لماذا يبدو المجال السياسي العربي المعاصر مجالا مزيجا من الحداثة والتـقليد على نحو يوحي وكأنه تركيب مهجن من مادتين متجافيتين؟ هل أسباب ذلك كامنة في السياسة، أي فيه هو كمجال، بحيث يـعْـزى ذلك التـركيب إلى بط ما في وتيرة التحديث، مثلا أو إلى نقص في الإرادة السياسيـة: إرادة الذهـاب بذلك التحديث إلى منتهاه؟ بعبارة أخرى؛ هل مكْـمن المعضلة في نظـام السياسة، حصْرا، أم في حيـزات اجتماعيـة أخرى تحتاج إلى معالجة عميقة تفضي إلى تحرير السياسي من عـوائقه الكابحة؟
مبْنى هذه الأسئلة على فرضيـة تأسيسيـة منها تنطلق مقاربـتنا للموضوع، ومفادها أن السياسي واحـد من مباني الاجتماع لا تـتقـرر هيأته ويستقيم على حال منه إلا بأثـر من محددات أخرى تقع خارجه، لن نعيد هنا ما درج على قوله، والعمل به، في التحليل الماركسي من إيلا مبدأ تحديد الاقتصادي للسياسي الأولوية القصوى في التحليل، بالنظر إلى أهميـة أدواره الحاسمة وبالنظر إلى مركزيـة أثره في نشو ظواهر السياسة ومؤسساتها؛ فلقد أصبح ذلك معلوما في الدراسات الاجتماعية والسياسية حتى تلك التي ينجزها باحثون لا ينتمون إلى هذه المدرسة، وإنما سنشير إلى محدد ثانٍ - ليس بعيدا تماما عن الأول - يتعلق بـ اجتماعيـات السياسة والسياسي. بيان ذلك أن وجوها من أوضاع السياسة والمجال السياسي وظواهرهـما لا تـقْـبل، دائما، ردها إلى العوامل التحتية الاقتصادية، بل لا تـفْـهم إلا متى تصـفحت اجتماعياتـها أو، قـلْ، البنى الاجتماعية التي أسست لها. والحامل على هذا التـقدير أن الفواصل ليست كبيرة بين روابط النظام الاجتماعي وروابط النظام السياسي، وأن لأفعال السياسة ما يعلـلها في الاجتماع ويهيـئ لها الأسباب. وهذه حقيقة تفرض نفسها خاصـة في المجتمعات التي لم يقع فيها استقلال فعلي للمجال السياسي (الدولـة) عن النظام الاجتماعي وروابطه الأهلية؛ وتلك حال أكثر البلدان العربية التي تعاني تداخلا بينهما، بل قـلْ تحايـثا يمنع من تمايـزهـما.
