قنبلة أوبنهايمر واسعة الأثر
لا يسعني التخمين ما إذا كان كريستوفر نولان قد فكر في أثر عملية الاختراع على المجتمع عندما صنع فيلمه الأوسكاري أوبنهايمر، فالفيلم الذي يروي لحظة من التاريخ تمحورت فيها كل أفعال مجموعة من البشر حول قنبلة، لم يركز على هذه القنبلة بصفتها أداة تدمير، بل بصفتها عملية اختراع وشيئا قيد التحقق. فهذا المشروع الذي لم يكن قد تحقق بعد، غيّر توزيع القوى وأوجد صداقات وعداوات وشكل موازين ومصالح ممتدة على نطاق واسع، وصولا إلى استخدام القنبلة، الذي -للمفاجأة- لم يكن ذروة الفيلم.
الملفت إذا أن كل ما هو مهم ويستحق الذكر من وجهة نظر الفيلم قد حدث قبل تفجير القنبلة، الصراعات والعلاقات والأفكار وتكون الشخصيات، كلها حدثت في تلك المرحلة التي كانت تتم فيها صناعة القنبلة، أي أنها نشأت مع تطور «مشروع» الاختراع الجديد. أما استخدام القنبلة، ذلك الحدث العملاق في التاريخ البشري، فقد مر سريعا وعلى الهامش، لتأتي بعدها ذروة الأحداث في مكان آخر تماما.
فإذا كانت القدرة التدميرية لقنبلة أوبنهايمر يمكن لها أن تبرر أثرها على السياسة العالمية، فإن أثرها الاجتماعي العميق كان قد تحقق فعلا خلال العمل وقبل إنجاز الاختراع وقبل التأكد من إمكاناته ورؤية قدرته التدميرية. الأثر الذي بدا في الفيلم نتيجة لكل الجهد وإعادة التشكل الذي كابده الجميع سواء في أروقة الجامعة أو دهاليز السياسة، وكل التغير في توجهات المجتمع وحيوات الأشخاص، ليتمكن المجتمع في النهاية من القيام بالعمل الذي أدى إلى تلك التقنية الجديدة. ومما هو ذو دلالة في الفيلم، أن الانتصار العسكري الذي أدى إليه الاختراع الجديد بدا عرضيا تماما في سياق الفيلم.
يدفعنا الفيلم إذا إلى التساؤل، ما هو أثر عملية الاختراع على المجتمع؟ كيف يمكن لمجرد السعي إلى إنتاج علمي أن يشكل المجتمع بشكل جديد؟
الاختراع بصفته عنصر تغيير
كان ماكس فيبر قد ناقش يوما أن العقلانية هي سمة المجتمع الرأسمالي، فالعقلانية بصفتها ضرورة لاختيار نمط الفعل الاقتصادي وغايته، واختيار الوسائل الاقتصادية وبدائلها، فإنها تتوسع نتيجة لذلك لتفرض نفسها على شكل العلاقات القانونية والسيادة البيروقراطية. ماكس فيبر يرى أن العقلنة تعني توسيع المجالات الاجتماعية التي تخضع لمقاييس القرار العقلاني، ابتداءً من تنظيم الوسائل والاختيار بين البدائل في الاقتصاد، مرورا بالتخطيط ومأسسة التقدم العلمي كشكل من أشكال ضمان استمرار أنظمة الفعل العقلاني عن طريق مأسستها، وصولا إلى تغيير الموروث الثقافي للمجتمع ككل، فيهدم المجتمع المشروعات القديمة ويبتعد عن زمن الخرافة.
لكن حدث أيضا أن اعترض هبربرت ماركيوز لاحقا على مفهوم العقلنة لدى ماكس فيبر، بأن العقلانية الرأسمالية بهذا المفهوم ليست العقلانية بذاتها بل هي شكل مضمر من السيادة لا يكتفي بأن يغير المجتمع ويعيد تشكيله، بل يضع له أيضا حدودا بقدر ما يشكله، وبذلك فإنه بعد حد معين يمنع المجتمع من التغير أو بالأحرى يحرمه منه. واعتراض ماركيوز لا يقلل من أهمية العقلنة، بل يزيد من أثرها في تشكيل المجتمع.
