يبدو أن خوسيه مياس مشغول بالأبوين. فروايته «هكذا كانت الوحدة» تبدأُ بموت الأم، وتداعي العالم بعد هذه الحادثة، الموت الذي ما إن تعرف الابنة الكبرى عنه، حتى تترك ساقها الثانية غير حليقة بينما تحلق في حمام منزلها. تخرجُ الابنة للعالم بساق حليقة واحدة. هنا أيضًا تكمن إحدى مهارات مياس، إنه يضفي على التفاصيل الصغيرة غرائبية ساحرة، يكثفُ ما يفكر به داخل فعل صغير ودقيق للغاية. هذا ما يفعله أيضًا في النوفيلا التي ترجمها المصري أحمد عبد اللطيف بعنوان «قصتي الحقيقية»، إذ يوجه صفعات متتالية لأبيه الذي يتجاهله مرارًا؛ لأن هذا الأب يقرأ طيلة الوقت، ويعزل نفسه بعيدًا عن أسرته، كانت تلك الصفعات عبر التبول على ملاءات السرير مهما تقدم هذا الطفل في العمر.
تدور حكاية «قصتي الحقيقية» عن طفل وحيد، يعاني من كراهية أبيه له. لكنه مع ذلك لا يتوقف عن محاولة إرضاء هذا الأب، مهما كلفه ذلك. يرتكب هذا الابن ما يبدو أنه تسبب في جريمة كبيرة، عندما رمى كرة زجاجية صغيرة جدًا من جسر في المدينة التي يعيش فيها، ليتسبب بحادث سير، راح ضحيته أب وأم، وخلفا وراءهما طفلة صغيرة مشوهة وستفقد ساقها. هذه الطفلة التي سيحبها بطل القصة كلما تقدمنا في القراءة، بل سيولعُ بها. يعيش هذا الطفل في عار ارتكاب تلك الجريمة، التي تغير حياته للأبد، خصوصًا وأنها سر لم يشاركه مع أحد، يصبح ممسوسًا بكونه مجرما وسفاحا حقيقيا، الأمر الذي يحيل القارئ على الفور لرواية ديستوفيسكي الشهيرة «الجريمة والعقاب».
لا يتركنا خوسيه مياس دون أن يستثمر «الجريمة والعقاب» بشكل صريح في الرواية، إذ إن بطلها يتجنب قراءة هذه الرواية، ورغم أنها تلاحقه كيفما ولى، إلا أنه اعتاد أن يدير ظهره لها، إن ما يفعله مياس هنا ذكي وحذق، إذ إن المراوغة التي تجري بين الشخصية الرئيسية في «قصتي الحقيقية» ورواية «الجريمة والعقاب» هي نفسها تلك المراوحة التي ما انفكت تحدث بين راسكولينكوف والجريمة التي ارتكبها بقتله العجوز، وبشعوره باقتراب اكتشاف أمره، أو محاولته هو نفسه للاعتراف بالجريمة. هنالك إذن اشتغال مياسي على مستويين هنا: مستوى ملاحقة هذا العمل الأدبي وما تعنيه هذه الملاحقة المستمرة، ومستوى أن يكون هذا العمل الأدبي هو الجريمة والعقاب لديستوفيسكي، ذلك العمل الذي تتردد فيه الشخصية بين ما إن كانت خيرة أم شريرة، ما إن كان ما فعلته هو صائب أم هو جريمة بشعة يستحق عليها العقاب، ولعٌ مرضي بالحادثة، وانهماك متطرف بها، كما يجري في «قصتي الحقيقية».
الطريقة التي يقرر بها بطل القصة تجسيد حالة الانهيار التي يمر بها بين أسئلته هذه التي يطرحها على نفسه كمجرم، هي الكتابة، يستثمر ذلك أيضًا وبشكل ممتاز في محاولته الحثيثة لإرضاء والده، كما ذكرت في بداية هذه المقالة، فأبوه قارئ، وإذا ما كان قارئًا فيمكن أن يحقق بطل القصة تواصلًا فعليًا مع أبيه بالكتابة، أو كما يقول في مشهد روائي رائع لأبيه عن اهتمامه بالكتابة: لو كنتَ سجانًا يا أبي فسأكون سجينًا ! يدون إذن حكايته في مذكرة يحتفظ بها في مكان قصي عن متناول يد أمه التي يعيش معها بمفرده بعد أن تركهما الأب، الأمر الذي ادعى أنه بسببه بطبيعة الحال! كما كل شيء سيئ يحدث بسبب هذا الابن المنحوس فحسب!
نشتبك إذن في هذه النوفيلا القصيرة مع سؤال الكتابة، ما الذي يجعل مني كاتبة مثلاً؟ وكيف سأكتب ما أريد قوله فعلاً. ثم إنني ما إن أفعل ذلك، ما الحدود بين الشخصي والمتخيل، هل ستكتشف أمه أن الجسر الذي ينتحر من عليه طفل صغير كتب عنه في قصة قصيرة فازت على مستوى إسبانيا، بأنه الجسر نفسه الذي أسقط منه كرته الزجاجية التي ستقتل عائلة إيريني وتجعلها طفلة وامرأة معوقة مقطوعة الساق للأبد؟ في هذا الاشتباك المحتدم الذي ينجح مياس في صناعته، يمرر لنا الممارسات العائلية التي نألفها، كالأسرار التي نقرر رغم معرفتنا بها ألا نكشفها لبعضنا البعض، للتواطؤ العائلي كما أحب أن أسميه على فاجعة ما، ودفنها تحت السجاد، أو تحت الزمن! يكتب بطلنا إذن، ويفوز، لكن فوزه هذا بالتحديد ما سيجعل أباه ينفر من قراءته، فالمؤلفون الذين يحصلون على الجوائز مبتذلون بالضرورة، رائجون، ويقدمون كتابة تجارية، الأمر الذي يكاد أن يُذهب عقل بطلنا الذي استمر في رباطة جأشه أمام والده القاسي هذا، واستمر في سعيه المحموم لإرضائه.
تكتشف مع مرور الوقت الأم علاقة ابنها بإريني، وما إن تدخل غرفته في أحد المساءات التي ظن فيها الابن أنها لن تعود إلى المنزل مبكرًا حتى تفجع بالساق الاصطناعية بجانب سرير ابنها بينما تستلقي هناك امرأة بساق واحدة، تطرده من البيت، فيلجأ لأبيه، هذا الأب الذي سيحب ابنه ويقبله أخيرًا، لماذا يا ترى؟ لقد أعجبه خيال ابنه، هذا الخيال الذي دفع هذا الولد ليحب ابنة مقطوعة الساق، يصبح الابن إذن كائنًا خياليًا، كائنًا حلميًا، تنتمي لعالم الأب أخيرًا، العالم الذي يفقه فيه، عالم الأحلام في الكتب، وها هو أخيرًا في ظل قبول الأب وخيلاء الظفر بهذا القبول. يختم مياس الرواية على لسان بطله: «أشعر أنني مدان منذ ميلادي بنوع من اللاواقعية».
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية
تدور حكاية «قصتي الحقيقية» عن طفل وحيد، يعاني من كراهية أبيه له. لكنه مع ذلك لا يتوقف عن محاولة إرضاء هذا الأب، مهما كلفه ذلك. يرتكب هذا الابن ما يبدو أنه تسبب في جريمة كبيرة، عندما رمى كرة زجاجية صغيرة جدًا من جسر في المدينة التي يعيش فيها، ليتسبب بحادث سير، راح ضحيته أب وأم، وخلفا وراءهما طفلة صغيرة مشوهة وستفقد ساقها. هذه الطفلة التي سيحبها بطل القصة كلما تقدمنا في القراءة، بل سيولعُ بها. يعيش هذا الطفل في عار ارتكاب تلك الجريمة، التي تغير حياته للأبد، خصوصًا وأنها سر لم يشاركه مع أحد، يصبح ممسوسًا بكونه مجرما وسفاحا حقيقيا، الأمر الذي يحيل القارئ على الفور لرواية ديستوفيسكي الشهيرة «الجريمة والعقاب».
لا يتركنا خوسيه مياس دون أن يستثمر «الجريمة والعقاب» بشكل صريح في الرواية، إذ إن بطلها يتجنب قراءة هذه الرواية، ورغم أنها تلاحقه كيفما ولى، إلا أنه اعتاد أن يدير ظهره لها، إن ما يفعله مياس هنا ذكي وحذق، إذ إن المراوغة التي تجري بين الشخصية الرئيسية في «قصتي الحقيقية» ورواية «الجريمة والعقاب» هي نفسها تلك المراوحة التي ما انفكت تحدث بين راسكولينكوف والجريمة التي ارتكبها بقتله العجوز، وبشعوره باقتراب اكتشاف أمره، أو محاولته هو نفسه للاعتراف بالجريمة. هنالك إذن اشتغال مياسي على مستويين هنا: مستوى ملاحقة هذا العمل الأدبي وما تعنيه هذه الملاحقة المستمرة، ومستوى أن يكون هذا العمل الأدبي هو الجريمة والعقاب لديستوفيسكي، ذلك العمل الذي تتردد فيه الشخصية بين ما إن كانت خيرة أم شريرة، ما إن كان ما فعلته هو صائب أم هو جريمة بشعة يستحق عليها العقاب، ولعٌ مرضي بالحادثة، وانهماك متطرف بها، كما يجري في «قصتي الحقيقية».
الطريقة التي يقرر بها بطل القصة تجسيد حالة الانهيار التي يمر بها بين أسئلته هذه التي يطرحها على نفسه كمجرم، هي الكتابة، يستثمر ذلك أيضًا وبشكل ممتاز في محاولته الحثيثة لإرضاء والده، كما ذكرت في بداية هذه المقالة، فأبوه قارئ، وإذا ما كان قارئًا فيمكن أن يحقق بطل القصة تواصلًا فعليًا مع أبيه بالكتابة، أو كما يقول في مشهد روائي رائع لأبيه عن اهتمامه بالكتابة: لو كنتَ سجانًا يا أبي فسأكون سجينًا ! يدون إذن حكايته في مذكرة يحتفظ بها في مكان قصي عن متناول يد أمه التي يعيش معها بمفرده بعد أن تركهما الأب، الأمر الذي ادعى أنه بسببه بطبيعة الحال! كما كل شيء سيئ يحدث بسبب هذا الابن المنحوس فحسب!
نشتبك إذن في هذه النوفيلا القصيرة مع سؤال الكتابة، ما الذي يجعل مني كاتبة مثلاً؟ وكيف سأكتب ما أريد قوله فعلاً. ثم إنني ما إن أفعل ذلك، ما الحدود بين الشخصي والمتخيل، هل ستكتشف أمه أن الجسر الذي ينتحر من عليه طفل صغير كتب عنه في قصة قصيرة فازت على مستوى إسبانيا، بأنه الجسر نفسه الذي أسقط منه كرته الزجاجية التي ستقتل عائلة إيريني وتجعلها طفلة وامرأة معوقة مقطوعة الساق للأبد؟ في هذا الاشتباك المحتدم الذي ينجح مياس في صناعته، يمرر لنا الممارسات العائلية التي نألفها، كالأسرار التي نقرر رغم معرفتنا بها ألا نكشفها لبعضنا البعض، للتواطؤ العائلي كما أحب أن أسميه على فاجعة ما، ودفنها تحت السجاد، أو تحت الزمن! يكتب بطلنا إذن، ويفوز، لكن فوزه هذا بالتحديد ما سيجعل أباه ينفر من قراءته، فالمؤلفون الذين يحصلون على الجوائز مبتذلون بالضرورة، رائجون، ويقدمون كتابة تجارية، الأمر الذي يكاد أن يُذهب عقل بطلنا الذي استمر في رباطة جأشه أمام والده القاسي هذا، واستمر في سعيه المحموم لإرضائه.
تكتشف مع مرور الوقت الأم علاقة ابنها بإريني، وما إن تدخل غرفته في أحد المساءات التي ظن فيها الابن أنها لن تعود إلى المنزل مبكرًا حتى تفجع بالساق الاصطناعية بجانب سرير ابنها بينما تستلقي هناك امرأة بساق واحدة، تطرده من البيت، فيلجأ لأبيه، هذا الأب الذي سيحب ابنه ويقبله أخيرًا، لماذا يا ترى؟ لقد أعجبه خيال ابنه، هذا الخيال الذي دفع هذا الولد ليحب ابنة مقطوعة الساق، يصبح الابن إذن كائنًا خياليًا، كائنًا حلميًا، تنتمي لعالم الأب أخيرًا، العالم الذي يفقه فيه، عالم الأحلام في الكتب، وها هو أخيرًا في ظل قبول الأب وخيلاء الظفر بهذا القبول. يختم مياس الرواية على لسان بطله: «أشعر أنني مدان منذ ميلادي بنوع من اللاواقعية».
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية