ولد الشيخ الرحلة محمد بن علي بن خميس البرواني في زنجبار سنة 1295هـ/ 1878م، في أسرة متعلمة تعمل في التجارة، وكان والده من علماء زنجبار المشهود لهم في مجال النحو والعروض، كما كان شاعرًا مقربًا من السلطان برغش بن سعيد، وكان من الأثرياء المعروفين، كما عمل بالتعليم، وكانت له مكتبة زاخرة بالكتب الأدبية والدينية، أسهمت في توجيه الولد وجهة أدبية، مستفيدا من نهمه في قراءة الأدب الرفيع.
وشب البرواني في ذلك الجو الثقافي، وسط الإنجازات التي أدخلها السلطان برغش بن سعيد بن سلطان (1870م ــ 1888م) الذي شهدت زنجبار في عهده إصلاحات عديدة تتعلق بالبنى الخدمية الأساسية، من بين أعماله إدخال الكهرباء، وتوصيل الماء العذب إلى جزيرة زنجبار، وتعبيد الطرق، وبناء بيت العجائب، وهو أول بيت من ثلاثة أدوار، مزود بمصعد كهربائي في شرق أفريقيا.
وأما أعماله السيد برغش بن سعيد الثقافية، فأبرزها إنشاء المطبعة السلطانية التي عنيت بطبع الكتب الدينية والأدبية، وأسهمت في ظهور الصحافة العربية في زنجبار، منذ مطلع القرن العشرين، التي ساهمت في تنشيط الحركة الأدبية في زنجبار، مما أدى إلى ازدهار «النثر الفني».
كان البرواني شخصية منفتحة، ومتطلعة، ولا تقنع بالسائد والمألوف، فقد بدأ عندما بلغ الخمسين من العمر، بتعلم اللغة الانجليزية، رغبة في الاطلاع على الفكر والأدب الإنجليزي اطلاعًا مباشرًا، مدفوعًا إلى ذلك بميوله الأدبية وإرادته القوية. يقول د. محمد المحروقي محللا شخصية البرواني الثقافية: لمس بشكل غير مباشر سؤالًا من أهم أسئلة النهضة العربية الحديثة، المتصلة بالموقف من الغرب، فشخصيته اتسمت بالمرونة والانفتاح على الآخر، مما انعكس على موقفه من الغرب، ذلك الموقف الذي يقضي بالاستفادة من منجزات الغرب، دون التخلي عن القيم الإسلامية، ودون الابتعاد عن روح الإسلام.
ولعل تلك الشخصية المنفتحة والمتطلعة هي التي حثته على اقتحام عالم الرحلات، حيث انطلقت رحلته من زنجبار صبيحة يوم الجمعة 17/4/1914م، على الباخرة الألمانية المسماة «جتريدورمن»، وفي هذه الرحلة سافر البرواني إلى مصر، وبلاد الشام، حيث انطلقت من زنجبار، واتجهت إلى تانجة، ثم ممباسا، وعدن، والسويس، وبورسعيد، والقاهرة، وبيروت، ودمشق، ويافا، ثم العودة إلى بور سعيد، والقاهرة، وجيبوتي، وعدن وممباسا حتى وصلت إلى زنجبار، حيث غطت مساحة واسعة، من المدن الواقعة في المحيط الهندي، إلى جانب زيارته للقاهرة ولبنان وبلاد الشام، واستغرقت ستة أشهر إلا خمسة أيام، وحرص في رحلته على ذكر وسائل التنقل التي استخدمها، لإبراز التقدم الذي وصل إليه العالم في مجال المواصلات.
ليخرج لنا بكتاب «رحلة أبي الحارث البرواني» يلخص فيه تجربة رحلته، التي يسردها بأسلوب وصفي رقيق العبارة، مع حضور ملامح للمكان ومشاهداته لكل ما تقع عليه عينه، وما رآه فيها من آثار وحضارة وعمران، وقصور وحدائق، وسكك حديد، وما تزخر به من مفردات للحضارة العصرية.
بلغة أدبية رفيعة، من ذلك هذا التقديم الذي كتبه مع بداية رحلته، وهو على ظهر السفينة الألمانية: «وبينما هي تمخر عباب اليم على ضفاف مدينة زنجبار، إذ لاحت مني التفاتة إلى تلك الديار التي الفتها، ومنازل أحبائي وخلاني الذين فارقتهم، فأحسست بألم الفراق، ولم تمض بضع من الساعات حتى توارت عني أرضها، كما يقول الشاعر:
وتلفتت عيني فمذ بعدت عني الطلول تلفَّت القلبُ
ومما خفف عني ذلك الألم اشتياقي لرؤية الأقطار التي أزمعت الرحيل إليها، وما زالت الباخرة توالي سيرها حتى رست بنا الساعة الحادية عشرة في ميناء تانجا، وقد اتخذته الحكومة الألمانية مرسى لسفن التجارة بعد دار السلام، وتمتد من هذه المدينة سكة حديدية إلى الداخل، وفي أرضها يزرع مقدار عظيم من الكتان الجيد، ويصدر إلى أوروبا.. إلخ».
والرحلة لا تغفل المعلومة التاريخية، فمثلا في سرده الوصفي للرحلة يتحدث البرواني عن مظاهر التاريخ الإسلامي، في مدينة الفسطاط، ويذكر عدد مساجدها والتي تصل إلى 36 ألف مسجد، وثمانية آلاف شارع، وأحب في القاهرة خدمة المطاعم والبائعات الإفرنجيات في الدكاكين، والمتنزهات، وصيف جسر قصر النيل، وقراءة القرآن قبل صلاة الجمعة، وقصور مصر الجديدة، وكرم عرب الريف. كما أبدى امتعاضًا ببعض المشاهد في مصر، من بينها عادات النساء في المآتم، وتلحين القرآن، وتقديس جامع المتولي، وغيرها من المشاهدات التي سردها في رحلته، ويثني على أهل الريف المصري كثيرا، فيصفهم بأنهم أهل الكرم واللطف، ولين الجانب، والاحتفاء بالغريب. ويصف الحرم الشريف في مدينة المقدس، حيث يقول: بعد وصولي الفندق، خرجت قاصدًا إلى الحرم الشريف، ولما انتهيت إليه دخلت من أحد أبوابه، فانتهيت إلى مساحة عظيمة، وهي ساحة الحرم، من جانب آخر يستفيد البرواني من وصف بعض الجغرافيين، كوصف ابن جبير لمدينة دمشق.
وحظيت رحلته بعد كتابتها أدبيًا بحفاوة من قبل بعض الشعراء والعلماء الذين عاصروه، من بينهم أبو مسلم البهلاني، حيث كان يقيم في زنجبار، وجمعته معه صداقة حميمة، يقول أبو مسلم مقرضًا لهذه الرحلة الأدبية: إن رحلتكم حبة من فريد الجوهر، تناولتها الثريا لتجعلها ثامنة سبعتها، أو حبة في عنقودها، أو فصا لخاتم كفها، أو واسطة لعقدها، فإن لم يكن ذا فرحلتكم قطعة من النور، دلت على مكان نبوغكم في الكتابة، ثم أتبعها بقصيدة من نظمه يقول فيها:
تجول في بساط الأرض شيئًا لتنظر صنعة الملك البديع
فلم تك صخرة جبلت فقرت فلست إلى المسير بمستطيع
ولأبي الحارث أيضًا مساهمة أدبية أخرى في فن المقامات، قدمت الدكتورة آسية البوعلي حولها دراسة ضافية،