فالعقلانية العلمية بحسب ماركيوز هي إذا ممارسة للإشراف والرقابة تُمأسس السيادة وتحتفظ بالمحتوى السياسي، مما يجعل العقلانية والتقنية نفسها أيديولوجيا، ولا يعني ذلك أن استخدام التكنولوجيا (التقنية) يتم بشكل أيديولوجي، إنما يعني أن التقنية بذاتها هي سيطرة على الطبيعة والإنسان، هي شكل سيادة منهجية وعلمية محسوبة ومدروسة الأغراض. فبحسب ماركيوز تدخل السيادة أو السيطرة سلفا في بناء الجهاز التقني ذاته ولا تأتي من خارجه أو لاحقة عليه، فالتقنية هي مشروع اجتماعي-تاريخي يتم التخطيط فيه للمجتمع والمصالح المسيطرة عليه، بحيث تملي عليهما ما يتوجب فعله مع البشر ومع الأشياء، وهي بذلك سيادة مادية تنتمي من حيث ذلك إلى الشكل نفسه للعقل التقني.
قد تبدو الفقرة السابقة حول فكرة ماركيوز شديدة التكثيف، إلا أن ما يهمنا منها هو أن العقلانية بوصفها شكل السيادة المضمر في الرأسمالية هي أساسا ذات أثر أبعد بكثير من مجرد أن تكون خيارا يمكن الأخذ به أو تركه. فهي شيء بهذا المعنى تستحق صفة المضمر لأنها تشكل النظام ككل وشكل السلطة التي يمارسها، كما تبين لنا أن أحد معاني العقلانية بوصفها في أحد أشكالها العقل التقني المتمثل بالجهاز التقني والاختيار بين البدائل التقنية والتخطيط للتقدم العلمي، هو معنى ينسحب على كامل المجتمع.
العقلانية والتفرد البشري
كما فهمنا مما سبق، فإنه مع التقدم التقني لم تعد وسائل الإنتاج مجرد أدوات عمل بل غدت أساسا لأنواع المشروعية، وبما أننا النوع الوحيد المفكر، فإن هذا العقل الذي ينتج التفكير العلمي والعقلانية يغدو هو أساس مشروعية سيطرتنا البشرية على الحياة ومصدر التقدم العلمي الذي هو شرط حدوث التقنية واستمرارها.
فالتقنية تفرض سيطرتها علينا كبشر بينما نحاول نحن استخدامها للسيطرة على الطبيعة، إلا أن التفكير البشري بصفته المحتكر للعقلانية يبقى ذا مكانة جوهرية في عملية الإنتاج وبالتالي في عملية السيطرة بكل ما يستتبعه ذلك من مركزية إنسانية فلسفية وأخلاقية. وبالرغم من أن هذه السيادة المضمرة لا تمنح سيادة متساوية لجميع البشر، إلاّ أنها هي التي تهبنا الشكل السياسي والسيادي الذي يمتلك فيه الأشخاص حقوقهم بصفتهم أشخاصا.
الذكاء الاصطناعي والمركزية البشرية
لكن مع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي، فإن سؤالا لابد أن يطرح نفسه فيما يتعلق باستمرارية المركزية الإنسانية كفكرة أساسية متأتية من تفرد البشر بالعقلانية كأساس للسيطرة البشرية على الطبيعة وبالتالي مكانتهم المركزية كأشخاص في هذا النظام السياسي الحالي بما فيه من حقوق ومنظومة قيم.
ففي الوقت الذي قد تحال فيه الكثير من الوظائف إلى الذكاء الاصطناعي، فإن الخوف الأساسي لا يجب أن ينحصر في انتزاع عمل البشر منهم لصالح الذكاء الاصطناعي، فالتاريخ يبين أن الأعمال التي يلغيها التطور يمكن أن تعوض بأنواع أعمال جديدة. لكن الهاجس الأساسي يجب أن يكون حول تراجع دور العقلانية والتفكير العلمي في أداء البشر لأعمالهم وبالتالي تراجع دور العقلانية المحوري كأساس للمبدأ الإنساني وانعكاساته السياسية.
فالقدرة البشرية على العمل والإنجاز والمشروطة حاليا بالعقلنة والتفكير العلمي قد تتعرض لفك هذا الشرط عندما يقوم الذكاء الاصطناعي بأداء المهام داخل (صندوقه المغلق) بينما البشر يتحولون للثقة بنتائج تفكير الآلة ذاتية التعلم أكثر مما يثقون بنتائج تفكيرهم المنطقي. وحيث إن الآلة غدت اليوم تتعلم ذاتيا بطرق غير مدركة للبشر -وهو شرط بعض أنواع الذكاء الاصطناعي الأكثر فعالية- فإننا عند العمل معها نتحول إلى نوع من الإيمان الغيبي والذي يتميز عن كل الإيمانات الغيبية السابقة بأنه دائم التحقق على عكس نتائج الصلوات ونبوءات الأبراج وقراءات فناجين القهوة المقلوبة، مما يجعله إيمانا أشد قوة ومتانة.
إلا أن هذا الإيمان الفعّال والمتحقق يشكل خطرا على مركزية الإنسان الفلسفية والأخلاقية والسياسية، فهو يعني تراجع سيطرة الإنسان على وسائل الإنتاج والذي يعني سياسيا تراجع أساس سيادته، ويعني أيضا تراجع المركزية الفكرية للإنسان بصفته ناظرا إلى الطبيعة في سبيل فهمها أو مفكرا بالكون، مما يعني تراجع دور العقلنة. ففهم الطبيعة أو الكون لم يعد ذا ضرورة لأن ذكاء الآلة يقوم بهذه المهمة على أتم وجه، بينما فهمنا لهذه الآلة الفاهمة للطبيعة ليس فقط غير ضروري لفهم الطبيعة وإتمام المهام واستمرار عمل الجهاز -أيا يكن مستوى الجهاز من الآلة إلى الدولة- بل ربما يكون غير ممكن من الأساس.
ولأجل أن يحافظ البشر على مكانتهم في نظمهم الفلسفية والسياسية فإنه قد لا يكفيهم أن يعتمدوا على غريزة البقاء البسيطة باعتبارها متأصلة فيهم ككائنات حية لتمكنهم من مقاومة تراجع مكانتهم أمام اختراعاتهم، بل يتوجب عليهم أن يسعوا بكل جهدهم لإبقاء الذكاء الاصطناعي ضمن إطار المفهوم والمدرك. لابد من النظر إلى ما بعد الذكاء الاصطناعي والعمل على تجاوزه.
التصالح مع فرانكشتاين
لابد من الإشارة إلى أن إبقاء الذكاء الاصطناعي في إطار المفهوم والمدرك لا يعني تقييده ومحاربته، وإن كانت دعوات محاربة التقنيات الجديدة بدافع الخوف منها هي الدعوات التي تلقى رواجا لدى المجتمع في البداية التي تبدو أكثر مدعاة للراحة إلا أنها أيضا النهج الذي يثبت التاريخ فشله. فكما كان الأمر دائما، يبدو أن التقدم هو شرط بشري جوهري حتى لو أدى التطور إلى نقطة تاريخية يبدو فيها أن هنالك إغراء بأن نركن إلى الراحة ونعطي قيادة العقل والتفكير إلى كائن آخر يريحنا مما طالما شكل أكبر تحدياتنا ومغامراتنا البشرية وهو الاكتشاف والتقدم. فتلك اللحظة التي نستسلم فيها للراحة من عبء التفكير بالمستقبل سوف تكون لحظة انحدارنا.
في رواية فرانكشتاين لماري شيلي، ينقلب الكائن المصنوع على صانعه، يتحداه وينكل به، ويضيع الصانع والمصنوع في النهاية غارقين في صراعهما العبثي. وإن كانت هذه نهاية الرواية، فإن القصة الحقيقة لم تنته هناك، فنحن نعلم أن تلك الرواية الخالدة كتبت كمقاربة أدبية للأزمة الاجتماعية التي أثارها ظهور ماكينات الحياكة الآلية في المجتمع البريطاني في أوائل القرن التاسع عشر، لكننا نعلم أيضا أن هذه الآلات التي أتت مع الثورة الصناعية كانت سر الرفاه الذي شهدته البشرية خلال المائتي سنة التي مرت منذ ذلك الوقت إلى الآن، ففرانكشتاين في الحقيقة لم يبق عدوا بل أصبح أعز الأصدقاء. قد يسهل تخيل الذكاء الاصطناعي على أنه فرانكشتاين الجديد، خصوصا أنه يبدو من السهل جدا أنسنة برامج مثل تشات جي بي تي، إلا أن تجاربنا السابقة تقول: إن البشر لطالما تعايشوا مع مخلوقاتهم الجديدة وأحبوها، وهي خاتمة ليست فقط أكثر ملاءمة للمجتمعات البشرية بصفتها الطريق الذي لابد منه، بل هي أيضا خاتمة لا تقل شاعرية عن خاتمة رواية ماري شيلي.
لا يسعني التخمين ما إذا كان كريستوفر نولان قد فكر في أثر عملية الاختراع على المجتمع عندما صنع فيلمه الأوسكاري أوبنهايمر، فالفيلم الذي يروي لحظة من التاريخ تمحورت فيها كل أفعال مجموعة من البشر حول قنبلة، لم يركز على هذه القنبلة بصفتها أداة تدمير، بل بصفتها عملية اختراع وشيئا قيد التحقق. فهذا المشروع الذي لم يكن قد تحقق بعد، غيّر توزيع القوى وأوجد صداقات وعداوات وشكل موازين ومصالح ممتدة على نطاق واسع، وصولا إلى استخدام القنبلة، الذي -للمفاجأة- لم يكن ذروة الفيلم.
الملفت إذا أن كل ما هو مهم ويستحق الذكر من وجهة نظر الفيلم قد حدث قبل تفجير القنبلة، الصراعات والعلاقات والأفكار وتكون الشخصيات، كلها حدثت في تلك المرحلة التي كانت تتم فيها صناعة القنبلة، أي أنها نشأت مع تطور «مشروع» الاختراع الجديد. أما استخدام القنبلة، ذلك الحدث العملاق في التاريخ البشري، فقد مر سريعا وعلى الهامش، لتأتي بعدها ذروة الأحداث في مكان آخر تماما.
فإذا كانت القدرة التدميرية لقنبلة أوبنهايمر يمكن لها أن تبرر أثرها على السياسة العالمية، فإن أثرها الاجتماعي العميق كان قد تحقق فعلا خلال العمل وقبل إنجاز الاختراع وقبل التأكد من إمكاناته ورؤية قدرته التدميرية. الأثر الذي بدا في الفيلم نتيجة لكل الجهد وإعادة التشكل الذي كابده الجميع سواء في أروقة الجامعة أو دهاليز السياسة، وكل التغير في توجهات المجتمع وحيوات الأشخاص، ليتمكن المجتمع في النهاية من القيام بالعمل الذي أدى إلى تلك التقنية الجديدة. ومما هو ذو دلالة في الفيلم، أن الانتصار العسكري الذي أدى إليه الاختراع الجديد بدا عرضيا تماما في سياق الفيلم.
يدفعنا الفيلم إذا إلى التساؤل، ما هو أثر عملية الاختراع على المجتمع؟ كيف يمكن لمجرد السعي إلى إنتاج علمي أن يشكل المجتمع بشكل جديد؟
الاختراع بصفته عنصر تغيير
كان ماكس فيبر قد ناقش يوما أن العقلانية هي سمة المجتمع الرأسمالي، فالعقلانية بصفتها ضرورة لاختيار نمط الفعل الاقتصادي وغايته، واختيار الوسائل الاقتصادية وبدائلها، فإنها تتوسع نتيجة لذلك لتفرض نفسها على شكل العلاقات القانونية والسيادة البيروقراطية. ماكس فيبر يرى أن العقلنة تعني توسيع المجالات الاجتماعية التي تخضع لمقاييس القرار العقلاني، ابتداءً من تنظيم الوسائل والاختيار بين البدائل في الاقتصاد، مرورا بالتخطيط ومأسسة التقدم العلمي كشكل من أشكال ضمان استمرار أنظمة الفعل العقلاني عن طريق مأسستها، وصولا إلى تغيير الموروث الثقافي للمجتمع ككل، فيهدم المجتمع المشروعات القديمة ويبتعد عن زمن الخرافة.
لكن حدث أيضا أن اعترض هبربرت ماركيوز لاحقا على مفهوم العقلنة لدى ماكس فيبر، بأن العقلانية الرأسمالية بهذا المفهوم ليست العقلانية بذاتها بل هي شكل مضمر من السيادة لا يكتفي بأن يغير المجتمع ويعيد تشكيله، بل يضع له أيضا حدودا بقدر ما يشكله، وبذلك فإنه بعد حد معين يمنع المجتمع من التغير أو بالأحرى يحرمه منه. واعتراض ماركيوز لا يقلل من أهمية العقلنة، بل يزيد من أثرها في تشكيل المجتمع.