نعرف، على التحقيق، أن أظْهر سمة للمجتمع الحديث هي النشاط العالي لفاعلية الإدماج والصهر الاجتماعيين فيه؛ وهي الفاعلية التي تعتمل بيسْر كلما استندت إلى فاعلية رديف تجري في الحقل الاقـتصادي هي: الصهر وإلحاق الأطراف بالمركز، وإخضاع العمل الزراعي والتجاري للديناميات الصناعية من أجل توليد مجال اقتصادي مندمج. لذلك كلما تقدمت سيرورة الاندماج الاقتصادي واتسعت نطاقا تقدمت معها، بالتبعة، عملية الانصهار الاجتماعي. على أن هذا قانون سار في المجتمعات التي نجحت العلاقات الرأسمالية فيها في تقويض ما قبلها من علاقات إنتاج سابقة؛ وهذا عين ما يحصل في مجتمعات الغرب والرأسماليات الميتروپـوليـة. أما حيث تكون رأسمالية الهوامش والأطراف عاجزة عن أن تجب ما قبلها من أنظمة إنتاج؛ بل حين يكون في صـلْب بنيان طبيعتها وآلياتها الذاتـية أن تـنْحو نحو الإبقـاء على أنظمة الإنتاج التـقليدية تلك وإعادة إنتاجها، يحصل الافتياق إلى الأسباب التي تفضي إلى الاندماج الاقتصادي الذي به تتـقـدم عملية الانصهار الاجتماعي. هذا ما يفسر لماذا تستـقـيـم عمليـة التكوين الاجتماعي الأفقي والتبنـين الطبقي في مجتمعات الغرب، فيما هي تتعسر في المجتمعات العربية بل تستحيل أحيانا. والفارق بين سمات المجتمع الحديث والمجتمع التـقليدي ليس فقط في أن الانقسامات الاجتماعية تختلف، مبْـنى وفاعلية، في كل منهما فيكون مبناها على الطبقات الاجتماعية في الأول وعلى العصائب الأهلية في الثاني، بل لأن هذا الفارق هو الذي يفسر لماذا يقوم الاجتماع السياسي الحديث هناك، بينما يمتنع عليه القيام هنا؛ إذْ لم تتهيأ لذلك الاجتماع السياسي الحديث الاجتماعيـات المناسبة التي تسمح بقيامه...
لهذا الضعف الشديد في عملية التبنْين الاجتماعي الأفقي أسبابها التي قضت بوجودها، والتي لا تـقْبل ردها إلى العامل الاقتصادي - دائما - حتى مع التسليم بضعْف مفعولية التغيير الذي يحْدثه هذا العامل في بنى الإنتاج، وبما يمكن أن يكون لذلك من أثـر في نوع الهندسة الاجتماعية التي يمكنه أن يوفـر لها مـواردها ومقـدماتها. لعل من بين تلك الأسباب الثـقـل الشديد للمواريث التي من طبيعة اجتماعية- أنثروبـولوجية، ومن طبيعة ثـقافية (أي تتعلق بالذهنيات العامة الموروثة). ما يزال المجتمع العربي، حتى إشعار آخر، مجتمعا عـصبويـا يعيد إنتاج علاقاته الانقسامية الأهلية، وتنتظم جماعاته داخل أطر تضامنية تقليدية، الولاء فيها فرعي ومصروف إلى العصبية. ليس معنى ذلك أنْ لا وجود لطبقات اجتماعية، بالمعنى الحديث، ولا لانقسامات على أساس المصالح الطبقـية، ولا ولاء وطني أعلى من الولاءات الفرعية في هذا المجتمع؛ فلقد توجد هذه جميعها - وهي فعلا موجودة وسارية المفاعيل - ولقد يخْفي طفورها ما يضْمره الاجتماع الأهلي في جوفه من مخبآت، لكنها ما تـفْـتأ تهْـتك سرها فتطفو على السطح ما إنْ يعْرض لذلك الاجتماع السياسي القائم عارض من تأزم يأتي على قواعد توازناته بأسباب الاختلال. حينها، فقط، نكتشف إلى أي حـد هي بنى تقليديـة قوية وراسخة، وإلى أي حـد تـنْشـد إلى روابطها التـقليدية أفعال الناس وأفكارهم وسيكولوجيـتهم الجمعيـة انشدادا يفـقدهم أي صلة حقيقية بروابط الاجتماع المدني الحديث!
نعم، توجد طبقات اجتماعية، ومؤسسات مدنية تضامنية إنتاجية أو مهنية (نقابات وجمعيات وروابط...)، وأحـزاب سياسية... في هذا المجتمع الانـقـسامي غير المنـدمج؛ كما توجد بينها اختلافات أو نزاعات بسبب تبايـن المصالح الاجتماعية والخيارات والاقتناعات والإيديولوجيات. غير أنه، وعلى وجودها، يـظل يخترقها تيار الانقسام الأهلي اختراقا صامتا يكاد أن لا يفصح عن حاله في العادي من الأوضاع، ثم ما يلبث - عند احتدام أي أزمة- أن يطـل برأسه متماديا في تعطيل آليات التكوين المدني الحديث، عائدا بالاجتماع الأهلي إلى كهوفه العصبوية التـقليدية! من البين، إذن، أن اجتماعيات تقليدية من هذا النوع لا يمكنها أن توفر أساسا صالحا لقيام مجال سياسي حديث... ولا لرسوخه.
