من الكتب التي أعود إليها دائمًا كتاب المثقف الكبير أحمد حسين الطماوي عن «محمد صبري السربوني/الصادر عام 1986م» ، فقد تناول مسيرة هذا الأديب والناقد والمؤرخ الذي أشاد به الأدباء والمؤرخون ، ورغم ذلك فلم يحظ بعناية مناسبة لا من المؤرخين ولا من نقاد الأدب ، ولعل السبب في ذلك إقامته الطويلة في باريس فضلاً عن خشونة تعامله مع أقرانه، على الرغم من إلإشادة بنتاجه الفكري من قبل قامات من قبيل: طه حسين والعقاد والرافعي وميخائيل نعيمة وعبد الرحمن شكري وغيرهم.

ترجع إطلاق لقب السربوني على محمد صبري حينما أطلق عليه بعض المقربين منه هذا اللقب نظرًا لطول الفترة التي كان يقضيها في فرنسا، ولأنه كان كثير التفاخر بأنه أحد طلاب جامعة السوربون. وتعددت اهتمامات الرجل حيث عُني بدراسة تراث كبار الشعراء العرب خصوصًا ما أبدعوه من شعر مس قلوب الناس لدرجة أن الكثيرين من معاصريه قد عدوه في مصاف مؤرخي ونقاد الأدب إلا أنه كان مؤرخًا كبيرًا، وقد حصل على الدكتوراة في التاريخ الحديث من السوربون عام 1923م، ويعد المؤرخ الأهم لتاريخ مصر خلال القرن التاسع عشر، ولعله أول من عُني بالوثائق في دراساته، محللاً وناقدًا، وفتح حوارات مع المؤرخين الفرنسيين والإنجليز فيما كتبوه عن مصر والسودان .

توطدت العلاقة بين الأستاذ أحمد حسين الطماوي والدكتور السربوني وتعرف الطماوي عن كثب على جُل مؤلفاته وأفكاره التي كثيرًا ماكانت تحدث ردود فعل هائلة طوال النصف الأول من القرن العشرين، وفي كل ما كتب السربوني كان ثائرًا على نفسه وعلى أصدقائه وعلى كل معاصريه، وكان في كل ما كتب معتدًا بنفسه محلقًا دائمًا ضد التيار، والعجيب في الأمر أنه قد كتب أول أعماله (شعراء العصر) وهو في عمر السادسة عشرة عامًا (1910) وتبعه بالجزء الثاني عام 1912م، وهو عبارة عن ترجمة لعدد كبير من الشعراء العرب المعاصرين، كما نشر مقالات كثيرة في الصحف ابتداءً من عام 1912م ، وكان متأثرًا بما كتبه الأدباء والشعراء العرب القدامى، ونشرت له صحيفة الأهرام 1911م قصيدة عن حرب طرابلس تحت عنوان: «يا بنت روما»، وكان سيء الحظ حينما أخطأت الصحيفة ونسبتها إلى الشاعر إسماعيل صبري (1854 ـــ 1923م) الذي اعترف بخطأ الأهرام إلا أن الغريب في الأمر أن إسماعيل صبري قد أعاد نشرها في ديوانه تحت عنوان: «الحرب الإيطالية في طرابلس»، ولم يستمر السربوني في كتابة الشعر طويلاً بل مضى نحو الدراسات الأدبية والاجتماعية والفكرية .

سافر محمد صبري إلى باريس عقب حصوله على الثانوية العامة (البكالوريا) عام 1913م وأقام في مارسيليا، انتقل بعدها إلى ليون حيث أجاد اللغة الفرنسية وشغف بشعر وأدب كل من «لامارتين»، و»فيكتور هوجو»، وفي عام 1915م حصل على ليسانس الآداب من المدارس الفرنسية بعدها التحق بجامعة السوربون متخصصًا في علم التاريخ الحديث، وارتبط بعلاقات وثيقة مع أساتذته،

وكان زميلاً لطه حسين الذي اجتاز امتحان الدكتوراة من أول مرة بينما أعاد السربوني الامتحان، وقد سيطر عليه شعور بأن الأساتذة قد جاملوا زميله بسبب زواجه من سوزان الفرنسية، وقد حصل على الدكتوراة عام 1923م، وهو أول مصري يحصل على دكتوراة الدولة من السربون .

في عام 1919م التقى السربوني بسعد زغلول لأول مرة في باريس حيث كان يترأس الوفد المصري لحضور مؤتمر الصلح بشأن النظر في إلغاء الحماية البريطانية على مصر، وقد اختير مترجمًا للوفد المصري في المؤتمر، وقد ارتبط ارتباطًا وجدانيًا بسعد زغلول ومن بين ما قاله له: «إذا كنت تريد للثورة أن تستمر ضد الإنجليز فعلينا أن نعيد كتابة تاريخ مصر»، وقد أجابه سعد بجملة تهكمية: «ما تكتبه انت يافالح، هاكتبه أنا؟»، ولعل ذلك كان حافزًا للسربوني لكي يعجّل بنشر كتابه الأول «الثورة المصرية 1919م» وقدم له المؤرخ الفرنسي الشهير «أولار»، وقد تعرض المؤلف في هذا الكتاب للفظائع التي ارتكبها الإنجليز في حق المصريين خلال ثورة 1919م، وعرّف تعريفًا وافيًا بدور المرأة المصرية في الثورة فضلاً عن دور أقباط مصر، ورغم أن الكتاب قد أحدث ضجة كبيرة في الصحف الفرنسية إلا أنه صودر في مصر بناء على طلب الملك فؤاد الذي قال عنه السربوني: «إنه ملك بلا شعبية»، أعقب ذلك بكتاب آخر عن القضية المصرية منذ بونابرت إلى ثورة 1919م، وتتابعت كتاباته باللغة الفرنسية فأصدر عام 1921م الجزء الثاني من كتاب «الثورة المصرية 1919م»، بعدها عاد السربوني إلى مصر عام 1921م حيث عمل بصحيفة السياسة، وكان ينشر فيها مقالاته التاريخية والسياسية والأدبية، جاءت بعدها أعمال أخرى جميعها باللغة الفرنسية حينما نشر مجموعة من المؤلفات عن الثورة الإيطالية (1922م)، والثورة العرابية (1924م)، والثورة الفرنسية (1927م)، وفي العام ذاته (1927م) أصدر كتابًا آخر عن الثورة الأمريكية، ولم يكن السربوني في كل ما كتب مجرد سارد للأحداث ولكنه كان محللاً ومعقبًا ومناقشًا ومحلقًا في الطاقات الإنسانية للثورات .

عقب حصول السربوني على الدكتوراة من السربون عاد للعمل مدرسًا للتاريخ في مدرسة المعلمين العليا عام 1924م، ثم التحق بالجامعة المصرية حين افتتاحها عام 1925م، ثم نُقل إلى كلية دار العلوم عام 1927م، ولم يتوقف عن التأليف والكتابة التي تنوعت ما بين التاريخ والأدب حينما نشر كتاب «أدب وتاريخ» عام 1927م، وقد واجه الرجل طوال حياته قدرًا كبيرًا من القسوة من إدارة الجامعة إلى أن صدر قرار في عام 1949م بنقله إلى العمل مديرًا للمطبوعات الحكومية، بعدها شعر بقدر كبير من الإهمال، ما اضطره للحصول على إجازة مفتوحة من العمل راح يتنقل فيها ما بين بريطانيا وفرنسا وتركيا لكي يطلع على ما احتوته أرشيفات تلك الدول عن القضية المصرية، وأصدر المجلد الأول عن الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي ونشره في باريس عام 1930، وفي عام 1933م أصدر الجزء الثاني من كتاب الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل، وبعد عناء ونفقات مالية باهظة بسبب أسفاره راح يفكر في عمل علمي آخر «تقسيم الإمبراطورية المصرية»، ولعل الدولة المصرية قد شعرت بقدر من الظلم لهذا الرجل لذا عينته في وظيفة «مديرًا للبعثة التعليمية في جنيف» عام 1934م، ولعله قد شعر بقدر كبير من الراحة النفسية لذا راح يدرس الفنون، ويتردد على المتاحف، واقتناء دوائر المعارف في مختلف الفنون والثقافات، وجمع القطع الفنية من التحف واللوحات، وخلال هذه الفترة الهادئة من حياته لم ينشر إلا دراسة واحدة عن نوبار باشا (رئيس مجلس النظار) .

عاد السربوني إلى مصر عام 1939م ليشغل مرة أخرى وظيفة مديرًا للمطبوعات الحكومية، وقد شغف بدراسة التراث الأدبي والشعري، وأصدر كتابا في هذا المجال (الشعراء الشوامخ) عام 1944م، وقد اعتبر أن كل ما كتبه هؤلاء الشعراء يعد النبع الصافي لكل شعر جديد وقد نشر كتابًا عن «امرؤ القيس» عام 1944م، وفي العام نفسه أصدر الجزء الثاني عن «الشعر الجاهلي أعلامه وخصائصه»، وقد اختلف مع الدكتور طه حسين حينما قال بأن معظم الشعر الجاهلي منحول ودارت بينهما معركة على صفحات الصحف المصرية، ثم مضى السربوني في استكمال مشروعه في الكتابة حينما أصدر عام 1944م الجزء الثالث من كتاب شوامخ الشعراء عن «ذي الرمة»، ثم لحقه بجزء آخر عن «البحتري»، وكان في كل ما كتب السربوني منتصرًا للقيم الجمالية والفنية للشعر العربي، مؤمنًا بالحياة، متغنيًا بجمالها، إلا أنه في أواخر أيامه تعرض لظروف اجتماعية قاسية وضاق صدره وانقطعت صلته بأصدقائه، وانتابه شعور بأن الجميع يكيدون له المكائد، وقد زهد في كل شيء حتى في الكتابة والشهرة، وفي مساء 18 يناير 1978م صعدت روحه إلى بارئها، ونعته الصحف والمجلات المصرية، وكتب عنه البعض ممن عرفوا فضله .

أعتقد أننا أحوج ما نكون إلى دراسة النتاج العلمي والفكري لهذا العالم الجليل الذي ملأ الدنيا كتابة وفكرًا، وقد عرف فضله الأوروبيون قبل العرب، إلا أنه خلال السنوات العشر الأخيرة تنبه قطاع الترجمة بوزارة الثقافة المصرية فترجم الكثير من أعماله التي أتيحت للباحثين والنقاد والمؤرخين، رحم الله محمد صبري السربوني بقدر ما قدم لأمته.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).