فالعقلانية العلمية بحسب ماركيوز هي إذا ممارسة للإشراف والرقابة تُمأسس السيادة وتحتفظ بالمحتوى السياسي، مما يجعل العقلانية والتقنية نفسها أيديولوجيا، ولا يعني ذلك أن استخدام التكنولوجيا (التقنية) يتم بشكل أيديولوجي، إنما يعني أن التقنية بذاتها هي سيطرة على الطبيعة والإنسان، هي شكل سيادة منهجية وعلمية محسوبة ومدروسة الأغراض. فبحسب ماركيوز تدخل السيادة أو السيطرة سلفا في بناء الجهاز التقني ذاته ولا تأتي من خارجه أو لاحقة عليه، فالتقنية هي مشروع اجتماعي-تاريخي يتم التخطيط فيه للمجتمع والمصالح المسيطرة عليه، بحيث تملي عليهما ما يتوجب فعله مع البشر ومع الأشياء، وهي بذلك سيادة مادية تنتمي من حيث ذلك إلى الشكل نفسه للعقل التقني.
قد تبدو الفقرة السابقة حول فكرة ماركيوز شديدة التكثيف، إلا أن ما يهمنا منها هو أن العقلانية بوصفها شكل السيادة المضمر في الرأسمالية هي أساسا ذات أثر أبعد بكثير من مجرد أن تكون خيارا يمكن الأخذ به أو تركه. فهي شيء بهذا المعنى تستحق صفة المضمر لأنها تشكل النظام ككل وشكل السلطة التي يمارسها، كما تبين لنا أن أحد معاني العقلانية بوصفها في أحد أشكالها العقل التقني المتمثل بالجهاز التقني والاختيار بين البدائل التقنية والتخطيط للتقدم العلمي، هو معنى ينسحب على كامل المجتمع.
العقلانية والتفرد البشري
كما فهمنا مما سبق، فإنه مع التقدم التقني لم تعد وسائل الإنتاج مجرد أدوات عمل بل غدت أساسا لأنواع المشروعية، وبما أننا النوع الوحيد المفكر، فإن هذا العقل الذي ينتج التفكير العلمي والعقلانية يغدو هو أساس مشروعية سيطرتنا البشرية على الحياة ومصدر التقدم العلمي الذي هو شرط حدوث التقنية واستمرارها.
فالتقنية تفرض سيطرتها علينا كبشر بينما نحاول نحن استخدامها للسيطرة على الطبيعة، إلا أن التفكير البشري بصفته المحتكر للعقلانية يبقى ذا مكانة جوهرية في عملية الإنتاج وبالتالي في عملية السيطرة بكل ما يستتبعه ذلك من مركزية إنسانية فلسفية وأخلاقية. وبالرغم من أن هذه السيادة المضمرة لا تمنح سيادة متساوية لجميع البشر، إلاّ أنها هي التي تهبنا الشكل السياسي والسيادي الذي يمتلك فيه الأشخاص حقوقهم بصفتهم أشخاصا.
الذكاء الاصطناعي والمركزية البشرية
لكن مع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي، فإن سؤالا لابد أن يطرح نفسه فيما يتعلق باستمرارية المركزية الإنسانية كفكرة أساسية متأتية من تفرد البشر بالعقلانية كأساس للسيطرة البشرية على الطبيعة وبالتالي مكانتهم المركزية كأشخاص في هذا النظام السياسي الحالي بما فيه من حقوق ومنظومة قيم.
ففي الوقت الذي قد تحال فيه الكثير من الوظائف إلى الذكاء الاصطناعي، فإن الخوف الأساسي لا يجب أن ينحصر في انتزاع عمل البشر منهم لصالح الذكاء الاصطناعي، فالتاريخ يبين أن الأعمال التي يلغيها التطور يمكن أن تعوض بأنواع أعمال جديدة. لكن الهاجس الأساسي يجب أن يكون حول تراجع دور العقلانية والتفكير العلمي في أداء البشر لأعمالهم وبالتالي تراجع دور العقلانية المحوري كأساس للمبدأ الإنساني وانعكاساته السياسية.
فالقدرة البشرية على العمل والإنجاز والمشروطة حاليا بالعقلنة والتفكير العلمي قد تتعرض لفك هذا الشرط عندما يقوم الذكاء الاصطناعي بأداء المهام داخل (صندوقه المغلق) بينما البشر يتحولون للثقة بنتائج تفكير الآلة ذاتية التعلم أكثر مما يثقون بنتائج تفكيرهم المنطقي. وحيث إن الآلة غدت اليوم تتعلم ذاتيا بطرق غير مدركة للبشر -وهو شرط بعض أنواع الذكاء الاصطناعي الأكثر فعالية- فإننا عند العمل معها نتحول إلى نوع من الإيمان الغيبي والذي يتميز عن كل الإيمانات الغيبية السابقة بأنه دائم التحقق على عكس نتائج الصلوات ونبوءات الأبراج وقراءات فناجين القهوة المقلوبة، مما يجعله إيمانا أشد قوة ومتانة.