حيث تكتمل فيها خصائص المقامة الأدبية، ابتداء من الحديث المسند فتستهل بإحدى العبارتين: «حدث هلال بن إياس قال:....» أو «حكي هلال بن إياس قال:....» إذن، البرواني يلجأ إلى توظيف صيغ الإسناد: التي كانت شائعة في الثقافة العربية الكلاسيكية، كما أن بطل المقامات هو «الحارث بن الأرقم ويكنى بأبي الهيثم»، الذي يسلط عليه البرواني الضوء من حيث مظهره الخارجي، وسلوكه وبعده الفكري والنفسي. فنجد أنه في وصفه يجمع بين الشيء ونقيضه، وهذا التضاد هو ما يجعل هذه الشخصية شخصية مميزة تقع في مركز الاهتمام، وسلوك هذه الشخصية لا يختلف عن هيئتها الخارجية من حيث التناقض، فيظهر في صور متناقضة مرة واعظًا ومرة شاكيًا ومرة بليغًا.... وعموما شخصية البطل مرت بتجارب كثيرة وخبرات متنوعة «أقد حلب الدهر أشطريه، وبلغ من العمر أطوريه»، وهو ما يؤكده الحارث ذاته أذ يقول: «بلوت الدهر، وعجمة عود» في الخير والشر، وتقلبت في أعطاف اليسر، وتمرغت في أطعان العسر، وركبت البحار، وجبت القفار، وخضت الغمار، واقتحمت الأخطار، وعانيت الحروب، وعانيت الخطوب، وملكت مواطن العلوم، وعرفت المنقول منها والمفهوم. فلم أكد أرى اليوم من الدهر جديدًا، ولا من أحواله مزيدا».
أما راوي المقامات الخيالي فهو هلال بن إياس، وهو لا يقوم برواية المقامات لنا فقط، بل يشارك الحدث ويصنعه أحيانا. والمقامات تحوي كدية يكشفها البرواني في نهاية المقامة، حيث يتعرف هلال بن إياس (الراوي) على الحارث بن الأرقم (البطل)، حينئذ غالبا ما تحتوي المقامة على عبارة الراوي التي تنم عن المفاجأة أذ يرد على لسانه «فإذا هو والله شيخنا أبو الهيثم» أو «فإذا الشيخ شيخنا أبو الهيثم بلا ريب» أو «فإذا هو شيخنا صاحب المقامات».
احتوت المقامات مجموعة من الأحداث البسيطة مثل: حدث سطو اللصوص على الحارث، أو نزول الكوارث على الحارث، ورغم أنها بسيطة، لكن لها دورا في عملية السرد، فتلك الأحداث بمثابة التعليل الذي يبين كيفية تعرف الراوي وأصحابه على البطل، أما الحبكة، فهي ضعيفة طورا، وغائبة طورا آخر، حيث طغى عليها التكلف المتعمد في توظيف المخمنات البديهية والأساليب البيانية، الأمر الذي يذكرنا برأي بعض الدارسين للمقامات إذ يرونها عملا صناعيا لا فنيا و«أدبا ركيكا لأنه ينهض على التكلف»
فالبرواني نهج نهج سابقيه من كتاب المقامات حين استهل مقاماته بافتتاحية معينة تحتوي على صيغة السند، وعلى راو بعينه، كما أنه - أي البرواني- كان كسابقيه من كتاب المقامات حين ركز على شخصيتي الراوي والبطل في مقاماته، فضلا عن غياب الحدث والحبكة نتيجة لطغيان الأساليب البلاغية في المقامات لا سيما السجع والجناس، كما وظف البرواني بالنسبة للمكان أسماء لبلدان ومواقع جغرافية من أجل الإشارة الى الخلفية المكانية التي وقعت فيها أحداث المقامة، وكان الزمان تراكميا يتسلسل تسلسلا، منطقيا في بنية مقاماته حيث أدى كل حدث إلى الحدث الذي يليه دون استباق أو استرجاع في تلك البنية الزمنية. وان أحد الروابط التي ربطت بين الموضوعات في المقامات تمثله في الراوي والبطل والمؤلف.
