في واحدة من سفراته العديدة اتصل عبد العزيز الفارسي بصديقه وابن مدينته شناص؛ الشاعر أحمد مسلّط، في وقت متأخر من الليل يسأله ما إذا كان محتفظًا بأي صورة لــ"ألطاف"؛ الباكستاني صاحب المطعم المعروف في شناص. "لا. لكنني سأبحث عن الصورة وأرسلها لك"، هكذا ردّ مسلّط كما روى في شهادته التي قُرِئتْ في مقهى "هوملاند" بالمعبيلة قبل نحو عام من اليوم في جلسة تأبينية للأديب العُماني بمناسبة مرور سنة على رحيله. وَفَى الشاعر بوعده وأرسل لعبد العزيز ثلاث صور لألطاف لا واحدة، لكنه أطلق تعليقًا على طلب صديقه يليق بشاعر: "أيقنتُ حينها أن عبد العزيز في هذه اللحظة مشحونٌ بالحنين إلى شناص".
إذا سلمنا أن مشروع الكاتب عبد العزيز الفارسي القصصي الأبرز ارتكز على مدينته شناص، كما أعلن هو نفسه في أكثر من حوار، وكما لاحظ ذلك أكثر من ناقد ممن تناولوا قصصه بالتحليل والتأمل، إلى حد اجتراح مصطلحٍ جديدٍ لمواكبة كتابته هو "شنصنة السرد"، وإذا سلمنا أيضًا أن أجمل قصصه في مجموعاته القصصية الثلاث الأخيرة ("وأخيرًا استيقظ الدب" و"الصندوق الرمادي"، و"رجل الشرفة؛ صياد السحب") هي تلك التي استلهمت عوالمها وأحداثها وشخصياتها من هذه المدينة الواقعة في شمال عمان، إذا سلمنا بذلك فإن بؤرة هذه العوالم بلا منازع، ومركزها الذي ينطلق منه رصاص الحكايات ويرتد إليه؛ هو مطعم "ألطاف"، وهنا تكمن المفارقة العجيبة التي لا أظنها إلا مقصودة، فألطاف الباكستاني الذي هو في الظاهر ليس شناصيًّا، يصير أهم شاهد على التغيرات في هذه المدينة خلال ما يقرب من نصف قرن، وأقول "في الظاهر" لأنه لا يمكن لألطاف إلا أن يكون شناصيًّا حتى النخاع، إذا ما تأملنا التساؤلات الوجيهة لمنى حبراس: "ما الذي يجعل شخصيّة ما في النص شخصيّة شناصية وشخصيّة أخرى غير ذلك؟ هل يكفي انتماؤها إلى المكان؟ أو تكفي معرفتها بأحداثه وتفاعلها معها؟"، لا تترك لنا الناقدة فُرصةً للتفكّر في هذه الأسئلة التي طرحتها في دراستها المعنونة "شنصنة السرد"، والمنشورة في كتابها الأخير "لا شيء أكثر أهمية من متعة اللعب"، فها هي تُتْبِعها بسؤال آخر يكاد يتضمن الإجابة في فمه: "فهذا ألطاف ليس مواطنًا، ولكن ألا يكون شناصيًّا بدخوله طرَفًا في حكايات المكان وفاعلا فيه، بل وعارفا بحكايات أهله، وهو صاحب أهم معالمه؛ مطعم ألطاف؟".
الإجابة بلى بالطبع. فألطاف؛ الباكستاني المولود في إسلام أباد عام 1950، والذي يستقرّ هو ومطعمه في شناص منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي (أي منذ ولادة عبد العزيز الفارسي)، ليس فقط "طرفًا في حكايات المكان وفاعلًا فيه"، بل إن حكايات شناص المُدهشة لا تكتمل بدونه، وتفقد طرافتها في غيابه، وهذا ما يفسّر تكرر اسم "ألطاف" في قصص عبد العزيز 48 مرة (حسب إحصاء شخصي)، وتمنّي السارد في إحدى القصص أن يكتب ألطاف "سيرة الليالي في مطعمه الذي يعجن دقيق حكاياتنا، وأفراحنا، والأمل، ليسلّمه إلى أفواهنا خبزًا ساخنًا نخاتل به أحلامنا الجائعة".
