في أمسيّة رمضانية مضيئة ليلة الثلاثاء بالنادي الثقافي؛ ألقى الدكتور محمود حمد شذرات من خلال بحوثه ورؤاه النقدية في جمع مميز من المهتمين بالشعر خاصة والأدب عامة.
وتناول الدكتور مجموعة من القضايا الأدبية الشائكة، وكضابط حرب خبير؛ تنّقل الدكتور وأمَّنا في حقل مليء بألغام شعرية وأدبية عديدة، لطالما مثلّت هاجسا وشكلت الآراء النقدية تجاه قضايا شعرية مفصلية وأدبية كذلك ظل الوسط الشعري يتحاشاها لحساسيتها وإمكانية تأثيرها على العلاقات بين الشعراء والأدباء والنقاد. فمن طبيعة الخطاب الشعري وعلاقته بالذات، إلى تشريح معنى الخطاب، معرجا على الحديث عن الشعر -أي كينونة الشعر ومعناه عند العرب القدماء، ومعناه عند الدكتور- بعرض تعريفات القدماء له والوقوف على بعض التعريفات بعينها وتأملها واستخلاص النتائج من ذلك كله، أمتعنا الدكتور وأفادنا كثيرا، فرأيت أن نقف على بعض أهم ما ورد في تلك الجلسة الرمضانية المبثوثة على اليوتيوب، وذلك لأهمية ما طرحه وجرأته ورصانته.
«كل ما يُقال عن الشعر هي مغامرة فاشلة، لماذا؟ لأن الشعر في خطاب سطوته -كما يسمّيها ميشيل فوكو- لا يعتمد على ما تقوم به الأجناس الأخرى من سطوة خطاب تنطلق من الإيمان بالخطاب نفسه، أو مُقارَبةِ صاحِبِهِ. لأنه لا يستقر؛ فلو عدنا إلى -ما نستطيع أن نسميه الشعر القديم معنا في الذاكرة العربية- لوجدنا بأن الشعر العربي القديم يستعصي على الإمساك، يستعصي حتى على محاولة قراءته بمنظور واحد. فهيمنة خطاب الشعر تختلف عن هيمنة أي خطاب آخر؛ لأنني دائما أضع في الحسبان المقولة التي أعتد بها كثيرا «الشعر هو ما لا يقال إلا بالشعر» بتصرف. هكذا يبتدئ الدكتور جلسته المثرية والمثيرة في آن، فهي من الجلسات التي تثير التساؤلات وتستفز العقل على البحث الإبداعي خارج نطاق السائد، بما ينفض الغبار عن التراكمات المدرسية -أي التلقينات الثابتة المكررة في المناهج الدراسية المختلفة- والتي لا يعني بالضرورة أنها بائدة ولا تصلح للدراسة والنظر؛ وإنما برؤيتها من منظور آخر ونقدها نقدا آخر يمنحها أبعادا مختلفة عما هو سائد ومسلَّم به. وهذه مهمة الناقد في الأصل؛ أن يدلنا على مكامن الجمال والقوة والمَكَنَة، كما يدلنا على مواطن الخلل والضعف والخطأ. فهو يجلو غبار الفكرة السائدة لا لأجل أنها سائدة فحسب؛ بل لأنه يرينا القضايا من زاوية لم نعتد النظر منها إلى تلك القضايا.