توفي الشيخ محمد البرواني بمنزله في زنجبار، يوم الثلاثاء الموافق 21/7/1953م، عن عمر يناهز 76 عاما، وترك عدة مؤلفات، من بينها رحلة أبي الحارث ومقامات أبي الحارث، ومجموعة من القصائد الشعرية.
وشب البرواني في ذلك الجو الثقافي، وسط الإنجازات التي أدخلها السلطان برغش بن سعيد بن سلطان (1870م ــ 1888م) الذي شهدت زنجبار في عهده إصلاحات عديدة تتعلق بالبنى الخدمية الأساسية، من بين أعماله إدخال الكهرباء، وتوصيل الماء العذب إلى جزيرة زنجبار، وتعبيد الطرق، وبناء بيت العجائب، وهو أول بيت من ثلاثة أدوار، مزود بمصعد كهربائي في شرق أفريقيا.
وأما أعماله السيد برغش بن سعيد الثقافية، فأبرزها إنشاء المطبعة السلطانية التي عنيت بطبع الكتب الدينية والأدبية، وأسهمت في ظهور الصحافة العربية في زنجبار، منذ مطلع القرن العشرين، التي ساهمت في تنشيط الحركة الأدبية في زنجبار، مما أدى إلى ازدهار «النثر الفني».
كان البرواني شخصية منفتحة، ومتطلعة، ولا تقنع بالسائد والمألوف، فقد بدأ عندما بلغ الخمسين من العمر، بتعلم اللغة الانجليزية، رغبة في الاطلاع على الفكر والأدب الإنجليزي اطلاعًا مباشرًا، مدفوعًا إلى ذلك بميوله الأدبية وإرادته القوية. يقول د. محمد المحروقي محللا شخصية البرواني الثقافية: لمس بشكل غير مباشر سؤالًا من أهم أسئلة النهضة العربية الحديثة، المتصلة بالموقف من الغرب، فشخصيته اتسمت بالمرونة والانفتاح على الآخر، مما انعكس على موقفه من الغرب، ذلك الموقف الذي يقضي بالاستفادة من منجزات الغرب، دون التخلي عن القيم الإسلامية، ودون الابتعاد عن روح الإسلام.
ولعل تلك الشخصية المنفتحة والمتطلعة هي التي حثته على اقتحام عالم الرحلات، حيث انطلقت رحلته من زنجبار صبيحة يوم الجمعة 17/4/1914م، على الباخرة الألمانية المسماة «جتريدورمن»، وفي هذه الرحلة سافر البرواني إلى مصر، وبلاد الشام، حيث انطلقت من زنجبار، واتجهت إلى تانجة، ثم ممباسا، وعدن، والسويس، وبورسعيد، والقاهرة، وبيروت، ودمشق، ويافا، ثم العودة إلى بور سعيد، والقاهرة، وجيبوتي، وعدن وممباسا حتى وصلت إلى زنجبار، حيث غطت مساحة واسعة، من المدن الواقعة في المحيط الهندي، إلى جانب زيارته للقاهرة ولبنان وبلاد الشام، واستغرقت ستة أشهر إلا خمسة أيام، وحرص في رحلته على ذكر وسائل التنقل التي استخدمها، لإبراز التقدم الذي وصل إليه العالم في مجال المواصلات.
ليخرج لنا بكتاب «رحلة أبي الحارث البرواني» يلخص فيه تجربة رحلته، التي يسردها بأسلوب وصفي رقيق العبارة، مع حضور ملامح للمكان ومشاهداته لكل ما تقع عليه عينه، وما رآه فيها من آثار وحضارة وعمران، وقصور وحدائق، وسكك حديد، وما تزخر به من مفردات للحضارة العصرية.
بلغة أدبية رفيعة، من ذلك هذا التقديم الذي كتبه مع بداية رحلته، وهو على ظهر السفينة الألمانية: «وبينما هي تمخر عباب اليم على ضفاف مدينة زنجبار، إذ لاحت مني التفاتة إلى تلك الديار التي الفتها، ومنازل أحبائي وخلاني الذين فارقتهم، فأحسست بألم الفراق، ولم تمض بضع من الساعات حتى توارت عني أرضها، كما يقول الشاعر:
وتلفتت عيني فمذ بعدت عني الطلول تلفَّت القلبُ
ومما خفف عني ذلك الألم اشتياقي لرؤية الأقطار التي أزمعت الرحيل إليها، وما زالت الباخرة توالي سيرها حتى رست بنا الساعة الحادية عشرة في ميناء تانجا، وقد اتخذته الحكومة الألمانية مرسى لسفن التجارة بعد دار السلام، وتمتد من هذه المدينة سكة حديدية إلى الداخل، وفي أرضها يزرع مقدار عظيم من الكتان الجيد، ويصدر إلى أوروبا.. إلخ».
والرحلة لا تغفل المعلومة التاريخية، فمثلا في سرده الوصفي للرحلة يتحدث البرواني عن مظاهر التاريخ الإسلامي، في مدينة الفسطاط، ويذكر عدد مساجدها والتي تصل إلى 36 ألف مسجد، وثمانية آلاف شارع، وأحب في القاهرة خدمة المطاعم والبائعات الإفرنجيات في الدكاكين، والمتنزهات، وصيف جسر قصر النيل، وقراءة القرآن قبل صلاة الجمعة، وقصور مصر الجديدة، وكرم عرب الريف. كما أبدى امتعاضًا ببعض المشاهد في مصر، من بينها عادات النساء في المآتم، وتلحين القرآن، وتقديس جامع المتولي، وغيرها من المشاهدات التي سردها في رحلته، ويثني على أهل الريف المصري كثيرا، فيصفهم بأنهم أهل الكرم واللطف، ولين الجانب، والاحتفاء بالغريب. ويصف الحرم الشريف في مدينة المقدس، حيث يقول: بعد وصولي الفندق، خرجت قاصدًا إلى الحرم الشريف، ولما انتهيت إليه دخلت من أحد أبوابه، فانتهيت إلى مساحة عظيمة، وهي ساحة الحرم، من جانب آخر يستفيد البرواني من وصف بعض الجغرافيين، كوصف ابن جبير لمدينة دمشق.
وحظيت رحلته بعد كتابتها أدبيًا بحفاوة من قبل بعض الشعراء والعلماء الذين عاصروه، من بينهم أبو مسلم البهلاني، حيث كان يقيم في زنجبار، وجمعته معه صداقة حميمة، يقول أبو مسلم مقرضًا لهذه الرحلة الأدبية: إن رحلتكم حبة من فريد الجوهر، تناولتها الثريا لتجعلها ثامنة سبعتها، أو حبة في عنقودها، أو فصا لخاتم كفها، أو واسطة لعقدها، فإن لم يكن ذا فرحلتكم قطعة من النور، دلت على مكان نبوغكم في الكتابة، ثم أتبعها بقصيدة من نظمه يقول فيها:
تجول في بساط الأرض شيئًا لتنظر صنعة الملك البديع
فلم تك صخرة جبلت فقرت فلست إلى المسير بمستطيع
ولأبي الحارث أيضًا مساهمة أدبية أخرى في فن المقامات، قدمت الدكتورة آسية البوعلي حولها دراسة ضافية،