إلا أن هذا الإيمان الفعّال والمتحقق يشكل خطرا على مركزية الإنسان الفلسفية والأخلاقية والسياسية، فهو يعني تراجع سيطرة الإنسان على وسائل الإنتاج والذي يعني سياسيا تراجع أساس سيادته، ويعني أيضا تراجع المركزية الفكرية للإنسان بصفته ناظرا إلى الطبيعة في سبيل فهمها أو مفكرا بالكون، مما يعني تراجع دور العقلنة. ففهم الطبيعة أو الكون لم يعد ذا ضرورة لأن ذكاء الآلة يقوم بهذه المهمة على أتم وجه، بينما فهمنا لهذه الآلة الفاهمة للطبيعة ليس فقط غير ضروري لفهم الطبيعة وإتمام المهام واستمرار عمل الجهاز -أيا يكن مستوى الجهاز من الآلة إلى الدولة- بل ربما يكون غير ممكن من الأساس.
ولأجل أن يحافظ البشر على مكانتهم في نظمهم الفلسفية والسياسية فإنه قد لا يكفيهم أن يعتمدوا على غريزة البقاء البسيطة باعتبارها متأصلة فيهم ككائنات حية لتمكنهم من مقاومة تراجع مكانتهم أمام اختراعاتهم، بل يتوجب عليهم أن يسعوا بكل جهدهم لإبقاء الذكاء الاصطناعي ضمن إطار المفهوم والمدرك. لابد من النظر إلى ما بعد الذكاء الاصطناعي والعمل على تجاوزه.
التصالح مع فرانكشتاين
لابد من الإشارة إلى أن إبقاء الذكاء الاصطناعي في إطار المفهوم والمدرك لا يعني تقييده ومحاربته، وإن كانت دعوات محاربة التقنيات الجديدة بدافع الخوف منها هي الدعوات التي تلقى رواجا لدى المجتمع في البداية التي تبدو أكثر مدعاة للراحة إلا أنها أيضا النهج الذي يثبت التاريخ فشله. فكما كان الأمر دائما، يبدو أن التقدم هو شرط بشري جوهري حتى لو أدى التطور إلى نقطة تاريخية يبدو فيها أن هنالك إغراء بأن نركن إلى الراحة ونعطي قيادة العقل والتفكير إلى كائن آخر يريحنا مما طالما شكل أكبر تحدياتنا ومغامراتنا البشرية وهو الاكتشاف والتقدم. فتلك اللحظة التي نستسلم فيها للراحة من عبء التفكير بالمستقبل سوف تكون لحظة انحدارنا.
في رواية فرانكشتاين لماري شيلي، ينقلب الكائن المصنوع على صانعه، يتحداه وينكل به، ويضيع الصانع والمصنوع في النهاية غارقين في صراعهما العبثي. وإن كانت هذه نهاية الرواية، فإن القصة الحقيقة لم تنته هناك، فنحن نعلم أن تلك الرواية الخالدة كتبت كمقاربة أدبية للأزمة الاجتماعية التي أثارها ظهور ماكينات الحياكة الآلية في المجتمع البريطاني في أوائل القرن التاسع عشر، لكننا نعلم أيضا أن هذه الآلات التي أتت مع الثورة الصناعية كانت سر الرفاه الذي شهدته البشرية خلال المائتي سنة التي مرت منذ ذلك الوقت إلى الآن، ففرانكشتاين في الحقيقة لم يبق عدوا بل أصبح أعز الأصدقاء. قد يسهل تخيل الذكاء الاصطناعي على أنه فرانكشتاين الجديد، خصوصا أنه يبدو من السهل جدا أنسنة برامج مثل تشات جي بي تي، إلا أن تجاربنا السابقة تقول: إن البشر لطالما تعايشوا مع مخلوقاتهم الجديدة وأحبوها، وهي خاتمة ليست فقط أكثر ملاءمة للمجتمعات البشرية بصفتها الطريق الذي لابد منه، بل هي أيضا خاتمة لا تقل شاعرية عن خاتمة رواية ماري شيلي.