والحق أن ألطاف كتب هذه السيرة بالفعل؛ سيرة الليالي والنهارات معًا، لا بقلمه، وإنما بمطعمه الذي أطّر هذه الحكايات، وفرش لها الأرضية المناسبة. وللتدليل على ذلك سأضرب مثالًا بقصة "المستثمر"، المنشورة في مجموعة "وأخيرًا استيقظ الدب"، وهي واحدة من أجمل القصص التي كتبها عبد العزيز الفارسي. بدأت عُقْدة هذه القصة في مطعم ألطاف حين عرض حسن على خليل أن يستثمر عشرة آلاف ريال مع "البانيان" لينعم بفوائد سريعة لها، وخلال فترة التفكير في هذا الأمر سأل خليل مرتادي المطعم عن البانيان وتجارتهم دون أن يُفصح لهم عمّا يفكر فيه، وبعد أن قرر خوض المغامرة ودفع المبلغ للبانيان، حالِمًا بالثراء السريع، "ظل يومين آخرين مستمتعًا بأحلامه، يمازح رفاقه، ويأكل بنهم في مطعم ألطاف وفي البيت" (لنلاحظ هنا أن مطعم ألطاف تقدّم على البيت!)، وحين بدأت تساوره الشكوك - بسبب حكاية سمعها من زوجته - في كون البانيان محتالين وقد يغادرون شناص في أية لحظة بعد أن يسحبوا رصيدهم من البنك، قرر مراقبتهم، واتخذ من مطعم ألطاف مقرًّا لهذه المراقبة لأنه مقابِلٌ للبنك، وبعد فترة ليست بالقصيرة ساءت حالته الصحية لقلة الأكل وتفاقم الهَمّ فسقط مغشيًّا عليه في مطعم ألطاف بالذات، ومنه حُمِل إلى مستشفى صحار حيث سيقضى هناك أيامًا (وسيهذي في أحدها بمطعم ألطاف) قبل أن يلقى نهايته المُحزِنة.
لا يُمكن إذن أن نحذف مطعم ألطاف من هذه القصة دون أن يختّل توازنها وتفقد دهشتها، مثلما لا يمكن حذفه من قصة "صمام الشيخ"؛ الصادرة في مجموعة "الصندوق الرمادي"، والتي هي أيضًا من قصص الفارسي الجميلة. فقد بدأت عُقْدة هذه القصة أيضًا في مطعم ألطاف، بإخبار عبيد بن راشد رواد المطعم أن صمّام قلب الشيخ معطوب، ثم ظلت حكايات الشيخ أثناء رحلة علاجه لتركيب صمّام جديد في ألمانيا تُسرَد في المطعم. وحين عاد بعد أن رُكِّبَ له - دون علمه - صمامٌ لقلب خنزير، كان مطعم ألطاف مسرحًا لردة فعل الناس الطريفة، بهروبهم منه خشية أن تلحقهم النجاسة: "لأكثر من ثلاثين سنة، لم يَخْلُ مطعم ألطاف من زبون في أي وقت من أوقات النهار، أما أن يختفي كل الزبائن وألطاف نفسه من المطعم بعد خمس دقائق من دخول الشيخ إليه قبيل صلاة المغرب، فقد كان واقعة لا تُنسى"!
الطريف في مطعم ألطاف أنه لم يكتفِ بأن يكون شاهدًا فقط على الأحداث والحكايات الحقيقية التي لا شكّ في حدوثها، بل اعتمدتْ عليه أيضًا تلك الحكاياتُ المزيّفة واضحةُ الكذب؛ فهذا أبو الخصور في قصة "الصندوق الرمادي" بعد أن سرد حكايته الكاذبة عن طائرة متوجهة إلى تايلند كان هو على متنها، وتعطلت لدى وصولها أجواء الهند، وبعد أن استُعِين به بصفته مهندس طائرات لا يشق له غبار فأصلحها وهي في الجوّ، طلب من الطيار مكافأة له على صنيعه أن يُعيده إلى عُمان لأنه كَرِه مواصلة الرحلة، واشتاق إلى مطعم ألطاف! وها هو أبو الخصور أيضًا بعد أن اخترع كذبة مفضوحة أخرى (في القصة نفسها) يزعم فيها أن صناديق الرادارات التي نُصِبتْ في شوارع شناص ليست إلا سينما حكومية جُلبت إلى الولاية تزامنا مع الاحتفالات بالعيد الوطني لتعرض صور مولانا – ها هو يستعين بألطاف ليُضفي إقناعًا على كذبته: "سامحنا ألطاف ما بنقدر نعزمك على السينما باكر. تراها بس للمواطنين"! وها هو عبيد بن راشد في قصة "صمام الشيخ" لا يكتفي بإخبار رواد المطعم بأن عملية تركيب صمّام للشيخ قد نجحت (وهي واقعةٌ صحيحة)، وإنما يُضفي عليها بعض البهارات الكاذبة من مخيلته: ((يا أخي الشيخ رجع مثل قبل، وقالوا له: "ما فيك إلا العافية. روح شناص وسلّم على الجماعة كلهم". حتى خَصُّوا ألطاف بسلام. يعرفوا عن مطعمه في ألمانيا))! لقد كان ألطاف ومطعمَه شاهدَيْن على كل الأكاذيب التي لُفِّقتْ في شناص إلى درجة أنْ خوطِبتْ إحدى الشخصيات الكاذبة بالقول: "أنا والله أحاتي مطعم ألطاف يطيح علينا من هالكذب اللي تكذبه"!