حيث تكتمل فيها خصائص المقامة الأدبية، ابتداء من الحديث المسند فتستهل بإحدى العبارتين: «حدث هلال بن إياس قال:....» أو «حكي هلال بن إياس قال:....» إذن، البرواني يلجأ إلى توظيف صيغ الإسناد: التي كانت شائعة في الثقافة العربية الكلاسيكية، كما أن بطل المقامات هو «الحارث بن الأرقم ويكنى بأبي الهيثم»، الذي يسلط عليه البرواني الضوء من حيث مظهره الخارجي، وسلوكه وبعده الفكري والنفسي. فنجد أنه في وصفه يجمع بين الشيء ونقيضه، وهذا التضاد هو ما يجعل هذه الشخصية شخصية مميزة تقع في مركز الاهتمام، وسلوك هذه الشخصية لا يختلف عن هيئتها الخارجية من حيث التناقض، فيظهر في صور متناقضة مرة واعظًا ومرة شاكيًا ومرة بليغًا.... وعموما شخصية البطل مرت بتجارب كثيرة وخبرات متنوعة «أقد حلب الدهر أشطريه، وبلغ من العمر أطوريه»، وهو ما يؤكده الحارث ذاته أذ يقول: «بلوت الدهر، وعجمة عود» في الخير والشر، وتقلبت في أعطاف اليسر، وتمرغت في أطعان العسر، وركبت البحار، وجبت القفار، وخضت الغمار، واقتحمت الأخطار، وعانيت الحروب، وعانيت الخطوب، وملكت مواطن العلوم، وعرفت المنقول منها والمفهوم. فلم أكد أرى اليوم من الدهر جديدًا، ولا من أحواله مزيدا».
أما راوي المقامات الخيالي فهو هلال بن إياس، وهو لا يقوم برواية المقامات لنا فقط، بل يشارك الحدث ويصنعه أحيانا. والمقامات تحوي كدية يكشفها البرواني في نهاية المقامة، حيث يتعرف هلال بن إياس (الراوي) على الحارث بن الأرقم (البطل)، حينئذ غالبا ما تحتوي المقامة على عبارة الراوي التي تنم عن المفاجأة أذ يرد على لسانه «فإذا هو والله شيخنا أبو الهيثم» أو «فإذا الشيخ شيخنا أبو الهيثم بلا ريب» أو «فإذا هو شيخنا صاحب المقامات».
احتوت المقامات مجموعة من الأحداث البسيطة مثل: حدث سطو اللصوص على الحارث، أو نزول الكوارث على الحارث، ورغم أنها بسيطة، لكن لها دورا في عملية السرد، فتلك الأحداث بمثابة التعليل الذي يبين كيفية تعرف الراوي وأصحابه على البطل، أما الحبكة، فهي ضعيفة طورا، وغائبة طورا آخر، حيث طغى عليها التكلف المتعمد في توظيف المخمنات البديهية والأساليب البيانية، الأمر الذي يذكرنا برأي بعض الدارسين للمقامات إذ يرونها عملا صناعيا لا فنيا و«أدبا ركيكا لأنه ينهض على التكلف»
فالبرواني نهج نهج سابقيه من كتاب المقامات حين استهل مقاماته بافتتاحية معينة تحتوي على صيغة السند، وعلى راو بعينه، كما أنه - أي البرواني- كان كسابقيه من كتاب المقامات حين ركز على شخصيتي الراوي والبطل في مقاماته، فضلا عن غياب الحدث والحبكة نتيجة لطغيان الأساليب البلاغية في المقامات لا سيما السجع والجناس، كما وظف البرواني بالنسبة للمكان أسماء لبلدان ومواقع جغرافية من أجل الإشارة الى الخلفية المكانية التي وقعت فيها أحداث المقامة، وكان الزمان تراكميا يتسلسل تسلسلا، منطقيا في بنية مقاماته حيث أدى كل حدث إلى الحدث الذي يليه دون استباق أو استرجاع في تلك البنية الزمنية. وان أحد الروابط التي ربطت بين الموضوعات في المقامات تمثله في الراوي والبطل والمؤلف.
توفي الشيخ محمد البرواني بمنزله في زنجبار، يوم الثلاثاء الموافق 21/7/1953م، عن عمر يناهز 76 عاما، وترك عدة مؤلفات، من بينها رحلة أبي الحارث ومقامات أبي الحارث، ومجموعة من القصائد الشعرية.