وهنا أستطرد استطرادا قصيرا؛ فإن الحركة الأدبية العمانية بنموها المطّرد وفوز عدد كبير من أدبائها وكتّابها بجوائز عالمية وعربية مرموقة، لهي فرصة ثمينة لتطور حركة النقد العمانية خاصة والعربية عامة. كما أن حركة النقد العمانية فرصة للنقاد بأن يعودوا ويتجهوا لدراسة الأدب العماني على قدم المساواة كما يُدرس أدب أقرانهم من العرب، ففي ذلك خدمة لتطور الحركة الثقافية العمانية عامة، فالناقد قادر على إبراز كتب ومخطوطات ظلت منسية وحبيسة الأدراج؛ لأن مؤلفها لا يملك من السطوة الأدبية أو الاجتماعية ما يتيح لكتبه الذيوع والانتشار فضلا عن التأمل والالتفات إليها. وأما حركة النقد العربية؛ فإن الأدب العماني خاصة والثقافة العمانية على الإطلاق ظلت مُتجاهلة لفترة طويلة ولا يُنظر إليها كما يُنظر إلى نظرائها من البلدان العربية الأخرى. فإن فوز رواية «سيدات القمر» للدكتورة جوخة الحارثية بجائزة مان بوكر العالمية، كأول رواية عربية مترجمة تفوز بهذه الجائزة، وهي لم تفز بجوائز عربية من قبل؛ لهو أكبر دليل على هذا التجاهل بغض النظر عن كونه متعمدا أم غير ذلك. فالجوائز تشبه العلامات التي تظهر على شاشة السيارة؛ فلا يلتفت النقاد -كما أصحاب السيارات- إلى تشريح الأدب وفحصه -نقده- إلا بعد فوزه بالجوائز، إلا إن كان ذا سطوة كما أسلفنا. فهي دعوة إلى الالتفات إلى الكتّاب الآخرين -حتى من رحل عن عالمنا- والنظر في آثارهم الكتابية نظرة متجردة من الآراء المسبقة.
بالعودة إلى المحور الرئيس وهو حديث الدكتور محمود؛ فبعد حديثه عن الخطاب ومفهومه وذكر بعض آراء وتعريفات عمالقة النقاد العرب القدماء، كقدامة ابن جعفر وابن سلّام وابن رشيق القيرواني. يلاحظ المتابع لحديثه مزاوجة الدكتور ومقاربة الآراء النقدية للنقاد العرب القدماء، بالنقاد المعاصرين. كقوله في معرض حديثه عن تعريف القدماء للشعر «.. يضيف ابن رشيق -إلى تعريف الشعر- المعنى، وعندما تقرأون ما يقوله عن المعنى ستكتشفون أن المعنى هو الذي نتدارسه اليوم لكونه -كما يسميه- (بول) ريكور الصورة». ومثل هذه الالتفاتات النقدية والمقاربات، حصلت مع رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ومقارنتها بالكوميديا الإلهية لدانتي ألييجري في الجانب الأدبي، أو لكتب روجر بيكون وتوما الإكويني ومقارنتها بكتب ابن رشد ومنهجه الفلسفي. إن أهمية النقد لا تكمن في الإشارة إلى من جاء أولا بالمعنى الفلاني والصورة الفلانية، بل في البناء والهدم؛ هدم المهترئ وبنائه بأساسات أقوى.
كما هو معلوم، فلا يمكن الحديث عن الشعر دون الحديث عن الشعرية والشاعرية، والشعرية القديمة والحديثة، ومعاني الحداثة وتجلياتها والإتيان بشواهد قديمة وحديثة في المقاربات النقدية جميعها. إن الإنترنت من نعم العصر الحديث، وحيث كنا نسمع ونقرأ عن المجالس الأدبية كمجلس هارون الرشيد والعلماء والأدباء بين يديه أو مجالس التوحيدي وثعلب، أو مجالس شيخ الأدباء طرا أبو العلاء المعري، فنتمنى لو أننا غشيناها؛ فإننا نستطيع اليوم مشاهدة الأمسيات والنقاشات والحوارات عبر اليوتيوب، ومن حسن الطالع أن هذه الأمسية إحدى الأمسيات المسجلة. وبطبيعة الحال، فلا يمكن اختزال كلام ناقد حصيف كالدكتور الأديب محمود حمد في بضعة سطور، لذلك أدعو المهتمين إلى مشاهدة الجلسة كاملة عبر اليوتيوب بعنوان « الخطاب الشعري وتحولاته» وهو عنوان ورقة الدكتور ذاتها. ولي أمل بأن يكون للنقد مكانته العالية كما للرواية اليوم، وكما للشعر بالأمس؛ فالنقد في شتى مناحي الحياة هو الدافع الأول لتحريك الراكد وتغيير الثابت على غير أساس، ولهداية السائرين على غير هدى.
وتناول الدكتور مجموعة من القضايا الأدبية الشائكة، وكضابط حرب خبير؛ تنّقل الدكتور وأمَّنا في حقل مليء بألغام شعرية وأدبية عديدة، لطالما مثلّت هاجسا وشكلت الآراء النقدية تجاه قضايا شعرية مفصلية وأدبية كذلك ظل الوسط الشعري يتحاشاها لحساسيتها وإمكانية تأثيرها على العلاقات بين الشعراء والأدباء والنقاد. فمن طبيعة الخطاب الشعري وعلاقته بالذات، إلى تشريح معنى الخطاب، معرجا على الحديث عن الشعر -أي كينونة الشعر ومعناه عند العرب القدماء، ومعناه عند الدكتور- بعرض تعريفات القدماء له والوقوف على بعض التعريفات بعينها وتأملها واستخلاص النتائج من ذلك كله، أمتعنا الدكتور وأفادنا كثيرا، فرأيت أن نقف على بعض أهم ما ورد في تلك الجلسة الرمضانية المبثوثة على اليوتيوب، وذلك لأهمية ما طرحه وجرأته ورصانته.
«كل ما يُقال عن الشعر هي مغامرة فاشلة، لماذا؟ لأن الشعر في خطاب سطوته -كما يسمّيها ميشيل فوكو- لا يعتمد على ما تقوم به الأجناس الأخرى من سطوة خطاب تنطلق من الإيمان بالخطاب نفسه، أو مُقارَبةِ صاحِبِهِ. لأنه لا يستقر؛ فلو عدنا إلى -ما نستطيع أن نسميه الشعر القديم معنا في الذاكرة العربية- لوجدنا بأن الشعر العربي القديم يستعصي على الإمساك، يستعصي حتى على محاولة قراءته بمنظور واحد. فهيمنة خطاب الشعر تختلف عن هيمنة أي خطاب آخر؛ لأنني دائما أضع في الحسبان المقولة التي أعتد بها كثيرا «الشعر هو ما لا يقال إلا بالشعر» بتصرف. هكذا يبتدئ الدكتور جلسته المثرية والمثيرة في آن، فهي من الجلسات التي تثير التساؤلات وتستفز العقل على البحث الإبداعي خارج نطاق السائد، بما ينفض الغبار عن التراكمات المدرسية -أي التلقينات الثابتة المكررة في المناهج الدراسية المختلفة- والتي لا يعني بالضرورة أنها بائدة ولا تصلح للدراسة والنظر؛ وإنما برؤيتها من منظور آخر ونقدها نقدا آخر يمنحها أبعادا مختلفة عما هو سائد ومسلَّم به. وهذه مهمة الناقد في الأصل؛ أن يدلنا على مكامن الجمال والقوة والمَكَنَة، كما يدلنا على مواطن الخلل والضعف والخطأ. فهو يجلو غبار الفكرة السائدة لا لأجل أنها سائدة فحسب؛ بل لأنه يرينا القضايا من زاوية لم نعتد النظر منها إلى تلك القضايا.
