لا يمكنني بكل عفوية أن أنسى المجلسَ اليوميَ الذي كنت أحضرُه بعد صلاة المغرب، كل يوم في بيت من بيوت حارتنا القديمة، –وأنا صبي في سني طلبي الأولى- كان يجلس الآباءُ وفقَ طقوس «الرمسيّة»- كما يسمونها- التي تبدأُ بإخراج أحد الكتب، فيقرأ أحدُهم بصوت منغّم، ويرددُ الآخرون البيتَ الذي يعجبُهم، يستوقفونه عند اللفظة التي تدهشُهم أو يعجزُهم معناها، ثم ينسكبُ كدلال القهوة نقاشٌ جميلٌ عفوي بينهم في المضمون لغةً وأفكارا وموسيقى.
كانوا يقرأون بصوت عماني ممزوج بشجن موحٍ، كان يصقلُ أذنيَ الموسيقيةَ، ويفتحُ قلبيَ على عالمٍ جميل يمزجُ بين العلم والأدبِ والموسيقى، إضافةً إلى ما تعلّمتُه من فن النقاش الذي لم أجد له مثيلا في المدارسِ النظاميةِ أو الجامعات أو حلقاتِ المساجد على مدى فترة الطلب، أضف إلى ذلك الحصيلةَ اللغويةَ التي أظفرُ بها من المفرداتِ والأساليبِ الأدبيةِ الراقية، وطبعا الإضافاتِ العلميةَ المتنوّعة.
كانوا ينتقون كتبَهم بعناية بالغة بالغة، ويحترمونها كمعلّم حقيقي، تعلّمت منهم الكثير الكثير، ووضعتْ تلك الأيامُ بصمتَها عليّ روحا ووعيا وفكرا وشعورا، وظل ذلك الأسلوبُ يسكنني حتى كتبتُ عنه كثيرا، في ما يسمى بالشعر التعليميّ.
ونحن الآن ننظر في واحد من أهم الرموز التي كتبت في هذا الجانب، دعوني أقول، خصص جزءا كبيرا من جهده المبارك لهذا الفن، وأخرج لنا درة المجالس كتاب «بهجة المجالس»، إننا في حضرة العلامة السيابي، ونتعرف إليه من خلال حديث العلامة أحمد بن سعود السيابي «كان مولده سنة ألف وثلاثمائة وثمان (١٣٠٨) للهجرة في بلدة سيما من أعمال إزكي، وتوفي عنه والده وهو لا يزال في مرحلة الطفولة البريئة. وكان والده قد انتقل من بلده سيما إلى سمائل ومعه ولده. وهناك في سمائل عاش يتيما بيد أنه اشتغل في طلب العلم وأكب على النهل من معينه وصارت له رغبة جامحة في دراسة العلوم، فلازم العلامة أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلي لأخذ العلم عنه، وجد واجتهد في تحصيل العلوم حتى بلغ منزلة عالية في ذلك وصار علما في العلماء.
أوكل إليه الإمام سالم بن راشد الخروصي مهمة الأوقاف في بلدة سيما، وقام بذلك خير قيام وفق ما يقتضيه الشرع، ثم عينه مدرسا في بلدة نخل، وبعد ذلك عينه الإمام محمد بن عبد الله الخليلي قاضيا على الرستاق. ثم عمل قاضيا على مطرح في عهد السلطان تيمور بن فيصل، كما استقضاه السلطان سعيد بن تيمور على صور، وآخر أعماله الوظيفية في مجال القضاء كان قاضيا على سمائل للإمام محمد بن عبد الله الخليلي. ومنذ عام ألف وثلاثمائة وسبعة وستين (١٣٦٧هـ) تخلى عن الالتزام بأعمال القضاء، حيث تفرغ لنشر العلم تدريسا وتأليفا وإفتاء. وسافر إلى زنجبار بشرق إفريقيا سنة ١٣٧١هـ للاطلاع على الأحوال، وفي سنة ١٣٧٣هـ سافر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج».
ارتاد مجلسه الكثيرون من طلبة العلم، وعُرِف عنه دماثة الخلق والأريحية وتواضعه الجم وسعة صدره وغزارة علومه وآدابه ومداركه. وكان على حالة من الزهد، وعلى حال الرضا بالكفاف، والعفاف عن زخارف الحياة قانعا بميسور العيش، عاش ملازما بيته، محالفا محرابه، رزينا وقورا لا يخوض في فضول الكلام، اشتكى منه البعض عند الإمام لشدته فأجابهم: (إنَّ فيه حدة العلماء فلا تستكثروا منه ذلك). عاش حياته للعلم ومن أجل العلم. يقول تلميذه الشيخ سالم بن حمود السيابي، فإذا زرته لا تجده إلا قارئا أو كاتبا أو مصليا أو باحثا، ولا تجد مجلسه للهو واللعب والخزعبلات والخرافات».
وألّف كتبا جليلة في مختلف المجالات بالرغم من أنه لم يكن من المكثرين للتأليف، فقد ألف كتابه الفقهي النظمي المسمى «سلك الدرر الحاوي على غرر الأثر» في الأديان والأحكام والأخلاق والآداب والحكم والسنن والسير المهذبة للنفوس المتهذبة الراقية بأربابها إلى أوج الكمال البشري، وقد بلغت أبيات هذا الكتاب ثمانية وعشرين ألف بيت، ثم ألّف بعد ذلك كتاب «فصول الأصول» في أصول الفقه وقواعده المهمة، وله أيضا ديوانه المسمى بـ«بهجة المجالس» المشتمل على فنون كثيرة من العلوم والحكم والمواعظ والأسئلة والأجوبة النظمية، وله أيضا القصيدة اللامية والميمية الأخرى على معالم حق الحق أعلام.
توفى في سمائل في اليوم الخامس عشر من شهر جمادى الآخرة من عام 1392 /1972عن عمر يناهز الثمانين، ودُفِن في بستانه المسمى المشجوعية.
يقول السيابي في تأبين العلامة خلفان بن جميل «قد يتساءل متسائل عن العوامل التي أثرت في حياة السيابي، حتى جعلت حياته متمثلة في سلوك الزهد والورع. حيث إنه لابد لكل أثر من مؤثر ولابد لكل سلوك من موجه نقول إن هناك عاملين فيما يبدو، كان لهما أثرهما في حياته وسلوكه. وهما القدوة والفكر.
أما القدوة، فقد كانت متمثلة في العلامة أحمد بن سعيد الخليلي الذي تتلمذ عليه الشيخ خلفان ولازمه. ذلك العلامة الزاهد الفاضل الذي يقول فيه أبو مسلم البهلاني:
أرتاح فيها إلى خل فيبهرني
صدق وقصد ومعروف وإحسان
نظرت أحمد حتى حل مسكنه
في الخلد من حوله حور وولدان
فسلوك ذلك العالم الرباني انعكس على سلوك تلميذه مقتفيا أثره.
والعامل الثاني الفكر. وهو يتمثل في قراءاته ومطالعاته. التي من شأنها أن تكوّن الفكر وتؤطره في إطار موضوعها. يشير إلى شيء من ذلك تلميذه محمد بن راشد الخصيبي، حيث يقول «وقد كان في مبدأ حبه ورغبته في العلم وطلبه كثيرا ما يقرأ في كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي وهو الذي هذّبه وشحذ أفكاره» . وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي حجة الإسلام من الكتب المعتنى بها عند الإباضية عامة، والإباضية من أهل عمان خاصة فهو سفر مرغوب فيه عندهم فقلما نجد أحدا من أهل العلم أو المنتسبين إلى العلم إلا وعنده كتاب إحياء علوم الدين».
ويمكننا أن نضيف عاملا ثالثا على العاملين السابقين وهو الجو العلمي الممتلئ بالأدباء والعلماء في سمائل أو في المناطق التي تنقّل فيها، كما أن عمل الشيخ معلما ثم قاضيا كان له دوره في لغته، وفي الدقة في استخراج الألفاظ وفي تحقيق المسائل.
إنه آخر الشعراء السلوكيين الكبار بعمان، تأمل في القطرة الغيثية وهو يقول:
على باب من أهوى يلذ لي الذلُّ
فوا عز قوم تحت أعتابه ذلوا
أحبتنا إن الصدود معذبي
ولكن عذابي مرّه فيكم يحلو
أجود بنفسي في هواكم، وإنها
لمن عندكم، والفرع مرجعه الأصل
فإن تقبلوها فهو لي غاية المنى
وإلا فوا ويلاه لو دفع البذل
تقطعت الأسباب إلا إليكم
ورثّتْ عرى الآمال وانفصم الحبل
وقد سدت الأبواب دوني فلا أرى
سوى بابكم قصدا يحط به الرحل
لقد دفعتني الكائنات بأسرها
إليكم فلا قعر يقيني ولا سهل
إلهي لك الملك الذي لا تحيله
صروف الليالي والتقلب والنقل
إلهي لك الملك الذي ليس يُختشى
عليه استلاب السالبين وإن جلوا
إلهي أنا العبد الذي جاء حاملا
ذنوبا وأوزارا بها غره الجهل
إلهي أنا العبد المسيء الذي جنى
على نفسه ما لا يطاق له حِمل
إليك يروم السالكون بلوغهم
فإن سلكوا غير الطريق فقد كلّوا
إليك يسير السائرون بقصدهم
فإن قصدوا إلاك في سيرهم ضلوا
لديك يريد الواصلون نزولهم
فإن نزلوا حُيوا وقد هُيئ النزل
ببابك يا ذا الطول لا زلت واقفا
ألازم قرع الباب ما مسني مل
وكيف يمل العبد من باب سيد؟
ولا عار في عبد بذاك ولا ذل
وحاشاك عن طردي عن الباب دونما
بلوغ المنى حاشاك لجودك يعتل
أُخيّ إذا ما شئت ملكا مؤبدا
رفيعا منيعا لا يخالطه ذل
وملكا كبيرا ظله ليس قالصا
سُرادقه عرش المهيمن والظل
فأقبل على النفس النفيسة زكها
فأفلح من زكى وفاز بما يغلو
يقول الحضرمي «قصيدة «القطرة الغيثية والوسيلة الإلهية»، من عيون شعر السلوك والتصوف، روح شعرية ممزوجة بحس صوفي، تلامس سقف السَّماء، معراج القصيدة المؤلفة من 201 بيت، وفيها تتناثر مناجاة الشيخ السيابي، يعبر في استهلالها عن شوقه إلى الله، فهو المُرتجى والمُلتجا، يتودد إليه كما يتودد المحب، يجود بنفسه في هواه، وقبوله غاية مناه، وقد تقطعت كل الأسباب إلا أسباب وصاله والوصول إليه، تقطعت حبال الوصل إلا إليه، ورثَّت عرا آماله إلا أمله به، وسُدَّت دونه الأبواب، فلا باب سواه يقصده، ولا ملجأ له غيره، وليس له من معوِّل سواه، وكل الكائنات قد دفعته إليه دفعًا.
60 بيتًا، أو نحو ذلك بقليل، يطلق فيها الشيخ خلفان بن جميل مناجاته بمفردة: «إلهي»، تتسنَّم مطالع أبياته، ليرصِّعَها في بساط القُرْب من الله، نجمة تنبعث من سُويداء القلب إلى حضرةِ القُرْب».
كانوا يقرأون بصوت عماني ممزوج بشجن موحٍ، كان يصقلُ أذنيَ الموسيقيةَ، ويفتحُ قلبيَ على عالمٍ جميل يمزجُ بين العلم والأدبِ والموسيقى، إضافةً إلى ما تعلّمتُه من فن النقاش الذي لم أجد له مثيلا في المدارسِ النظاميةِ أو الجامعات أو حلقاتِ المساجد على مدى فترة الطلب، أضف إلى ذلك الحصيلةَ اللغويةَ التي أظفرُ بها من المفرداتِ والأساليبِ الأدبيةِ الراقية، وطبعا الإضافاتِ العلميةَ المتنوّعة.
كانوا ينتقون كتبَهم بعناية بالغة بالغة، ويحترمونها كمعلّم حقيقي، تعلّمت منهم الكثير الكثير، ووضعتْ تلك الأيامُ بصمتَها عليّ روحا ووعيا وفكرا وشعورا، وظل ذلك الأسلوبُ يسكنني حتى كتبتُ عنه كثيرا، في ما يسمى بالشعر التعليميّ.
ونحن الآن ننظر في واحد من أهم الرموز التي كتبت في هذا الجانب، دعوني أقول، خصص جزءا كبيرا من جهده المبارك لهذا الفن، وأخرج لنا درة المجالس كتاب «بهجة المجالس»، إننا في حضرة العلامة السيابي، ونتعرف إليه من خلال حديث العلامة أحمد بن سعود السيابي «كان مولده سنة ألف وثلاثمائة وثمان (١٣٠٨) للهجرة في بلدة سيما من أعمال إزكي، وتوفي عنه والده وهو لا يزال في مرحلة الطفولة البريئة. وكان والده قد انتقل من بلده سيما إلى سمائل ومعه ولده. وهناك في سمائل عاش يتيما بيد أنه اشتغل في طلب العلم وأكب على النهل من معينه وصارت له رغبة جامحة في دراسة العلوم، فلازم العلامة أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلي لأخذ العلم عنه، وجد واجتهد في تحصيل العلوم حتى بلغ منزلة عالية في ذلك وصار علما في العلماء.
أوكل إليه الإمام سالم بن راشد الخروصي مهمة الأوقاف في بلدة سيما، وقام بذلك خير قيام وفق ما يقتضيه الشرع، ثم عينه مدرسا في بلدة نخل، وبعد ذلك عينه الإمام محمد بن عبد الله الخليلي قاضيا على الرستاق. ثم عمل قاضيا على مطرح في عهد السلطان تيمور بن فيصل، كما استقضاه السلطان سعيد بن تيمور على صور، وآخر أعماله الوظيفية في مجال القضاء كان قاضيا على سمائل للإمام محمد بن عبد الله الخليلي. ومنذ عام ألف وثلاثمائة وسبعة وستين (١٣٦٧هـ) تخلى عن الالتزام بأعمال القضاء، حيث تفرغ لنشر العلم تدريسا وتأليفا وإفتاء. وسافر إلى زنجبار بشرق إفريقيا سنة ١٣٧١هـ للاطلاع على الأحوال، وفي سنة ١٣٧٣هـ سافر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج».
ارتاد مجلسه الكثيرون من طلبة العلم، وعُرِف عنه دماثة الخلق والأريحية وتواضعه الجم وسعة صدره وغزارة علومه وآدابه ومداركه. وكان على حالة من الزهد، وعلى حال الرضا بالكفاف، والعفاف عن زخارف الحياة قانعا بميسور العيش، عاش ملازما بيته، محالفا محرابه، رزينا وقورا لا يخوض في فضول الكلام، اشتكى منه البعض عند الإمام لشدته فأجابهم: (إنَّ فيه حدة العلماء فلا تستكثروا منه ذلك). عاش حياته للعلم ومن أجل العلم. يقول تلميذه الشيخ سالم بن حمود السيابي، فإذا زرته لا تجده إلا قارئا أو كاتبا أو مصليا أو باحثا، ولا تجد مجلسه للهو واللعب والخزعبلات والخرافات».
وألّف كتبا جليلة في مختلف المجالات بالرغم من أنه لم يكن من المكثرين للتأليف، فقد ألف كتابه الفقهي النظمي المسمى «سلك الدرر الحاوي على غرر الأثر» في الأديان والأحكام والأخلاق والآداب والحكم والسنن والسير المهذبة للنفوس المتهذبة الراقية بأربابها إلى أوج الكمال البشري، وقد بلغت أبيات هذا الكتاب ثمانية وعشرين ألف بيت، ثم ألّف بعد ذلك كتاب «فصول الأصول» في أصول الفقه وقواعده المهمة، وله أيضا ديوانه المسمى بـ«بهجة المجالس» المشتمل على فنون كثيرة من العلوم والحكم والمواعظ والأسئلة والأجوبة النظمية، وله أيضا القصيدة اللامية والميمية الأخرى على معالم حق الحق أعلام.
توفى في سمائل في اليوم الخامس عشر من شهر جمادى الآخرة من عام 1392 /1972عن عمر يناهز الثمانين، ودُفِن في بستانه المسمى المشجوعية.
يقول السيابي في تأبين العلامة خلفان بن جميل «قد يتساءل متسائل عن العوامل التي أثرت في حياة السيابي، حتى جعلت حياته متمثلة في سلوك الزهد والورع. حيث إنه لابد لكل أثر من مؤثر ولابد لكل سلوك من موجه نقول إن هناك عاملين فيما يبدو، كان لهما أثرهما في حياته وسلوكه. وهما القدوة والفكر.
أما القدوة، فقد كانت متمثلة في العلامة أحمد بن سعيد الخليلي الذي تتلمذ عليه الشيخ خلفان ولازمه. ذلك العلامة الزاهد الفاضل الذي يقول فيه أبو مسلم البهلاني:
أرتاح فيها إلى خل فيبهرني
صدق وقصد ومعروف وإحسان
نظرت أحمد حتى حل مسكنه
في الخلد من حوله حور وولدان
فسلوك ذلك العالم الرباني انعكس على سلوك تلميذه مقتفيا أثره.
والعامل الثاني الفكر. وهو يتمثل في قراءاته ومطالعاته. التي من شأنها أن تكوّن الفكر وتؤطره في إطار موضوعها. يشير إلى شيء من ذلك تلميذه محمد بن راشد الخصيبي، حيث يقول «وقد كان في مبدأ حبه ورغبته في العلم وطلبه كثيرا ما يقرأ في كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي وهو الذي هذّبه وشحذ أفكاره» . وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي حجة الإسلام من الكتب المعتنى بها عند الإباضية عامة، والإباضية من أهل عمان خاصة فهو سفر مرغوب فيه عندهم فقلما نجد أحدا من أهل العلم أو المنتسبين إلى العلم إلا وعنده كتاب إحياء علوم الدين».
ويمكننا أن نضيف عاملا ثالثا على العاملين السابقين وهو الجو العلمي الممتلئ بالأدباء والعلماء في سمائل أو في المناطق التي تنقّل فيها، كما أن عمل الشيخ معلما ثم قاضيا كان له دوره في لغته، وفي الدقة في استخراج الألفاظ وفي تحقيق المسائل.
إنه آخر الشعراء السلوكيين الكبار بعمان، تأمل في القطرة الغيثية وهو يقول:
على باب من أهوى يلذ لي الذلُّ
فوا عز قوم تحت أعتابه ذلوا
أحبتنا إن الصدود معذبي
ولكن عذابي مرّه فيكم يحلو
أجود بنفسي في هواكم، وإنها
لمن عندكم، والفرع مرجعه الأصل
فإن تقبلوها فهو لي غاية المنى
وإلا فوا ويلاه لو دفع البذل
تقطعت الأسباب إلا إليكم
ورثّتْ عرى الآمال وانفصم الحبل
وقد سدت الأبواب دوني فلا أرى
سوى بابكم قصدا يحط به الرحل
لقد دفعتني الكائنات بأسرها
إليكم فلا قعر يقيني ولا سهل
إلهي لك الملك الذي لا تحيله
صروف الليالي والتقلب والنقل
إلهي لك الملك الذي ليس يُختشى
عليه استلاب السالبين وإن جلوا
إلهي أنا العبد الذي جاء حاملا
ذنوبا وأوزارا بها غره الجهل
إلهي أنا العبد المسيء الذي جنى
على نفسه ما لا يطاق له حِمل
إليك يروم السالكون بلوغهم
فإن سلكوا غير الطريق فقد كلّوا
إليك يسير السائرون بقصدهم
فإن قصدوا إلاك في سيرهم ضلوا
لديك يريد الواصلون نزولهم
فإن نزلوا حُيوا وقد هُيئ النزل
ببابك يا ذا الطول لا زلت واقفا
ألازم قرع الباب ما مسني مل
وكيف يمل العبد من باب سيد؟
ولا عار في عبد بذاك ولا ذل
وحاشاك عن طردي عن الباب دونما
بلوغ المنى حاشاك لجودك يعتل
أُخيّ إذا ما شئت ملكا مؤبدا
رفيعا منيعا لا يخالطه ذل
وملكا كبيرا ظله ليس قالصا
سُرادقه عرش المهيمن والظل
فأقبل على النفس النفيسة زكها
فأفلح من زكى وفاز بما يغلو
يقول الحضرمي «قصيدة «القطرة الغيثية والوسيلة الإلهية»، من عيون شعر السلوك والتصوف، روح شعرية ممزوجة بحس صوفي، تلامس سقف السَّماء، معراج القصيدة المؤلفة من 201 بيت، وفيها تتناثر مناجاة الشيخ السيابي، يعبر في استهلالها عن شوقه إلى الله، فهو المُرتجى والمُلتجا، يتودد إليه كما يتودد المحب، يجود بنفسه في هواه، وقبوله غاية مناه، وقد تقطعت كل الأسباب إلا أسباب وصاله والوصول إليه، تقطعت حبال الوصل إلا إليه، ورثَّت عرا آماله إلا أمله به، وسُدَّت دونه الأبواب، فلا باب سواه يقصده، ولا ملجأ له غيره، وليس له من معوِّل سواه، وكل الكائنات قد دفعته إليه دفعًا.
60 بيتًا، أو نحو ذلك بقليل، يطلق فيها الشيخ خلفان بن جميل مناجاته بمفردة: «إلهي»، تتسنَّم مطالع أبياته، ليرصِّعَها في بساط القُرْب من الله، نجمة تنبعث من سُويداء القلب إلى حضرةِ القُرْب».