو النصوص العلمية. هل نملك إمكانية مواجهة الآثار الجانبية المؤسفة للثورة الرقمية؟ الخبر السّار هو أن ثمّة حلًّا يتمثل في تغيير عاداتنا من أجل قراءة المزيد من الأعمال الأدبية الخيالية وحماية لحظات العزلة الخاصّة بنا.
تجربة العزلة
اكتشفت الباحثة ثيفي نوين (Thuy-vy Nguyen) رفقة زملائها من جامعة روتشستر، أن العزلة يمكن أن تؤدي إلى انخفاض مستويات التوتّر عند الإنسان وإلى الاسترخاء. ويعرّف الباحثون العزلة، في إطار هذه التجربة، بأنها: «البقاء وحيدًا لفترة من الزمن، بعيدًا عن أي جهازٍ متّصل بشبكة، دون تفاعلات مع الآخرين أو محفّزات خارجية، ودون أداء أي نشاطٍ». استمرّت تجربة العزلة، في الدراسات الأربع التي أجراها هذا الفريق، لمدة خمس عشرة دقيقة، وكان على المشاركين الجلوس وحيدين وعدم الانخراط في أي نشاط.
طُلب من المشاركين خلال إحدى جلسات التجربة قراءة مقالٍ بعنوان «الرّحلات السّاحرة: كيف هيمنت خطوط بان أمريكان على قطاع السفر الدولي في ثلاثينيات القرن العشرين؟». كانت النتائج التي حصل عليها الباحثون هي نفسها كما في التجربة التي لم تكن مصحوبة بالقراءة. أي أن الأشخاص الذين اختبروا لحظة العزلة هذه كانوا ببساطة أكثر استرخاءً.
تعزّز القراءة، عندما تتم في «عزلة خصبة»، قدرة القرّاء على الصمود وتجعلهم أقل تأثّرا بالضغوط الاجتماعية والإغراءات، خاصّة تلك التي تصدر عن منصّات التواصل الاجتماعي. غير أنه إن كانت القراءة مفيدة لنا بشكل عام، فإن قراءة الأعمال الأدبية الخيالية تبدو أكثر فائدة.
الكشف عن أفضل ما فينا
نجح الباحثون مؤخّرًا في إثبات ما لقراءة النصوص الأدبية الخيالية من تأثيرات إيجابية على مستوى الإدراك الاجتماعي وتنمية المهارات الاجتماعية والتعاطف مع الآخرين. لقد اكتشف عالم النفس ريموند مار (Raymond Mar) وزملاؤه أنه كلّما زاد إقبال الناس على قراءة الأدب الخيالي – كيفما كانت الأجناس السردية التي يقع عليها الاختيار – كلّما حصلوا على درجاتٍ مرتفعة في اختبارات قياس التعاطف التي يخضعون لها.
وفي إطار تجربة أخرى، أبرز أستاذ علم النفس دان جونسون (Dan Johnson) أن المشاركين الذين قرأوا مقتطفًا من رواية تتناول المصاعب والمشكلات الاجتماعية التي تواجهها امرأة عربية مسلمة، قد أبدوا تعاطفًا أكبر مع العرب المسلمين بشكل عام، وكانوا ميّالين أكثر لمحاربة التحيّزات والأفكار المسبقة التي يحملها المجتمع عن الأشخاص ذوي الخصائص المشابهة للشخصية الرئيسية في هذه الرواية الخيالية.
بفضل هذه التأثيرات الإيجابية على التعاطف، تستطيع القراءة أن تحدّ من التأثيرات المدمّرة للكراهية واللامبالاة المتفشيّين على شبكة الإنترنت. وفي تجارب تتعلّق بمشروعٍ يتم العمل عليه حاليا في معهد الدراسات المتقدمة بالعاصمة الفرنسية باريس، نسعى إلى إثبات أن الأشخاص الذين يقرؤون الأعمال الأدبية يشعرون بالتعاطف مع الشخصيات الطيّبة من الناحية الأخلاقية بينما لا يبدون أي تعاطف تجاه الشخصيات الخبيثة. وفي معهد ماكس بلانك للجماليات التجريبية بفرانكفورت، قمنا بإجراء تجربة تسير في هذا الاتجاه، معتمدين على نسختين مختلفتين للنّص الأدبي نفسه.
كان بطل الرواية في النّسخة الأولى التي اعتمدناها طبيبًا متطوّعا يعمل في القارة الأفريقية، وفي الأخرى عضوًا في الحزب النازي فرّ إلى جنوب أفريقيا. وقمنا، في كلا النّسختين، بتغيير أربع جمل فقط تتعلّق كلّها بأخلاق البطل. ولم نغيّر تقريبًا أي شيء آخر في النّص، لا في جوهره ولا في شكله. شارك في التجربة مائة وعشرون شخصًا ألمانيًّا وُزّعوا على مجموعتين، حيث قرأت المجموعة الأولى النّسخة التي اعتمدنا فيها البطل «الطيّب» بينما قرأت المجموعة الأخرى النّسخة ذات البطل «الشرّير». ثم طُلب من المشاركين تقييم القيمة الجمالية والأخلاقية للنص الذي قرؤوه، والإجابة على عدد من الأسئلة المرتبطة بمشاعر التعاطف/الودّ. وعلى الرغم من أن نتائج هذه الدراسة لم تنشر بعد، إلا أنها تظهر بوضوح شديد أن تقييم التعاطف الذي شعر به المشاركون تجاه بطل الرواية يرتبط ارتباطًا وثيقا ومباشرا بسماته الأخلاقية.
يمكن إذن النّظر إلى الأدب باعتباره مختبرًا أخلاقيا قادرا على تعزيز قدرتنا على تدبير العلاقات الاجتماعية. ولكن ما السبيل لكي نجعل اليافعين - مواليد العصر الرقمي - قادرين على القراءة من دون أن تقاطعهم باستمرار تنبيهات الشبكات الاجتماعية المختلفة التي يشاركون فيها، أو غيرها من وسائل التواصل التي تغزو حياتهم.
أي قراءة؟
لكي يستعيد الأدب - أو لكي يكتسب بكل بساطة - مكانةً مركزية في مشاريع القراءة عند الجميع، فإن تدريس الأدب في العصر الرقمي يستحق مراجعةً جادّة. وبينما تسير المقاربات التي تركّز على النّص والمؤلف في اتجاه فرض هيمنتها في أوروبا، تُبرز دراسات جديدة الحاجة إلى إبداع مقاربات «تجريبية»، يتم التركيز فيها بشكل أكبر على الجمهور المتلقي الذي يوجَّه إليه النّص، كالطلاب على سبيل المثال.
وتُثبت الأبحاث أن الاهتمام بما يستهوي الطّلاب (بدلًا من فرض النّصوص عليهم) ومساعدتهم على انتقاء الكتاب المناسب ليرافقهم خلال لحظة هامّة من حياتهم يؤدي إلى تفاعل أقوى بكثير مع النصوص عند جمهور القرّاء اليافعين.
هذه هي الطريقة التي سنتمكّن من خلالها من جعل الأدب الخيالي يأخذ مكانه الصحيح في قلب حياة القرّاء اليافعين وتعظيم الفوائد التي يمكن أن يجنوها من قراءته، سواء في حياتهم الاجتماعية أو من أجل تنمية ذواتهم.
وإلى جانب ذلك، يمكن للورق أن يكون حليفًا مهما لنا في سعينا نحو تحقيق هده الغاية، إذ تثبت الأبحاث أن الخصائص المادية للورق تلائم طريقة عمل ذاكرتنا أكثر من الوسائط الرقمية. توضّح عالمة النفس راكيفيت أكرمان (Rakefet Ackermann)، وهي أيضًا باحثة عضو في شبكة E-READ، أنه على الرغم من التقدم التكنولوجي الهائل الذي تحقّق في السنوات الأخيرة، إلا أن الطّلاب ما زالوا يفضّلون التعلّم من خلال الأشكال الورقية بدلًا من شاشات الحاسوب.
وأظهرت الباحثة أنه على الرغم من أن أداء الطّلاب الذين درسوا بالاعتماد على وثيقة رقمية قد كان جيّدًا، إلا أن أداء زملائهم الذين درسوا على الورق قد كان أفضل. إن قدراتنا المعرفية الفوقية (méta cognition) هي التي تتأثر في الواقع بالقراءة على الشاشات. وهذا النوع من القراءة لا يؤهّلنا لتقييم فهمنا للنص المقروء - أو لتقييم مدى تخزيننا لمحتواه في ذاكرتنا.
لقد أبرزت تجاربنا حول جاذبية الكتب الورقية أن من يقرؤون على الورق يكونون أكثر انخراطًا في عملية القراءة، في حين يميل أولئك الذين يستخدمون الأجهزة الرقمية إلى القراءة بشكل أكثر سطحية.
