تُحولنا آلة الإعلام جميعًا إلى شاهد، شاهد متورط خاطوا فمه وكبلوا يديه وشلوا قدميه، شاهد تتسعُ عيناه ثمّ تضيق، لا أكثر من ذلك ولا أقل، فالحقيقة الواضحة كشمس، لا تزال تُمحص وتُفحص بمناظير لا نهائية ريثما تأتي الكلمة العليا التي تُدين وتُوقف المهزلة التاريخية !
نتحول إلى شاهد سلبي هش، فبينما يشتكي عضو من جسدنا العربي، نعجزُ عن التداعي له بالسهر والحمى! رغم أننا سائر ذلك الجسد المتوجع المتفجع بالضرورة ! فهل بُترنا على حين غرة؟
***
كيف نمضي بصفتنا الشهود الواقعيين، لزهو أيامنا ولزينة أعيادنا، دون أن تخدش أوجاعهم اطمئناننا؟ وكيف نلبسُ زينتنا وأنينهم يثقبُ الأحجار الصلدة؟ كيف نفتشُ عن بهجتنا، رغم ما يُقرعُ فينا من أجراس الخديعة والخذلان؟ ومن سيطفئ جمر حرقتهم والصراخ الذي يأتي من تحت الأنقاض ليُرافق كوابيسهم الليلية؟ كيف سنوزعُ العيدية وصغارهم شاخوا من هول ما رأوا من موت؟ من قرع قدورهم الخاوية، ومن أحمال تنوء بها الجبال؟ وكيف سنعلقُ الأضاحي، وهم يربطون الحجارة على بطونهم؟
***
صورة الحياة التي نعيشها -كمتفرجين وشهود طوال الأشهر الماضية- ملأى بالغرابة والتناقضات، وكأنّ هنالك من يسحق صورتنا تحت توحش آلة الإبادة، التي لسبب غامض سُمح ألا تجرم حتى اللحظة، في أكثر أزمنة الحقيقة فضحًا لحظة بلحظة. لدرجة أننا بتنا نفكر بضرورة أن نُغلقُ نشرات الأخبار والهواتف لكيلا تسيل دماؤهم منها فتلطخ حياتنا باللوم والاضطراب. نفكر بضرورة أن نشيح بوجوهنا لكيلا ننظر لأجسادهم المبتورة، فيأكلنا العار والخجل المضني. نُغلق أفواه أبنائنا لكيلا نتورط بأسئلتهم المحمومة باعتبارهم الشهود الجُدد على بؤس المرحلة !
***
لكن السؤال الذي يُعذبني على نحو خاص منذُ بداية الحرب على غزّة: كيف يرى أحدنا -بصفته شاهدا- ما يرى من هول الأفعال وبشاعتها، فينفعلُ قليلا، ويتشنج ثمّ يعود لينسجم؟ -إنّه واقعي الشخصي بقدر ما قد يكون واقع الغير أيضا- هكذا كمن يُلقي ثمرة في فلج ماء جارٍ فتشرخُ الثمرة الماء ثمّ ما يلبث أن يلتئم. وكأنّ ألمنا قصير المدى، قصير التأثير، قصير الوقع، إذ سرعان ما تُعيد حياتنا اليومية -بحلوها ومرها- تخديرنا، تخدير وعينا، وخلق الأسوار العالية التي تعزلنا عن فداحة الحقيقة!