كانت تلك نبوءة أولى بزوال المطعم أجراها عبد العزيز الفارسي على لسان أحد أبطال قصة "الصندوق الرمادي"، أما النبوءة الثانية فجاءت على لسان الفارسي نفسه؛ مؤلف وسارد قصة "الرائحة" المنشورة في مجموعته الأخيرة "رجل الشرفة؛ صياد السحب"، حين أخبرنا أن جهاز "سميل 3" اختفى من الأسواق ولم تبق منه إلا ثلاث نسخ؛ إحداها في "متحف ألطاف بشناص"! وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي يذكر فيها الفارسي ألطاف، وهي المرة الثامنة والأربعون خلال تجربته القصصية ككل، واللافت للنظر أنها المرة الوحيدة التي لم يكن فيها اسم ألطاف مرتبطًا بمطعم أو مقهى، بل بمتحف هذه المرة؛ الرمز الذي يحيل دائمًا إلى الأشياء المنتهية، وكأن عبدالعزيز الفارسي - الذي ستحل بعد عدة أيام ذكرى رحيله الثانية في 10 أبريل 2022م - كان يعلم أن بلدية شناص، وفي إطار خطتها لتجديد سوق الولاية، ستُخْطِرُ بعد عامَيْن من رحيله مديرَ مطعم ألطاف بقرارها إزالته من مكانه خلال عدة شهور من تاريخ هذا الإخطار، ليصبح مجرد ذكرى عبرت في قصص كاتب عُمانيّ، وكأن عبدالعزيز أيضًا وهو يُبدع في تصوير مطعم ألطاف ويتفنن في سرد حكاياته في غير كتابٍ من كتبه كان يستحضر داخله وهو يكتب عبارة جيمس جويس عن مدينته الأثيرة دبلن: "إنني أريد أن أصوّر دبلن تصويرًا دقيقًا، غايةً في الكمال، حتى إذا ما زالت على حين بغتة من على سطح الأرض، كان في الإمكان إعادة بنائها استنادًا إلى كتابي".
إذا سلمنا أن مشروع الكاتب عبد العزيز الفارسي القصصي الأبرز ارتكز على مدينته شناص، كما أعلن هو نفسه في أكثر من حوار، وكما لاحظ ذلك أكثر من ناقد ممن تناولوا قصصه بالتحليل والتأمل، إلى حد اجتراح مصطلحٍ جديدٍ لمواكبة كتابته هو "شنصنة السرد"، وإذا سلمنا أيضًا أن أجمل قصصه في مجموعاته القصصية الثلاث الأخيرة ("وأخيرًا استيقظ الدب" و"الصندوق الرمادي"، و"رجل الشرفة؛ صياد السحب") هي تلك التي استلهمت عوالمها وأحداثها وشخصياتها من هذه المدينة الواقعة في شمال عمان، إذا سلمنا بذلك فإن بؤرة هذه العوالم بلا منازع، ومركزها الذي ينطلق منه رصاص الحكايات ويرتد إليه؛ هو مطعم "ألطاف"، وهنا تكمن المفارقة العجيبة التي لا أظنها إلا مقصودة، فألطاف الباكستاني الذي هو في الظاهر ليس شناصيًّا، يصير أهم شاهد على التغيرات في هذه المدينة خلال ما يقرب من نصف قرن، وأقول "في الظاهر" لأنه لا يمكن لألطاف إلا أن يكون شناصيًّا حتى النخاع، إذا ما تأملنا التساؤلات الوجيهة لمنى حبراس: "ما الذي يجعل شخصيّة ما في النص شخصيّة شناصية وشخصيّة أخرى غير ذلك؟ هل يكفي انتماؤها إلى المكان؟ أو تكفي معرفتها بأحداثه وتفاعلها معها؟"، لا تترك لنا الناقدة فُرصةً للتفكّر في هذه الأسئلة التي طرحتها في دراستها المعنونة "شنصنة السرد"، والمنشورة في كتابها الأخير "لا شيء أكثر أهمية من متعة اللعب"، فها هي تُتْبِعها بسؤال آخر يكاد يتضمن الإجابة في فمه: "فهذا ألطاف ليس مواطنًا، ولكن ألا يكون شناصيًّا بدخوله طرَفًا في حكايات المكان وفاعلا فيه، بل وعارفا بحكايات أهله، وهو صاحب أهم معالمه؛ مطعم ألطاف؟".
الإجابة بلى بالطبع. فألطاف؛ الباكستاني المولود في إسلام أباد عام 1950، والذي يستقرّ هو ومطعمه في شناص منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي (أي منذ ولادة عبد العزيز الفارسي)، ليس فقط "طرفًا في حكايات المكان وفاعلًا فيه"، بل إن حكايات شناص المُدهشة لا تكتمل بدونه، وتفقد طرافتها في غيابه، وهذا ما يفسّر تكرر اسم "ألطاف" في قصص عبد العزيز 48 مرة (حسب إحصاء شخصي)، وتمنّي السارد في إحدى القصص أن يكتب ألطاف "سيرة الليالي في مطعمه الذي يعجن دقيق حكاياتنا، وأفراحنا، والأمل، ليسلّمه إلى أفواهنا خبزًا ساخنًا نخاتل به أحلامنا الجائعة".
والحق أن ألطاف كتب هذه السيرة بالفعل؛ سيرة الليالي والنهارات معًا، لا بقلمه، وإنما بمطعمه الذي أطّر هذه الحكايات، وفرش لها الأرضية المناسبة. وللتدليل على ذلك سأضرب مثالًا بقصة "المستثمر"، المنشورة في مجموعة "وأخيرًا استيقظ الدب"، وهي واحدة من أجمل القصص التي كتبها عبد العزيز الفارسي. بدأت عُقْدة هذه القصة في مطعم ألطاف حين عرض حسن على خليل أن يستثمر عشرة آلاف ريال مع "البانيان" لينعم بفوائد سريعة لها، وخلال فترة التفكير في هذا الأمر سأل خليل مرتادي المطعم عن البانيان وتجارتهم دون أن يُفصح لهم عمّا يفكر فيه، وبعد أن قرر خوض المغامرة ودفع المبلغ للبانيان، حالِمًا بالثراء السريع، "ظل يومين آخرين مستمتعًا بأحلامه، يمازح رفاقه، ويأكل بنهم في مطعم ألطاف وفي البيت" (لنلاحظ هنا أن مطعم ألطاف تقدّم على البيت!)، وحين بدأت تساوره الشكوك - بسبب حكاية سمعها من زوجته - في كون البانيان محتالين وقد يغادرون شناص في أية لحظة بعد أن يسحبوا رصيدهم من البنك، قرر مراقبتهم، واتخذ من مطعم ألطاف مقرًّا لهذه المراقبة لأنه مقابِلٌ للبنك، وبعد فترة ليست بالقصيرة ساءت حالته الصحية لقلة الأكل وتفاقم الهَمّ فسقط مغشيًّا عليه في مطعم ألطاف بالذات، ومنه حُمِل إلى مستشفى صحار حيث سيقضى هناك أيامًا (وسيهذي في أحدها بمطعم ألطاف) قبل أن يلقى نهايته المُحزِنة.
لا يُمكن إذن أن نحذف مطعم ألطاف من هذه القصة دون أن يختّل توازنها وتفقد دهشتها، مثلما لا يمكن حذفه من قصة "صمام الشيخ"؛ الصادرة في مجموعة "الصندوق الرمادي"، والتي هي أيضًا من قصص الفارسي الجميلة. فقد بدأت عُقْدة هذه القصة أيضًا في مطعم ألطاف، بإخبار عبيد بن راشد رواد المطعم أن صمّام قلب الشيخ معطوب، ثم ظلت حكايات الشيخ أثناء رحلة علاجه لتركيب صمّام جديد في ألمانيا تُسرَد في المطعم. وحين عاد بعد أن رُكِّبَ له - دون علمه - صمامٌ لقلب خنزير، كان مطعم ألطاف مسرحًا لردة فعل الناس الطريفة، بهروبهم منه خشية أن تلحقهم النجاسة: "لأكثر من ثلاثين سنة، لم يَخْلُ مطعم ألطاف من زبون في أي وقت من أوقات النهار، أما أن يختفي كل الزبائن وألطاف نفسه من المطعم بعد خمس دقائق من دخول الشيخ إليه قبيل صلاة المغرب، فقد كان واقعة لا تُنسى"!
الطريف في مطعم ألطاف أنه لم يكتفِ بأن يكون شاهدًا فقط على الأحداث والحكايات الحقيقية التي لا شكّ في حدوثها، بل اعتمدتْ عليه أيضًا تلك الحكاياتُ المزيّفة واضحةُ الكذب؛ فهذا أبو الخصور في قصة "الصندوق الرمادي" بعد أن سرد حكايته الكاذبة عن طائرة متوجهة إلى تايلند كان هو على متنها، وتعطلت لدى وصولها أجواء الهند، وبعد أن استُعِين به بصفته مهندس طائرات لا يشق له غبار فأصلحها وهي في الجوّ، طلب من الطيار مكافأة له على صنيعه أن يُعيده إلى عُمان لأنه كَرِه مواصلة الرحلة، واشتاق إلى مطعم ألطاف! وها هو أبو الخصور أيضًا بعد أن اخترع كذبة مفضوحة أخرى (في القصة نفسها) يزعم فيها أن صناديق الرادارات التي نُصِبتْ في شوارع شناص ليست إلا سينما حكومية جُلبت إلى الولاية تزامنا مع الاحتفالات بالعيد الوطني لتعرض صور مولانا – ها هو يستعين بألطاف ليُضفي إقناعًا على كذبته: "سامحنا ألطاف ما بنقدر نعزمك على السينما باكر. تراها بس للمواطنين"! وها هو عبيد بن راشد في قصة "صمام الشيخ" لا يكتفي بإخبار رواد المطعم بأن عملية تركيب صمّام للشيخ قد نجحت (وهي واقعةٌ صحيحة)، وإنما يُضفي عليها بعض البهارات الكاذبة من مخيلته: ((يا أخي الشيخ رجع مثل قبل، وقالوا له: "ما فيك إلا العافية. روح شناص وسلّم على الجماعة كلهم". حتى خَصُّوا ألطاف بسلام. يعرفوا عن مطعمه في ألمانيا))! لقد كان ألطاف ومطعمَه شاهدَيْن على كل الأكاذيب التي لُفِّقتْ في شناص إلى درجة أنْ خوطِبتْ إحدى الشخصيات الكاذبة بالقول: "أنا والله أحاتي مطعم ألطاف يطيح علينا من هالكذب اللي تكذبه"!
كانت تلك نبوءة أولى بزوال المطعم أجراها عبد العزيز الفارسي على لسان أحد أبطال قصة "الصندوق الرمادي"، أما النبوءة الثانية فجاءت على لسان الفارسي نفسه؛ مؤلف وسارد قصة "الرائحة" المنشورة في مجموعته الأخيرة "رجل الشرفة؛ صياد السحب"، حين أخبرنا أن جهاز "سميل 3" اختفى من الأسواق ولم تبق منه إلا ثلاث نسخ؛ إحداها في "متحف ألطاف بشناص"! وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي يذكر فيها الفارسي ألطاف، وهي المرة الثامنة والأربعون خلال تجربته القصصية ككل، واللافت للنظر أنها المرة الوحيدة التي لم يكن فيها اسم ألطاف مرتبطًا بمطعم أو مقهى، بل بمتحف هذه المرة؛ الرمز الذي يحيل دائمًا إلى الأشياء المنتهية، وكأن عبدالعزيز الفارسي - الذي ستحل بعد عدة أيام ذكرى رحيله الثانية في 10 أبريل 2022م - كان يعلم أن بلدية شناص، وفي إطار خطتها لتجديد سوق الولاية، ستُخْطِرُ بعد عامَيْن من رحيله مديرَ مطعم ألطاف بقرارها إزالته من مكانه خلال عدة شهور من تاريخ هذا الإخطار، ليصبح مجرد ذكرى عبرت في قصص كاتب عُمانيّ، وكأن عبدالعزيز أيضًا وهو يُبدع في تصوير مطعم ألطاف ويتفنن في سرد حكاياته في غير كتابٍ من كتبه كان يستحضر داخله وهو يكتب عبارة جيمس جويس عن مدينته الأثيرة دبلن: "إنني أريد أن أصوّر دبلن تصويرًا دقيقًا، غايةً في الكمال، حتى إذا ما زالت على حين بغتة من على سطح الأرض، كان في الإمكان إعادة بنائها استنادًا إلى كتابي".