لا يتعلّق هدفنا هنا على الإطلاق بالمقارنة بين ممارسات القراءة على الشاشة وعلى الورق، ولا بالقول إننا يجب أن نتوقّف عن القراءة على الشاشات. نحتاج ببساطة إلى تكييف الأدوات التي نستخدمها وفقًا لاحتياجاتنا وتطويرها في الاتّجاه الذي يمكّن من جعل القراءة عنصرًا أساسيا في عاداتنا الاجتماعية والثقافية.
لقد أصبحت معظم الصحف الآن، بما في ذلك صحيفة نيويورك تايمز التي يبلغ عمرها 166 عاما، متاحةً رقميًّا، بل إن بعضها لم يعد له وجود سوى على شبكة الإنترنت. وفي الفضاء العلمي، تُنشر المقالات على نحوٍ متزايد بشكل رقمي، ويُستغنى في أحيانٍ كثيرة عن نشر نسختها الورقية. لكن في مجال الأدب، يُظهر الشكل الورقي مقاومة مذهلة.
اختراعات ثورية
يمكن مقارنة الثورة الرقمية التي نعيشها اليوم بلحظتين حاسمتين أخريين في تاريخ البشرية. تتمثل اللحظة الأولى في اختراع الكتابة قبل ستة آلاف سنة مع ظهور الحروف المسمارية المنقوشة على الألواح الطينية في بلاد ما بين النهرين. وتكمن الأخرى في اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر على يد جوتنبرج (Gutenberg) الذي استخدم حروفا معدنية قابلة للنّقل.
غير أن هذه الاختراعات قد أثارت الكثير من الشكوك في زمنها. كان أفلاطون يرى في الكتابة تهديدًا للذّاكرة البشرية، بينما كان الرهبان في الأديرة قلقين من انتهاء دورهم كنسّاخين. وفي كلتا الحالتين، نحن نعلم اليوم أن مخاوف من عاصروا هذه الاختراعات كانت مبرّرة. فقدرتنا في الواقع على الاحتفاظ بالمعلومات لم تعد على الإطلاق كما كانت قبل اختراع الكتابة، وأنهى اختراع المطبعة عمل الرهبان النُّساخ.
إن انتشار الشاشات في كل مكان والثورة التي أحدثها ذلك كان له أيضا معارضون بطبيعة الحال. وهنا مرّة أخرى، تستند انتقادات هؤلاء المعارضين إلى عناصر قائمة على أسس علمية. نحاول في شبكة الأبحاث E-READ، التي نعمل ضمنها، فهم وظيفة القراءة في العصر الرقمي، في الوقت الذي تواصل فيه الأبحاث الإشارة إلى الآثار السلبية للشاشات.
الإدمان على الشاشات
يُقارَن استخدام المراهقين للهواتف الذكية أحيانًا بالإدمان على المخدّرات. وتُظهر العديد من الدراسات الاستقصائية حول العالم أن جيلًا بأكمله قد نشأ وهو دائم الاتّصال بالشبكات، حيث إن أبناء هذا الجيل يتفقّدون هواتفهم المحمولة ما يصل إلى 75 مرة في اليوم.
ووفقًا لدراسة إيطالية حديثة، فإن هؤلاء «المواليد الرقميين»، كما يُسمّون، هم أقلّ استقلالية وأقل سعادة مقارنةً بأسلافهم. إنهم يعانون من أشكالٍ جديدة من القلق الاجتماعي يُطلق عليها «الفومو» (FOMO - Fear Of Missing Out)، أي الخوف من تفويت شيء ما أو الخوف من تفويت حدث أو أخبار مهمة. هذا فضلا عن ظاهرة الـ «vamping»، وهي ممارسة تتمثل في تبادل الرسائل النصية حتى وقت متأخر من الليل.
إن الضحية الأولى لهذه الممارسات - التي تشجّع على الاتصال المستمر والمشتّت للانتباه - هي القراءة المتعمّقة التي تتطّلب مستوًى معينا من التركيز، سواء تعلّق الأمر بقراءة الأدب أو المقالات أو النصوص العلمية. هل نملك إمكانية مواجهة الآثار الجانبية المؤسفة للثورة الرقمية؟ الخبر السّار هو أن ثمّة حلًّا يتمثل في تغيير عاداتنا من أجل قراءة المزيد من الأعمال الأدبية الخيالية وحماية لحظات العزلة الخاصّة بنا.
تجربة العزلة
اكتشفت الباحثة ثيفي نوين (Thuy-vy Nguyen) رفقة زملائها من جامعة روتشستر، أن العزلة يمكن أن تؤدي إلى انخفاض مستويات التوتّر عند الإنسان وإلى الاسترخاء. ويعرّف الباحثون العزلة، في إطار هذه التجربة، بأنها: «البقاء وحيدًا لفترة من الزمن، بعيدًا عن أي جهازٍ متّصل بشبكة، دون تفاعلات مع الآخرين أو محفّزات خارجية، ودون أداء أي نشاطٍ». استمرّت تجربة العزلة، في الدراسات الأربع التي أجراها هذا الفريق، لمدة خمس عشرة دقيقة، وكان على المشاركين الجلوس وحيدين وعدم الانخراط في أي نشاط.
طُلب من المشاركين خلال إحدى جلسات التجربة قراءة مقالٍ بعنوان «الرّحلات السّاحرة: كيف هيمنت خطوط بان أمريكان على قطاع السفر الدولي في ثلاثينيات القرن العشرين؟». كانت النتائج التي حصل عليها الباحثون هي نفسها كما في التجربة التي لم تكن مصحوبة بالقراءة. أي أن الأشخاص الذين اختبروا لحظة العزلة هذه كانوا ببساطة أكثر استرخاءً.
تعزّز القراءة، عندما تتم في «عزلة خصبة»، قدرة القرّاء على الصمود وتجعلهم أقل تأثّرا بالضغوط الاجتماعية والإغراءات، خاصّة تلك التي تصدر عن منصّات التواصل الاجتماعي. غير أنه إن كانت القراءة مفيدة لنا بشكل عام، فإن قراءة الأعمال الأدبية الخيالية تبدو أكثر فائدة.
الكشف عن أفضل ما فينا
نجح الباحثون مؤخّرًا في إثبات ما لقراءة النصوص الأدبية الخيالية من تأثيرات إيجابية على مستوى الإدراك الاجتماعي وتنمية المهارات الاجتماعية والتعاطف مع الآخرين. لقد اكتشف عالم النفس ريموند مار (Raymond Mar) وزملاؤه أنه كلّما زاد إقبال الناس على قراءة الأدب الخيالي – كيفما كانت الأجناس السردية التي يقع عليها الاختيار – كلّما حصلوا على درجاتٍ مرتفعة في اختبارات قياس التعاطف التي يخضعون لها.
وفي إطار تجربة أخرى، أبرز أستاذ علم النفس دان جونسون (Dan Johnson) أن المشاركين الذين قرأوا مقتطفًا من رواية تتناول المصاعب والمشكلات الاجتماعية التي تواجهها امرأة عربية مسلمة، قد أبدوا تعاطفًا أكبر مع العرب المسلمين بشكل عام، وكانوا ميّالين أكثر لمحاربة التحيّزات والأفكار المسبقة التي يحملها المجتمع عن الأشخاص ذوي الخصائص المشابهة للشخصية الرئيسية في هذه الرواية الخيالية.
بفضل هذه التأثيرات الإيجابية على التعاطف، تستطيع القراءة أن تحدّ من التأثيرات المدمّرة للكراهية واللامبالاة المتفشيّين على شبكة الإنترنت. وفي تجارب تتعلّق بمشروعٍ يتم العمل عليه حاليا في معهد الدراسات المتقدمة بالعاصمة الفرنسية باريس، نسعى إلى إثبات أن الأشخاص الذين يقرؤون الأعمال الأدبية يشعرون بالتعاطف مع الشخصيات الطيّبة من الناحية الأخلاقية بينما لا يبدون أي تعاطف تجاه الشخصيات الخبيثة. وفي معهد ماكس بلانك للجماليات التجريبية بفرانكفورت، قمنا بإجراء تجربة تسير في هذا الاتجاه، معتمدين على نسختين مختلفتين للنّص الأدبي نفسه.
كان بطل الرواية في النّسخة الأولى التي اعتمدناها طبيبًا متطوّعا يعمل في القارة الأفريقية، وفي الأخرى عضوًا في الحزب النازي فرّ إلى جنوب أفريقيا. وقمنا، في كلا النّسختين، بتغيير أربع جمل فقط تتعلّق كلّها بأخلاق البطل. ولم نغيّر تقريبًا أي شيء آخر في النّص، لا في جوهره ولا في شكله. شارك في التجربة مائة وعشرون شخصًا ألمانيًّا وُزّعوا على مجموعتين، حيث قرأت المجموعة الأولى النّسخة التي اعتمدنا فيها البطل «الطيّب» بينما قرأت المجموعة الأخرى النّسخة ذات البطل «الشرّير». ثم طُلب من المشاركين تقييم القيمة الجمالية والأخلاقية للنص الذي قرؤوه، والإجابة على عدد من الأسئلة المرتبطة بمشاعر التعاطف/الودّ. وعلى الرغم من أن نتائج هذه الدراسة لم تنشر بعد، إلا أنها تظهر بوضوح شديد أن تقييم التعاطف الذي شعر به المشاركون تجاه بطل الرواية يرتبط ارتباطًا وثيقا ومباشرا بسماته الأخلاقية.
يمكن إذن النّظر إلى الأدب باعتباره مختبرًا أخلاقيا قادرا على تعزيز قدرتنا على تدبير العلاقات الاجتماعية. ولكن ما السبيل لكي نجعل اليافعين - مواليد العصر الرقمي - قادرين على القراءة من دون أن تقاطعهم باستمرار تنبيهات الشبكات الاجتماعية المختلفة التي يشاركون فيها، أو غيرها من وسائل التواصل التي تغزو حياتهم.
أي قراءة؟
لكي يستعيد الأدب - أو لكي يكتسب بكل بساطة - مكانةً مركزية في مشاريع القراءة عند الجميع، فإن تدريس الأدب في العصر الرقمي يستحق مراجعةً جادّة. وبينما تسير المقاربات التي تركّز على النّص والمؤلف في اتجاه فرض هيمنتها في أوروبا، تُبرز دراسات جديدة الحاجة إلى إبداع مقاربات «تجريبية»، يتم التركيز فيها بشكل أكبر على الجمهور المتلقي الذي يوجَّه إليه النّص، كالطلاب على سبيل المثال.
وتُثبت الأبحاث أن الاهتمام بما يستهوي الطّلاب (بدلًا من فرض النّصوص عليهم) ومساعدتهم على انتقاء الكتاب المناسب ليرافقهم خلال لحظة هامّة من حياتهم يؤدي إلى تفاعل أقوى بكثير مع النصوص عند جمهور القرّاء اليافعين.
هذه هي الطريقة التي سنتمكّن من خلالها من جعل الأدب الخيالي يأخذ مكانه الصحيح في قلب حياة القرّاء اليافعين وتعظيم الفوائد التي يمكن أن يجنوها من قراءته، سواء في حياتهم الاجتماعية أو من أجل تنمية ذواتهم.
وإلى جانب ذلك، يمكن للورق أن يكون حليفًا مهما لنا في سعينا نحو تحقيق هده الغاية، إذ تثبت الأبحاث أن الخصائص المادية للورق تلائم طريقة عمل ذاكرتنا أكثر من الوسائط الرقمية. توضّح عالمة النفس راكيفيت أكرمان (Rakefet Ackermann)، وهي أيضًا باحثة عضو في شبكة E-READ، أنه على الرغم من التقدم التكنولوجي الهائل الذي تحقّق في السنوات الأخيرة، إلا أن الطّلاب ما زالوا يفضّلون التعلّم من خلال الأشكال الورقية بدلًا من شاشات الحاسوب.
وأظهرت الباحثة أنه على الرغم من أن أداء الطّلاب الذين درسوا بالاعتماد على وثيقة رقمية قد كان جيّدًا، إلا أن أداء زملائهم الذين درسوا على الورق قد كان أفضل. إن قدراتنا المعرفية الفوقية (méta cognition) هي التي تتأثر في الواقع بالقراءة على الشاشات. وهذا النوع من القراءة لا يؤهّلنا لتقييم فهمنا للنص المقروء - أو لتقييم مدى تخزيننا لمحتواه في ذاكرتنا.
لقد أبرزت تجاربنا حول جاذبية الكتب الورقية أن من يقرؤون على الورق يكونون أكثر انخراطًا في عملية القراءة، في حين يميل أولئك الذين يستخدمون الأجهزة الرقمية إلى القراءة بشكل أكثر سطحية.
لا يتعلّق هدفنا هنا على الإطلاق بالمقارنة بين ممارسات القراءة على الشاشة وعلى الورق، ولا بالقول إننا يجب أن نتوقّف عن القراءة على الشاشات. نحتاج ببساطة إلى تكييف الأدوات التي نستخدمها وفقًا لاحتياجاتنا وتطويرها في الاتّجاه الذي يمكّن من جعل القراءة عنصرًا أساسيا في عاداتنا الاجتماعية والثقافية.