مبْنى هذه الأسئلة على فرضيـة تأسيسيـة منها تنطلق مقاربـتنا للموضوع، ومفادها أن السياسي واحـد من مباني الاجتماع لا تـتقـرر هيأته ويستقيم على حال منه إلا بأثـر من محددات أخرى تقع خارجه، لن نعيد هنا ما درج على قوله، والعمل به، في التحليل الماركسي من إيلا مبدأ تحديد الاقتصادي للسياسي الأولوية القصوى في التحليل، بالنظر إلى أهميـة أدواره الحاسمة وبالنظر إلى مركزيـة أثره في نشو ظواهر السياسة ومؤسساتها؛ فلقد أصبح ذلك معلوما في الدراسات الاجتماعية والسياسية حتى تلك التي ينجزها باحثون لا ينتمون إلى هذه المدرسة، وإنما سنشير إلى محدد ثانٍ - ليس بعيدا تماما عن الأول - يتعلق بـ اجتماعيـات السياسة والسياسي. بيان ذلك أن وجوها من أوضاع السياسة والمجال السياسي وظواهرهـما لا تـقْـبل، دائما، ردها إلى العوامل التحتية الاقتصادية، بل لا تـفْـهم إلا متى تصـفحت اجتماعياتـها أو، قـلْ، البنى الاجتماعية التي أسست لها. والحامل على هذا التـقدير أن الفواصل ليست كبيرة بين روابط النظام الاجتماعي وروابط النظام السياسي، وأن لأفعال السياسة ما يعلـلها في الاجتماع ويهيـئ لها الأسباب. وهذه حقيقة تفرض نفسها خاصـة في المجتمعات التي لم يقع فيها استقلال فعلي للمجال السياسي (الدولـة) عن النظام الاجتماعي وروابطه الأهلية؛ وتلك حال أكثر البلدان العربية التي تعاني تداخلا بينهما، بل قـلْ تحايـثا يمنع من تمايـزهـما.
نعرف، على التحقيق، أن أظْهر سمة للمجتمع الحديث هي النشاط العالي لفاعلية الإدماج والصهر الاجتماعيين فيه؛ وهي الفاعلية التي تعتمل بيسْر كلما استندت إلى فاعلية رديف تجري في الحقل الاقـتصادي هي: الصهر وإلحاق الأطراف بالمركز، وإخضاع العمل الزراعي والتجاري للديناميات الصناعية من أجل توليد مجال اقتصادي مندمج. لذلك كلما تقدمت سيرورة الاندماج الاقتصادي واتسعت نطاقا تقدمت معها، بالتبعة، عملية الانصهار الاجتماعي. على أن هذا قانون سار في المجتمعات التي نجحت العلاقات الرأسمالية فيها في تقويض ما قبلها من علاقات إنتاج سابقة؛ وهذا عين ما يحصل في مجتمعات الغرب والرأسماليات الميتروپـوليـة. أما حيث تكون رأسمالية الهوامش والأطراف عاجزة عن أن تجب ما قبلها من أنظمة إنتاج؛ بل حين يكون في صـلْب بنيان طبيعتها وآلياتها الذاتـية أن تـنْحو نحو الإبقـاء على أنظمة الإنتاج التـقليدية تلك وإعادة إنتاجها، يحصل الافتياق إلى الأسباب التي تفضي إلى الاندماج الاقتصادي الذي به تتـقـدم عملية الانصهار الاجتماعي. هذا ما يفسر لماذا تستـقـيـم عمليـة التكوين الاجتماعي الأفقي والتبنـين الطبقي في مجتمعات الغرب، فيما هي تتعسر في المجتمعات العربية بل تستحيل أحيانا. والفارق بين سمات المجتمع الحديث والمجتمع التـقليدي ليس فقط في أن الانقسامات الاجتماعية تختلف، مبْـنى وفاعلية، في كل منهما فيكون مبناها على الطبقات الاجتماعية في الأول وعلى العصائب الأهلية في الثاني، بل لأن هذا الفارق هو الذي يفسر لماذا يقوم الاجتماع السياسي الحديث هناك، بينما يمتنع عليه القيام هنا؛ إذْ لم تتهيأ لذلك الاجتماع السياسي الحديث الاجتماعيـات المناسبة التي تسمح بقيامه...
لهذا الضعف الشديد في عملية التبنْين الاجتماعي الأفقي أسبابها التي قضت بوجودها، والتي لا تـقْبل ردها إلى العامل الاقتصادي - دائما - حتى مع التسليم بضعْف مفعولية التغيير الذي يحْدثه هذا العامل في بنى الإنتاج، وبما يمكن أن يكون لذلك من أثـر في نوع الهندسة الاجتماعية التي يمكنه أن يوفـر لها مـواردها ومقـدماتها. لعل من بين تلك الأسباب الثـقـل الشديد للمواريث التي من طبيعة اجتماعية- أنثروبـولوجية، ومن طبيعة ثـقافية (أي تتعلق بالذهنيات العامة الموروثة). ما يزال المجتمع العربي، حتى إشعار آخر، مجتمعا عـصبويـا يعيد إنتاج علاقاته الانقسامية الأهلية، وتنتظم جماعاته داخل أطر تضامنية تقليدية، الولاء فيها فرعي ومصروف إلى العصبية. ليس معنى ذلك أنْ لا وجود لطبقات اجتماعية، بالمعنى الحديث، ولا لانقسامات على أساس المصالح الطبقـية، ولا ولاء وطني أعلى من الولاءات الفرعية في هذا المجتمع؛ فلقد توجد هذه جميعها - وهي فعلا موجودة وسارية المفاعيل - ولقد يخْفي طفورها ما يضْمره الاجتماع الأهلي في جوفه من مخبآت، لكنها ما تـفْـتأ تهْـتك سرها فتطفو على السطح ما إنْ يعْرض لذلك الاجتماع السياسي القائم عارض من تأزم يأتي على قواعد توازناته بأسباب الاختلال. حينها، فقط، نكتشف إلى أي حـد هي بنى تقليديـة قوية وراسخة، وإلى أي حـد تـنْشـد إلى روابطها التـقليدية أفعال الناس وأفكارهم وسيكولوجيـتهم الجمعيـة انشدادا يفـقدهم أي صلة حقيقية بروابط الاجتماع المدني الحديث!
نعم، توجد طبقات اجتماعية، ومؤسسات مدنية تضامنية إنتاجية أو مهنية (نقابات وجمعيات وروابط...)، وأحـزاب سياسية... في هذا المجتمع الانـقـسامي غير المنـدمج؛ كما توجد بينها اختلافات أو نزاعات بسبب تبايـن المصالح الاجتماعية والخيارات والاقتناعات والإيديولوجيات. غير أنه، وعلى وجودها، يـظل يخترقها تيار الانقسام الأهلي اختراقا صامتا يكاد أن لا يفصح عن حاله في العادي من الأوضاع، ثم ما يلبث - عند احتدام أي أزمة- أن يطـل برأسه متماديا في تعطيل آليات التكوين المدني الحديث، عائدا بالاجتماع الأهلي إلى كهوفه العصبوية التـقليدية! من البين، إذن، أن اجتماعيات تقليدية من هذا النوع لا يمكنها أن توفر أساسا صالحا لقيام مجال سياسي حديث... ولا لرسوخه.