وهنا أستطرد استطرادا قصيرا؛ فإن الحركة الأدبية العمانية بنموها المطّرد وفوز عدد كبير من أدبائها وكتّابها بجوائز عالمية وعربية مرموقة، لهي فرصة ثمينة لتطور حركة النقد العمانية خاصة والعربية عامة. كما أن حركة النقد العمانية فرصة للنقاد بأن يعودوا ويتجهوا لدراسة الأدب العماني على قدم المساواة كما يُدرس أدب أقرانهم من العرب، ففي ذلك خدمة لتطور الحركة الثقافية العمانية عامة، فالناقد قادر على إبراز كتب ومخطوطات ظلت منسية وحبيسة الأدراج؛ لأن مؤلفها لا يملك من السطوة الأدبية أو الاجتماعية ما يتيح لكتبه الذيوع والانتشار فضلا عن التأمل والالتفات إليها. وأما حركة النقد العربية؛ فإن الأدب العماني خاصة والثقافة العمانية على الإطلاق ظلت مُتجاهلة لفترة طويلة ولا يُنظر إليها كما يُنظر إلى نظرائها من البلدان العربية الأخرى. فإن فوز رواية «سيدات القمر» للدكتورة جوخة الحارثية بجائزة مان بوكر العالمية، كأول رواية عربية مترجمة تفوز بهذه الجائزة، وهي لم تفز بجوائز عربية من قبل؛ لهو أكبر دليل على هذا التجاهل بغض النظر عن كونه متعمدا أم غير ذلك. فالجوائز تشبه العلامات التي تظهر على شاشة السيارة؛ فلا يلتفت النقاد -كما أصحاب السيارات- إلى تشريح الأدب وفحصه -نقده- إلا بعد فوزه بالجوائز، إلا إن كان ذا سطوة كما أسلفنا. فهي دعوة إلى الالتفات إلى الكتّاب الآخرين -حتى من رحل عن عالمنا- والنظر في آثارهم الكتابية نظرة متجردة من الآراء المسبقة.
بالعودة إلى المحور الرئيس وهو حديث الدكتور محمود؛ فبعد حديثه عن الخطاب ومفهومه وذكر بعض آراء وتعريفات عمالقة النقاد العرب القدماء، كقدامة ابن جعفر وابن سلّام وابن رشيق القيرواني. يلاحظ المتابع لحديثه مزاوجة الدكتور ومقاربة الآراء النقدية للنقاد العرب القدماء، بالنقاد المعاصرين. كقوله في معرض حديثه عن تعريف القدماء للشعر «.. يضيف ابن رشيق -إلى تعريف الشعر- المعنى، وعندما تقرأون ما يقوله عن المعنى ستكتشفون أن المعنى هو الذي نتدارسه اليوم لكونه -كما يسميه- (بول) ريكور الصورة». ومثل هذه الالتفاتات النقدية والمقاربات، حصلت مع رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ومقارنتها بالكوميديا الإلهية لدانتي ألييجري في الجانب الأدبي، أو لكتب روجر بيكون وتوما الإكويني ومقارنتها بكتب ابن رشد ومنهجه الفلسفي. إن أهمية النقد لا تكمن في الإشارة إلى من جاء أولا بالمعنى الفلاني والصورة الفلانية، بل في البناء والهدم؛ هدم المهترئ وبنائه بأساسات أقوى.
كما هو معلوم، فلا يمكن الحديث عن الشعر دون الحديث عن الشعرية والشاعرية، والشعرية القديمة والحديثة، ومعاني الحداثة وتجلياتها والإتيان بشواهد قديمة وحديثة في المقاربات النقدية جميعها. إن الإنترنت من نعم العصر الحديث، وحيث كنا نسمع ونقرأ عن المجالس الأدبية كمجلس هارون الرشيد والعلماء والأدباء بين يديه أو مجالس التوحيدي وثعلب، أو مجالس شيخ الأدباء طرا أبو العلاء المعري، فنتمنى لو أننا غشيناها؛ فإننا نستطيع اليوم مشاهدة الأمسيات والنقاشات والحوارات عبر اليوتيوب، ومن حسن الطالع أن هذه الأمسية إحدى الأمسيات المسجلة. وبطبيعة الحال، فلا يمكن اختزال كلام ناقد حصيف كالدكتور الأديب محمود حمد في بضعة سطور، لذلك أدعو المهتمين إلى مشاهدة الجلسة كاملة عبر اليوتيوب بعنوان « الخطاب الشعري وتحولاته» وهو عنوان ورقة الدكتور ذاتها. ولي أمل بأن يكون للنقد مكانته العالية كما للرواية اليوم، وكما للشعر بالأمس؛ فالنقد في شتى مناحي الحياة هو الدافع الأول لتحريك الراكد وتغيير الثابت على غير أساس، ولهداية السائرين على غير هدى.