ولد إيلان بابيه في حيفا المحتلة عام 1954 لأبوين يهوديين فارَّين من ألمانيا النازية. وظل حتى مطلع شبابه «إسرائيليًا تقليديًا» كما يقول، فأتم وهو في الثامنة عشرة من عمره خدمته الإجبارية في جيش الاحتلال على الجبهة السورية في الجولان، خلال حرب أكتوبر عام 1973. لكن ولعه بقراءة التاريخ هو ما قاده لتغيير قناعاته السياسية والفكرية تدريجيًّا، قبل أن يعلن انشقاقه عن المعسكر المنتصر منحازًا للمعسكر المهزوم والرواية الغائبة. بدأ الأمر حين التحق بقسم تاريخ الشرق الأوسط في الجامعة العبرية. هناك حيث سينقِّب في الوثائق المتاحة بحثًا عن أثرٍ يدل على الفلسطيني الغائب، أو «العربي» الذي تركته النكبة شبحًا بلا رواية، بل بلا لغة يروي بها الرواية. ومن هناك سيقرر متابعة مشواره كمؤرخ، ولكن في جوٍّ أكاديمي آخر أكثر حرية وأقل تحيُّزًا، فقصد بريطانيا لإكمال دراسته العليا في أكسفورد التي فتحت له مناجم الأرشيف البريطاني وهياكله العظمية. وبعد سنوات على تلك الرحلة الاستكشافية، المضنية نفسيًّا وفكريًّا، قدَّم المؤرخ الإسرائيلي خلاصاته التاريخية عن عام 1948 في كتابٍ شاهدٍ استُقبل، عربيًا على الأقل، بشيء من التوجس في البداية، ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى أصبح «التطهير العرقي في فلسطين» الصادر عام 2006 وثيقة اعتراف «شهد فيها شاهد من أهلها» إلى حد اتهامه من قبل «أهلها» بالخيانة، فكان ذلك الكتاب بطاقة عبور إلى شريحة واسعة من القرَّاء العرب الذين استقبلوا إيلان بابيه بحفاوة، خاصة بعد أن أصدر كتابه الآخر الذي يتناول «عشر خرفات عن إسرائيل» والذي أخذ بدوره شهرة واسعة.
غير أن كُتب إيلان بابيه ومواقفه المناهضة للصهيونية، ولفكرةِ إسرائيل من الأساس، لم تلغِ تحفُّظ فئة من القرَّاء ضده، أولئك الذين اعتبروا جوازه الإسرائيلي (الذي ما زال يحتفظ به) يمثل عائقًا «أخلاقيًا» في إمكانية التعاطي معه، حاله كحال أي مثقف إسرائيلي (تائب) يقيم في إسرائيل أو يحمل جوازها، تمامًا كما هو الحال مع المؤرخ الإسرائيلي توم سغيف الذي جلس قبل ثلاث سنوات إلى جوار آفي شلايم على منصة مهرجان جايبور الأدبي بالهند ليحاضر عن سيرة بن غوريون، مُعرِّجًا على «الفصول المعتمة» التي رافقت عملية اجتثاث الفلسطينيين من أرضهم كشرط ضروري لقيام «دولة إسرائيل»، دون أن يتوقع سغيف إحراجًا عابرًا من معلِّقة هندية ستسأله على هامش الجلسة: «لولا بن غوريون، هل تعتقد أنك كنت ستجلس هنا كإسرائيلي»؟!
نعود إلى إيلان بابيه. فمنذ أن أعلن الناشط والصحفي اللبناني جاد غصن، الأسبوع الماضي، عن استضافة المؤرخ الإسرائيلي في مستهل حلقات برنامجه الجديد «هامش جاد» على قناة العربي، أُثير نفس الجدل الملتبس حول «التطبيع الثقافي» وانزلق الجدل في سياقه اللبناني إلى جدال عقيم. وربما، أو أتمنى كما تمنى جاد في تعليقه أن يكون ذلك الجدل مثيرًا بما يكفي لمشاهدة الحلقة، لعل البعض يتخفف من غلواء الأحكام المسبقة التي لا تصدر غالبًا إلا عن جهالة بالآخرين.
مع ذلك، يعجبني في إيلان بابيه أنه لا يتطلع لصداقة العرب بأي ثمن، كأن يسعى لملاءمة توقعاتهم عن أنفسهم أو عن أعدائهم؛ فهو كما يثير حنق الأوساط السياسية في إسرائيل بكشوفاته وتصريحاته المستمرة، حين يصرِّح مثلاً في ظل الاستنفار الإسرائيلي خلال العدوان الجاري على غزة بأن «الصهيونية أخطر بكثير على الشرق الأوسط من الإسلام السياسي»، نجده لا يتردد أو يخشى من إزعاج بعض الأردنيين حين يشير إلى ما كان من تحالف قوي بين الدولة الصهيونية وإمارة شرق الأردن في عهد الأمير عبدالله الأول. ولكنه في هذا الحوار، بصورة خاصة، يثير حساسية الناصريين حين يتحدث عن مفاوضات كانت قد دارت سرًّا في الخمسينيات بين الإسرائيليين وجمال عبد الناصر، دون أن يعرف عنها أكثر الناصريين تشددًا. يتقاطع هذا التصريح إلى حد ما مع تحقيق نُشر على عدد قديم من مجلة «المجلة» يعود إلى عام 1983، والذي يشير فيه المبعوث الأمريكي وليم بولك، المكلَّف بالاتصالات السرية بين عبدالناصر وكيسنجر في عهد إدارة نيكسون، إلى وثيقة سرية محفوظة في ملفات وزارة الخارجية الأمريكية، وهي عبارة عن مسودة اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل حظيت بموافقة الزعيم المصري الراحل، إلا أن كيسنجر لم يقابلها بالاهتمام في النهاية.
تكمن أهمية حوار جاد غصن مع إيلان بابيه في توقيته الساخن أولًا، بينما تواصل الدولة الصهيونية إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، هذا إلى جانب تأثيره الإعلامي كحوار مُصوَّر من بين الحوارات المصورة القليلة التي يستهدف فيها إيلان بابيه المشاهد العربي مباشرة، إضافة لتضمنه بعض التفاصيل المهمة التي لربما لم يسبق أن وقع عليها من قرأ كتاباته؛ كقوله بأن ألبرت حوراني، المؤرخ الإنجليزي ذا الأصل اللبناني والذي مثَّل الفلسطينيين أمام لجنة التحقيق الأنجلو-أمريكية عام 1946، كان المشرف بالصدفة على دراسته للدكتوراة في أكسفورد، وهذه معلومة مهمة قد نستشف منها تأثير الأستاذ العربي على طالبه الإسرائيلي، وليس العكس هذه المرة، الأمر الذي لا شك أنه حفَّز بطريقة أو بأخرى انقلابه الفكري على الصهيونية.
بسخرية مقتصدة ومهذبة يقول إيلان بابيه لجاد غصن بأن معظم الأكاديميين لا يتحلَّون غالبًا بالشجاعة؛ لأن الشجاعة أمام الحقيقة ستكلفهم خسارة المهنة، كما يعلل، وهذا الرأي كفيل بتفسير صمت الكثير من المثقفين الأكاديميين في إسرائيل عن الحقائق، بل وتماهيهم مع التضليل الرسمي، في حين اختار بابيه أن يدفع الثمن بالنبذ والتخوين إرضاءً للحقيقة التاريخية. وهنا يجدر التذكير بمحاضرة إدوارد سعيد عن علاقة المثقف بالسلطة، والتي ينصح فيها المثقفَ بلعب دور «الهاوي» والتخلي عن دور «المحترف» الملتزم بالاعتبارات الوظيفية التي تمليها تعاليم السلطة وحساسيتها.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
غير أن كُتب إيلان بابيه ومواقفه المناهضة للصهيونية، ولفكرةِ إسرائيل من الأساس، لم تلغِ تحفُّظ فئة من القرَّاء ضده، أولئك الذين اعتبروا جوازه الإسرائيلي (الذي ما زال يحتفظ به) يمثل عائقًا «أخلاقيًا» في إمكانية التعاطي معه، حاله كحال أي مثقف إسرائيلي (تائب) يقيم في إسرائيل أو يحمل جوازها، تمامًا كما هو الحال مع المؤرخ الإسرائيلي توم سغيف الذي جلس قبل ثلاث سنوات إلى جوار آفي شلايم على منصة مهرجان جايبور الأدبي بالهند ليحاضر عن سيرة بن غوريون، مُعرِّجًا على «الفصول المعتمة» التي رافقت عملية اجتثاث الفلسطينيين من أرضهم كشرط ضروري لقيام «دولة إسرائيل»، دون أن يتوقع سغيف إحراجًا عابرًا من معلِّقة هندية ستسأله على هامش الجلسة: «لولا بن غوريون، هل تعتقد أنك كنت ستجلس هنا كإسرائيلي»؟!
نعود إلى إيلان بابيه. فمنذ أن أعلن الناشط والصحفي اللبناني جاد غصن، الأسبوع الماضي، عن استضافة المؤرخ الإسرائيلي في مستهل حلقات برنامجه الجديد «هامش جاد» على قناة العربي، أُثير نفس الجدل الملتبس حول «التطبيع الثقافي» وانزلق الجدل في سياقه اللبناني إلى جدال عقيم. وربما، أو أتمنى كما تمنى جاد في تعليقه أن يكون ذلك الجدل مثيرًا بما يكفي لمشاهدة الحلقة، لعل البعض يتخفف من غلواء الأحكام المسبقة التي لا تصدر غالبًا إلا عن جهالة بالآخرين.
مع ذلك، يعجبني في إيلان بابيه أنه لا يتطلع لصداقة العرب بأي ثمن، كأن يسعى لملاءمة توقعاتهم عن أنفسهم أو عن أعدائهم؛ فهو كما يثير حنق الأوساط السياسية في إسرائيل بكشوفاته وتصريحاته المستمرة، حين يصرِّح مثلاً في ظل الاستنفار الإسرائيلي خلال العدوان الجاري على غزة بأن «الصهيونية أخطر بكثير على الشرق الأوسط من الإسلام السياسي»، نجده لا يتردد أو يخشى من إزعاج بعض الأردنيين حين يشير إلى ما كان من تحالف قوي بين الدولة الصهيونية وإمارة شرق الأردن في عهد الأمير عبدالله الأول. ولكنه في هذا الحوار، بصورة خاصة، يثير حساسية الناصريين حين يتحدث عن مفاوضات كانت قد دارت سرًّا في الخمسينيات بين الإسرائيليين وجمال عبد الناصر، دون أن يعرف عنها أكثر الناصريين تشددًا. يتقاطع هذا التصريح إلى حد ما مع تحقيق نُشر على عدد قديم من مجلة «المجلة» يعود إلى عام 1983، والذي يشير فيه المبعوث الأمريكي وليم بولك، المكلَّف بالاتصالات السرية بين عبدالناصر وكيسنجر في عهد إدارة نيكسون، إلى وثيقة سرية محفوظة في ملفات وزارة الخارجية الأمريكية، وهي عبارة عن مسودة اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل حظيت بموافقة الزعيم المصري الراحل، إلا أن كيسنجر لم يقابلها بالاهتمام في النهاية.
تكمن أهمية حوار جاد غصن مع إيلان بابيه في توقيته الساخن أولًا، بينما تواصل الدولة الصهيونية إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، هذا إلى جانب تأثيره الإعلامي كحوار مُصوَّر من بين الحوارات المصورة القليلة التي يستهدف فيها إيلان بابيه المشاهد العربي مباشرة، إضافة لتضمنه بعض التفاصيل المهمة التي لربما لم يسبق أن وقع عليها من قرأ كتاباته؛ كقوله بأن ألبرت حوراني، المؤرخ الإنجليزي ذا الأصل اللبناني والذي مثَّل الفلسطينيين أمام لجنة التحقيق الأنجلو-أمريكية عام 1946، كان المشرف بالصدفة على دراسته للدكتوراة في أكسفورد، وهذه معلومة مهمة قد نستشف منها تأثير الأستاذ العربي على طالبه الإسرائيلي، وليس العكس هذه المرة، الأمر الذي لا شك أنه حفَّز بطريقة أو بأخرى انقلابه الفكري على الصهيونية.
بسخرية مقتصدة ومهذبة يقول إيلان بابيه لجاد غصن بأن معظم الأكاديميين لا يتحلَّون غالبًا بالشجاعة؛ لأن الشجاعة أمام الحقيقة ستكلفهم خسارة المهنة، كما يعلل، وهذا الرأي كفيل بتفسير صمت الكثير من المثقفين الأكاديميين في إسرائيل عن الحقائق، بل وتماهيهم مع التضليل الرسمي، في حين اختار بابيه أن يدفع الثمن بالنبذ والتخوين إرضاءً للحقيقة التاريخية. وهنا يجدر التذكير بمحاضرة إدوارد سعيد عن علاقة المثقف بالسلطة، والتي ينصح فيها المثقفَ بلعب دور «الهاوي» والتخلي عن دور «المحترف» الملتزم بالاعتبارات الوظيفية التي تمليها تعاليم السلطة وحساسيتها.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني