يأتي العيد بعد شهرٍ من الصيام والعبادة، فرحةَ مؤمنٍ واجبة الوجود، فالإسلام دينُ حياة وأملٍ وكِياسة وفطنة. يأتي العيدُ والناس في لهوٍ بمُتعِ السعادة والبهجة والمرح، يبحثون عن علّةٍ تُخرجهم من نكد الحياة، ومن وقْع المأساة في كونٍ ملؤه البطش والظلم وقد كشّر عن أرذل ما فيه، وتقيّأ من بطنه عُصارة الحقد والكره. يعودُ العيد والناس منقسمون في هذا الكون، أناس أقوياء أخذتهم العزّة بالإثم، يُدافعون عن الأقوى وعن مصالح هدّت كلّ ما أنجزه الإنسان من حقوقٍ كونيّة إنسانيّة، وأناسٌ ضعاف، لا قوّة لهم سوى الإيمان، يرفعونه سلاحا مُقاوما لأنياب آلات الحرب وأسلحة تدمير الإنسان. يعودُ العيد ولا نريده أن يكون مناسبة كدر ولا بؤس، وإنّما هو عيدنا الذي أمرنا الإسلام بالاحتفاء به ليوجِد للمسلم فرصة بهجة حقيقيّة إجازة للغناء والطرب واللباس الجديد والتعطّر وبيان مختلف أمارات الخروج عن مألوف الحياة العادية وعن مألوف نكدها، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، إنّ لكل قوم عيدا وهذا عيدنا»، وهذا عيدنا الذي مرحنا فيه صغارا، وارتدينا من اللّباس أجمله، وتعطّرنا بأجود أنواع العطور، وضحكنا، وانتظرنا الهبات، وسعدنا بمليمات بسيطة، كانت الحياة لهوا، ومتعا، وبساطةً، وها هو الزمان يغمرنا ويُفسد بهجة عيدنا، ولو اقتصر الأمر علينا لتابعنا المتنبي وصمتنا، وقلنا معه إذ تشتدّ الإحن والمصائبُ وترى دماء الأطفال تسيل، وترى هيبة الإسلام تُهدَر، وترى العالم القويّ يدوس بعنف إخواننا في فلسطين، لا يُميّز بين القطّة والعجوز والمرأة والرضيع، لقلنا ما لا أريد ترداده أمام أبنائي الذين حُرموا هم أيضا براءة العيد: «عِيدٌ بِأَيةِ حالٍ عدتَ يا عِيدُ/ بما مَضى أَم بأمرٍ فيكَ تَجديدُ- أمّا الأحبَّةِ فالبيداءُ دونهُمُ/ فليتَ دونَكَ بِيدًا دونَها بيدُ. أو قلتُ مع المعتمد بن عبّاد: «فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا/ فساءكَ العيدُ في أغماتَ مَأسُورا». يأتي العيد هذه السنة وفي القلب غُصّة فلسطين، غصّة أطفالٍ عُراة، يلفحهم برد شتاء قارس، وهم في عُري عمّا يتّقون به برد الشتاء، وفي عُري من سماء تُظلّهم وتأويهم، وليس لهم غير الأرض التي يتشبّثون بها من تحتهم، وبروق لهيب القنابل العاصفة من فوقهم، ولكنّي على أتمّ اليقين، أنّ المعجزة الفلسطينيّة متحقّقة، وأنّ الفلسطيني لن يُغضب ربّه وسيقتل عدوّه غمّا وكمدا، وسيحلّق هازئا بدبّاباتهم، وطائراتهم، وقنابلهم وصواريخهم، وسيصنع عُصفورا من الأمل يُحلّق به في رحيب الكون، ويحتفل بعيده، كما كانت فدوى طوقان تتغنّى بعيدها وتبهج به تحت وقع نيران العدوّ الهمجيّ الذي لا يعرف للفرح طريقا، فتقول جامعةً شتات الذكريّات: «أتُرى ذكرتِ مَباهِج الأعياد في يافا الجميلة/ أَهَفَت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة- إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهو غرير/ والعقدة الحمراء قد رقت على رأس الصغير- والشعر منسدل على الكتفين محلول الجديلة/ إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيب- تتراكضين مع اللدات بموكب فرح طروب/ طورا إلى أرجوحة نصبت هناك على الرمال- طورا إلى طل المغارس في كنوز البرتقال/ والعيد يملأ جوكن بروحه المرح اللعوب». وسيصنع أطفال فلسطين ونساؤها من أطمارهم البالية فساتين الفرح، ومن قنابل العدوّ لُعبا وطائرات هواء، وعصافير وفراشات تُحلّق فوق دمار الكون، علّها تهزّ عروشهم البالية، وتبعث إنسانا جديدا، مؤمنا حقّا بالإنسانيّة، سيبتهج الفلسطينيون بالأعياد تحت القصف والعصف، وسيمدّون جسور محبّة للكون، وسيضحك الأطفال بين ثنايا جثث صحبهم المتناثرة، وسيكون الفرح سلاح مقاومة أشدّ وأنكى من الحزن والبكاء، سأقول أيضا مع فدوى طوقان عندما يشتدّ الأسى بنا: «أختاه هذا العيد عيد المترفين الهانئين/ عيد الألى بقصورهم وبروجهم متنعمين/ عيد الألى لا العار حركهم ولا ذل الضمير/ فكأنهم جثث هناك بلا حياة أو شعور/ أختاه لا تبكي فهذا العيد عيد الميتين». لا نريده عيدا للميّتين، بل نريده عيدا للمبتهجين، للصادقين غير المُطبّعين مع الألم ومع صُور الدمار، نريده عيدا للآملين بحياة أفضل وعالم أنقى، فلتعصف الرياح، في الوقت الذي ننثر فيه ورود الحياة، فالعالم أجمل وأنقى، وهنيئا لكم العيد الذي أنتم عيده، وأعاده اللّه عليكم بالأمل والبهجة والحياة.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي