مع نهاية اليوم العاشر من يونيو 1967، بدا شكل الجغرافيا الفلسطينية ممزقًا وموزعًا على جزر متفرقة فوق اليابسة. فنتيجةً للهزيمة المروعة التي أسفرت عنها الأيام الستة تحول المكان إلى جغرافيات متعددة، أو هويات عدة تجمعها هوية وطنية متخيلة تطفو في الكلام بلا وحدة جغرافية. ففي حين نتخيل فلسطينًا واحدة موحدة، نكتشف في الواقع السياسي والمادي أكثر من فلسطين، فعلى الأرض هناك فلسطينُ الضفة وفلسطينُ غزة وفلسطين القدس وفلسطين الداخل المحتل، وهناك أيضًا فلسطين المنفى أو الشتات، وإلى جانب هذه الجغرافيات أضاف عبد الرحيم الشيخ، الشاعر وأستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية بجامعة بيرزيت، فلسطينًا أخرى أو «جغرافيا سادسة» تبدو منسية أو ساقطة سهوًا عن هذه الخريطة، وهي فلسطين الموجودة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث ينشأ مجتمع فلسطيني معزول من الأسرى والأسيرات.
هناك، في تلك الجغرافيا السادسة المنفية التي دخل إلى فضائها المعقَّم وهو شاب في الخامسة والعشرين، أعلن السجَّانُ الأسبوع الماضي عن اغتيال وليد دقّة في سجن «الرملة». هو الذي لم تستنزف وجوده ساعة السجن البطيئة طيلة ثمانية وثلاثين عامًا بين الجدران. هو الذي لم يقتله «الزمن الموازي» كما كتب عنه في إحدى «رومياته» المهربة من السجن، بل طوره بعبقرية أدبية لا يمكن اكتشافها في الحرية المطلقة الفائضة عن الحاجة؛ لأنها لا تكشِف عن أسرارها إلا في عزلة السجن، ومع ذلك لم تكن لتبلغها إلا شخصيات نادرة من الأسرى في تاريخ ما يصنفه النقاد بـ«أدب السجون». ولكن ما قتل (جسد) وليد في نهاية المطاف كان الإعدام الطبي الممنهج والطويل.
لم يَشنُق وليد فتوة قلبه رغم سنوات الحرمان الطويلة في سجنه الصحراوي (نفحة)، هناك حيث هزمه حنان الأنثى التي أطلت عليه كصحفية عُنيت لسنوات بالكتابة عن شؤون الأسرى في تلك الجغرافيا الفلسطينية المنسية في سجون الاحتلال، الجغرافيا السادسة كما أسماها عبد الرحيم الشيخ. لم يكابر طويلاً حين راوده هواء الهوى الغريب من فتحة سرية في قلعة العدو الحصينة. لمعت له عينا سناء سلامة التي بادلته الانجذاب منبهرة بثقافته العالية منذ لقائها الأول تحت عيون السجان، ولم يكن منه سوى أن جازف بعضلة القلب التي أوهنها المرض لاحقًا، وارتمى بكل عطش الصحاري في الحب الممنوع الذي «يهدد الأمن الإسرائيلي» كما قالت المحكمة.
القيد الذي لم يعصم وليد من الوقوع في الحب لم يمنعه من الزواج بالحب، بخلاف أبطال قصص العشق الكلاسيكية الذين يطول بهم الحرمان وتمنعهم القبيلة من الزواج بحبيباتهم حتى الحلقة الأخيرة من المسلسل. فالأسير العاشق غيَّر النهاية التقليدية المألوفة وصار زوجًا لسناء، بل صار يفكر بالإنجاب. أراد أن يكون أبًا في الوقت الذي شعر فيه بأن خيط الزمن الموازي يتمدد بلا نهاية واضحة سوى الموت.
يمكن أن نقول بأن التوق الطبيعي للأبوة والأمومة معًا هو ما دفع الزوجين لهزيمة هذا المستحيل بعد كل تلك السنوات التي تعانقا فيها بالأصابع على باب الزيارة السريعة، ويمكننا أن نقول أيضًا بأن التحرر عبر الكتابة وحدها لم يكن كافيًا بالنسبة لوليد الذي ظل يبحث عن امتداد عضوي له في الحاضر المفقود خارج زنزانته، وهذا بالضبط ما كان حين أشرقت «ميلاد» بنورها من نطفة مهربة!
ليس من قبيل الرثاء ولا العزاء امتداح وليد دقة كاتبًا ومثقفًا بعد استشهاده. فهذه مهمة سبقنا إليها أعداؤه وتكفلوا بها عن غير قصد، أعداؤه الذين كرهوه في سجنه للسبب ذاته الذي فتن سناء منذ اللقاء الأول؛ وهو ثقافته العالية. كرهه السجَّانون؛ لأنه يتمرد عليهم من قلب السجن كمثقف، وأحبته سناء قبل ثمانية وعشرين عامًا لأنه مثقفٌ في قلب السجن. ومن يقرأ كتاباته التي كان يطلقها من سجنه كأنها روميات الأمير الأسير، أبي فراس الحمداني، سيعثر على سبب آخر وجيه ومفارِق للكراهية التي تكيلها المؤسسة الإسرائيلية لوليد، فهو يثير الغيظ والكراهية ليس بسبب لغته المتطورة فوق حدود استيعاب العقلية الإسرائيلية الجهولة والأصولية، فحسب، بل لأنه لا يحسن الكراهية المضادة أيضًا: «أعترف الآن، وفي عامي العشرين من الأسر، بأني ما زلت لا أحسن الكراهية، ولا الخشونة والفجاجة التي قد تفرضها حياة السجن»... متشبثًا بتفوقه الأخلاقي على السجن والاحتلال معًا، كما جاء في هذه الرسالة التي كتبها بمناسبة مرور عشرين عامًا على حياته في الكهف، هناك حيث صقل «رجل الكهف» لغة خاصة هذبها الحب والألم الشفاف الصادق، لغة نظن لوهلة أن كاتبها يتنزه في حديقة، فلا نصدق لرقتها أنها لغة خارجة من السجن«الكهف» الذي كتب فيه أدبًا أقل ما يُقال عنه إنه أجمل بكثير من معظم ما يكتبه كتَّاب المكاتب الزجاجية المكيفة، وذلك قبل أن ينقطع خيط الزمن الموازي فينتهي إلى موت يوجع الأصدقاء والقراء، لكنه على الأقل سيغيظ الأعداء أكثر مما هو متوقع، إلى الحد الذي يستفز واحدًا مثل إيتمار بن غفير ليصرِّح بأنه غير راضٍ عن موت وليد «موتًا طبيعيًا» وليس بالإعدام!
هناك، في تلك الجغرافيا السادسة المنفية التي دخل إلى فضائها المعقَّم وهو شاب في الخامسة والعشرين، أعلن السجَّانُ الأسبوع الماضي عن اغتيال وليد دقّة في سجن «الرملة». هو الذي لم تستنزف وجوده ساعة السجن البطيئة طيلة ثمانية وثلاثين عامًا بين الجدران. هو الذي لم يقتله «الزمن الموازي» كما كتب عنه في إحدى «رومياته» المهربة من السجن، بل طوره بعبقرية أدبية لا يمكن اكتشافها في الحرية المطلقة الفائضة عن الحاجة؛ لأنها لا تكشِف عن أسرارها إلا في عزلة السجن، ومع ذلك لم تكن لتبلغها إلا شخصيات نادرة من الأسرى في تاريخ ما يصنفه النقاد بـ«أدب السجون». ولكن ما قتل (جسد) وليد في نهاية المطاف كان الإعدام الطبي الممنهج والطويل.
لم يَشنُق وليد فتوة قلبه رغم سنوات الحرمان الطويلة في سجنه الصحراوي (نفحة)، هناك حيث هزمه حنان الأنثى التي أطلت عليه كصحفية عُنيت لسنوات بالكتابة عن شؤون الأسرى في تلك الجغرافيا الفلسطينية المنسية في سجون الاحتلال، الجغرافيا السادسة كما أسماها عبد الرحيم الشيخ. لم يكابر طويلاً حين راوده هواء الهوى الغريب من فتحة سرية في قلعة العدو الحصينة. لمعت له عينا سناء سلامة التي بادلته الانجذاب منبهرة بثقافته العالية منذ لقائها الأول تحت عيون السجان، ولم يكن منه سوى أن جازف بعضلة القلب التي أوهنها المرض لاحقًا، وارتمى بكل عطش الصحاري في الحب الممنوع الذي «يهدد الأمن الإسرائيلي» كما قالت المحكمة.
القيد الذي لم يعصم وليد من الوقوع في الحب لم يمنعه من الزواج بالحب، بخلاف أبطال قصص العشق الكلاسيكية الذين يطول بهم الحرمان وتمنعهم القبيلة من الزواج بحبيباتهم حتى الحلقة الأخيرة من المسلسل. فالأسير العاشق غيَّر النهاية التقليدية المألوفة وصار زوجًا لسناء، بل صار يفكر بالإنجاب. أراد أن يكون أبًا في الوقت الذي شعر فيه بأن خيط الزمن الموازي يتمدد بلا نهاية واضحة سوى الموت.
يمكن أن نقول بأن التوق الطبيعي للأبوة والأمومة معًا هو ما دفع الزوجين لهزيمة هذا المستحيل بعد كل تلك السنوات التي تعانقا فيها بالأصابع على باب الزيارة السريعة، ويمكننا أن نقول أيضًا بأن التحرر عبر الكتابة وحدها لم يكن كافيًا بالنسبة لوليد الذي ظل يبحث عن امتداد عضوي له في الحاضر المفقود خارج زنزانته، وهذا بالضبط ما كان حين أشرقت «ميلاد» بنورها من نطفة مهربة!
ليس من قبيل الرثاء ولا العزاء امتداح وليد دقة كاتبًا ومثقفًا بعد استشهاده. فهذه مهمة سبقنا إليها أعداؤه وتكفلوا بها عن غير قصد، أعداؤه الذين كرهوه في سجنه للسبب ذاته الذي فتن سناء منذ اللقاء الأول؛ وهو ثقافته العالية. كرهه السجَّانون؛ لأنه يتمرد عليهم من قلب السجن كمثقف، وأحبته سناء قبل ثمانية وعشرين عامًا لأنه مثقفٌ في قلب السجن. ومن يقرأ كتاباته التي كان يطلقها من سجنه كأنها روميات الأمير الأسير، أبي فراس الحمداني، سيعثر على سبب آخر وجيه ومفارِق للكراهية التي تكيلها المؤسسة الإسرائيلية لوليد، فهو يثير الغيظ والكراهية ليس بسبب لغته المتطورة فوق حدود استيعاب العقلية الإسرائيلية الجهولة والأصولية، فحسب، بل لأنه لا يحسن الكراهية المضادة أيضًا: «أعترف الآن، وفي عامي العشرين من الأسر، بأني ما زلت لا أحسن الكراهية، ولا الخشونة والفجاجة التي قد تفرضها حياة السجن»... متشبثًا بتفوقه الأخلاقي على السجن والاحتلال معًا، كما جاء في هذه الرسالة التي كتبها بمناسبة مرور عشرين عامًا على حياته في الكهف، هناك حيث صقل «رجل الكهف» لغة خاصة هذبها الحب والألم الشفاف الصادق، لغة نظن لوهلة أن كاتبها يتنزه في حديقة، فلا نصدق لرقتها أنها لغة خارجة من السجن«الكهف» الذي كتب فيه أدبًا أقل ما يُقال عنه إنه أجمل بكثير من معظم ما يكتبه كتَّاب المكاتب الزجاجية المكيفة، وذلك قبل أن ينقطع خيط الزمن الموازي فينتهي إلى موت يوجع الأصدقاء والقراء، لكنه على الأقل سيغيظ الأعداء أكثر مما هو متوقع، إلى الحد الذي يستفز واحدًا مثل إيتمار بن غفير ليصرِّح بأنه غير راضٍ عن موت وليد «موتًا طبيعيًا» وليس بالإعدام!