****
بتنا نشكُ حقًا، هل كان الضحايا -الذين شهدنا على موتهم- بشرًا بحيوات وقصص، ولهم بيوت ومدارس وأفراح ومسرات أم كانوا مجرد استعارات عابرة لتسويغ مشاعرنا القاتمة؟
****
علينا أن نحتفل، فقد صارت القضية الفلسطينية مركز اهتمام الناس، فها هو العالم البائس - بصفته الشاهد الجديد- يستيقظُ من سباته ليعرف جزءًا من الحقيقة، لكن كم مليون جثة، كم مأساة ومجزرة سنحتاج أيضا ليعرف العالم بقية القصّة؟
***
ترى.. كيف سيعبر العيد بيننا هذا العام، مُضمِرًا حزنه تحت التحايا والثياب الجديدة والابتسامات، أمّ شاهرًا تجاهله وانعدام رأفته؟ مُتلذذًا باختطاف أرواح جديدة، أم أقلّ حدّة وأكثر ميلًا لإرساء مكتسبات البشرية من الإنصاف الدولي، الإنصاف الغائب حتى اللحظة؟
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
نتحول إلى شاهد سلبي هش، فبينما يشتكي عضو من جسدنا العربي، نعجزُ عن التداعي له بالسهر والحمى! رغم أننا سائر ذلك الجسد المتوجع المتفجع بالضرورة ! فهل بُترنا على حين غرة؟
***
كيف نمضي بصفتنا الشهود الواقعيين، لزهو أيامنا ولزينة أعيادنا، دون أن تخدش أوجاعهم اطمئناننا؟ وكيف نلبسُ زينتنا وأنينهم يثقبُ الأحجار الصلدة؟ كيف نفتشُ عن بهجتنا، رغم ما يُقرعُ فينا من أجراس الخديعة والخذلان؟ ومن سيطفئ جمر حرقتهم والصراخ الذي يأتي من تحت الأنقاض ليُرافق كوابيسهم الليلية؟ كيف سنوزعُ العيدية وصغارهم شاخوا من هول ما رأوا من موت؟ من قرع قدورهم الخاوية، ومن أحمال تنوء بها الجبال؟ وكيف سنعلقُ الأضاحي، وهم يربطون الحجارة على بطونهم؟
***
صورة الحياة التي نعيشها -كمتفرجين وشهود طوال الأشهر الماضية- ملأى بالغرابة والتناقضات، وكأنّ هنالك من يسحق صورتنا تحت توحش آلة الإبادة، التي لسبب غامض سُمح ألا تجرم حتى اللحظة، في أكثر أزمنة الحقيقة فضحًا لحظة بلحظة. لدرجة أننا بتنا نفكر بضرورة أن نُغلقُ نشرات الأخبار والهواتف لكيلا تسيل دماؤهم منها فتلطخ حياتنا باللوم والاضطراب. نفكر بضرورة أن نشيح بوجوهنا لكيلا ننظر لأجسادهم المبتورة، فيأكلنا العار والخجل المضني. نُغلق أفواه أبنائنا لكيلا نتورط بأسئلتهم المحمومة باعتبارهم الشهود الجُدد على بؤس المرحلة !
***
لكن السؤال الذي يُعذبني على نحو خاص منذُ بداية الحرب على غزّة: كيف يرى أحدنا -بصفته شاهدا- ما يرى من هول الأفعال وبشاعتها، فينفعلُ قليلا، ويتشنج ثمّ يعود لينسجم؟ -إنّه واقعي الشخصي بقدر ما قد يكون واقع الغير أيضا- هكذا كمن يُلقي ثمرة في فلج ماء جارٍ فتشرخُ الثمرة الماء ثمّ ما يلبث أن يلتئم. وكأنّ ألمنا قصير المدى، قصير التأثير، قصير الوقع، إذ سرعان ما تُعيد حياتنا اليومية -بحلوها ومرها- تخديرنا، تخدير وعينا، وخلق الأسوار العالية التي تعزلنا عن فداحة الحقيقة!
****
بتنا نشكُ حقًا، هل كان الضحايا -الذين شهدنا على موتهم- بشرًا بحيوات وقصص، ولهم بيوت ومدارس وأفراح ومسرات أم كانوا مجرد استعارات عابرة لتسويغ مشاعرنا القاتمة؟
****
علينا أن نحتفل، فقد صارت القضية الفلسطينية مركز اهتمام الناس، فها هو العالم البائس - بصفته الشاهد الجديد- يستيقظُ من سباته ليعرف جزءًا من الحقيقة، لكن كم مليون جثة، كم مأساة ومجزرة سنحتاج أيضا ليعرف العالم بقية القصّة؟
***
ترى.. كيف سيعبر العيد بيننا هذا العام، مُضمِرًا حزنه تحت التحايا والثياب الجديدة والابتسامات، أمّ شاهرًا تجاهله وانعدام رأفته؟ مُتلذذًا باختطاف أرواح جديدة، أم أقلّ حدّة وأكثر ميلًا لإرساء مكتسبات البشرية من الإنصاف الدولي، الإنصاف الغائب حتى اللحظة؟
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى