قام الفيلسوف آرثر شوبنهاور في عام 1851 بنشر كتيّبٍ بعنوان «ضد الفلسفة الجامعيّة»، عارض فيه تدريس الفلسفة كما كان يُمارس في الجامعات بسبب اختزالها في الجوانب النظرية والتجريدية. ولم تكن تلك المرة الأولى التي ينتقد فيها الفيلسوف الألماني ما صارت إليه الفلسفة إذ سبق له أن قال: «لم تعد الفلسفة كما كانت عند اليونان، تُمارس كَفنٍّ خاص، بل أصبح لها وجود رسمي، وصارت أساسًا أو على نحوٍ حصريّ في خدمة الدولة».
يمكننا أن نتساءل ما إذا كانت الشركات قد حلّت مكان الدولة في فضائنا المعاصر، وما إذا كان ينبغي علينا بدورنا أن نكون «ضد فلسفة الشركات». لقد استمرّ حضور «الفلسفة» داخل المنظمات في التزايد خلال السنوات العشر الماضية. وليس من غير المألوف أن نرى فلاسفة يتحدثون في ندوات خاصة بالشركات، أو نرى انتشار «الوكالات الفلسفية»، أو نسمع عن «استشاراتٍ فلسفية داخل الشركات».
الفلسفة، أسلوب حياة قبل أي شيء آخر
إذا كان شوبنهاور قد انتقد الفلسفة الجامعية بشدّة فذلك؛ لأنها لم تعد تمثل في أيامه أسلوب حياة، كما حرص على ذلك الفلاسفة القدماء، سواء الرواقيون أو الأبيقوريون أو حتى الكلبيون. ففي زمن هؤلاء، كان الفلاسفة الحقيقيون هم أولئك الذين وضعوا كلماتهم الحكيمة في محكّ الاختبار، وكانت أفعالهم تعكس أقوالهم. ولقد أثيرت انتقادات كثيرة ضد أولئك الذين لم يهتمّوا بالتدريب الأخلاقي لتلاميذهم ولم ينخرطوا حقًا في أسلوب حياة فلسفي.
لقد أوضح أفلاطون، على سبيل المثال، أنه إذا كان قد سعى إلى لعب دور سياسي في سيراقوسة (جزيرة صقلية)، فإن الذي دفعه إلى ذلك هو ألاّ يبدو في قرارة نفسه كخطيب سلس عاجز عن الفعل. ومن جهته، كان بوليمون يسخر من الأساتذة الذين كانوا يسعون إلى إثارة إعجاب الآخرين بفضل مهاراتهم في الجدل والبلاغة، وكانوا يتناقضون مع أنفسهم حالما تُخضعهم الحياة للاختبار.
لقد كان الرّهان واضحًا، إذ لم تكن المسألة تتعلق بالتفكير بشكل «صحيح» أو أخلاقي، بل كانت تتعلق حقًا بفعل الخير. وإذا كانت الفلسفة القديمة عبارة عن مزيج من النظرية والتطبيق، فإن هذا الجانب الأخير هو الذي كان يحظى بأهمية أكبر.
عرفت الفلسفة خلال تاريخها الممتد عمليات استعادة وإعادة تملّك، سواء كان ذلك من قبل الأديان، أو من خلال إضفاء الطابع الرسمي على تدريسها إبّان العصور الوسطى، أو حتى من خلال إدماجها في الجامعات مما حوّلها إلى تخصّصٍ تحرّر من الحياة اليومية، وصارت أقل اهتمامًا بسؤال «كيفية العيش» صابّةً جلّ اهتمامها على التعليق على نصوص الأساتذة.
هذا لا يعني أن ممارسة الفلسفة باعتبارها أسلوبًا للحياة قد توقّف تماما، ولدينا سلسلة من الفلاسفة المعاصرين، من إيمرسون (Emerson) وثورو (Thoreau) إلى ستانلي كافل (Stanley Cavell) وريتشارد شوسترمان (Richard Shusterman) مرورًا بميشيل فوكو (Michel Foucault) أو جون بول سارتر (Jean‑Paul Sartre)، الذين أظهروا أن الفلسفة لا تزال قادرة على أن تكون طريقة للعيش.
غير أنه من الواضح تمامًا أن الفلسفة كطريقة للعيش تسعى نحو الحكمة، ومحاربة الأهواء والرغبات، والصراع مع المجد والسلطة والمال. إنها تتعلق باستهداف شكل جمالي للوجود يكون متحرّرًا من الهياكل المعيارية التي تحكمها البيئة الاجتماعية والاقتصادية. وبعبارة أخرى، تسعى طريقة العيش الفلسفية إلى تشكيل مواقف جديدة تجاه العالم في محاولة للعيش بشكل أفضل، أو في الحدّ الأدنى بأقل سوءٍ قدر الإمكان.
وبينما يحمل الوجود إلينا نصيبنا من العقبات والصعوبات والأحزان والاضطرابات التي يجب علينا التعامل معها، سواء في الحياة اليومية المهنية أو الخاصة للفرد، تسعى الفلسفة منذ 2500 عام على الأقل، إلى تقديم الحلول. لقد عمل الفلاسفة القدماء من خلال المعرفة وممارسة التمارين الروحية، على تقديم العون إلى معاصريهم. وتساعد هذه التمارين (التأمل، الحوار، المناقشة، القراءة، الكتابة...) كل من يدمجها في حياته ويحرص على ممارستها.
وبعد ممارسات طويلة من أجل تغيير موقفنا تجاه الوجود، يبدأ الممارس في إدراك الطبيعة الباطلة للتملّك، ويتلاشى لديه الاهتمام بما هو سريع الزوال، فيفصل نفسه عن الاهتمامات المادية والعاطفية التي تتجاوزه ولا تتوقّف عليه.
استعمال الفلسفة
من الصعب أن نتصوّر إدراج «فلسفة» الشركات في هذا المجال من البحث عن الحكمة وممارسة التمارين الروحية عندما تكون قضيتها الرئيسية هي زيادة الأداء، أو الحصول على حصص أفضل من السوق، أو زيادة إنتاجية الفريق. وبالتالي فما الهدف الكامن وراء الفلسفة داخل الشركات؟ أهو لتحسين أهداف الفرد أم لاستخلاص ما يشبه تأملات واكتساب منظور متعالٍ بمناسبة اختتام ندوة ما؟
ما من شكّ في أن تقنيات الفلسفة يمكن أن تكون ذات فائدة بالنسبة إلى الشركات. لا يتردّد بعض المستشارين في مجال «الفلسفة» في الإشارة إلى استخدام المنهج التوليدي من أجل فهمٍ أحسن للعملاء والموظّفين، واقتراح أساليب التمييز من أجل بناء حوار اجتماعي أفضل. كما أنهم لا يتوانون عن استدعاء الكثير من الاقتباسات التي ترجع لقدماء من أجل الترويج للتنمية الذاتية، أو حتى توفير أساليب تتيح إمكانية التعبير عن الأفكار بشكل واضح ومتميز أثناء الاجتماعات... غير أننا نبقى بذلك بعيدين جدا عن رهانات الفلسفة، خاصّة وأن هذه «النصائح» تتم تحت غطاء صفقة تجارية يكمن هدفها حصرا في تحسين أداء المنظمة.
كيف يمكن أن نصدّق العكس؟ فهل رأينا من قبل مداخلة مدفوعة الأجر في شركة ما تحرّض الناس على الاحتجاج على النظام القائم وتؤدي إلى استقالات وتمرّد في صفوف الموظفين؟ كيف يمكننا أن نعتقد أنه عندما تقوم شركة جوجل بتطوير برنامجها الخاص باليقظة الذهنية داخل مؤسستها، فإن الأمر لا يتعلق سوى بتحسين إنتاجية الشركة في ظل الضغط الناتج عن العمل اليومي؟
الفلسفة ليست شيئًا «مؤسّسيًا»، بل هي في المقام الأول موقف متأصّل في الفرد الذي لا يكترث للمجال المهني، والذي لا يهتم بأمور الإنتاج أو أداء المؤسسة. إن الفيلسوف ملتزم بالتنزّه عن الغرض والمصلحة، ولا يسعى إلى الإجماع بأي ثمن، ولا إلى الاسترضاء دون حل المشكلة الأساسية، ولا إلى المصلحة الخاصة لأن رهانه هو الصالح العام.
الشركة في خدمة الفلسفة
لا يمكن للفلسفة أن تكون في خدمة الشركة، بل يجب أن يكون العكس هو الصحيح. يجب أن تكون الشركة في خدمة الفلسفة، أي في خدمة الرفاهية والصالح العام وأفضل حياة ممكنة. وعلى هذا النحو فقط يؤّدي الهدف من الفلسفة العملية معناه الكامل لأنه سيتعلّق حينئذٍ باستخدام الشركات كوسيلة للولوج إلى الفلسفة. وعلى سبيل المثال فإن إنجاز الأبحاث حول الفلسفة النقدية المتعلقة بالابتكار والمبتكرين يندرج بالكامل في هذا الإطار.
يتمثل التحدّي الذي تواجهه هذه الأعمال البحثية في السعي إلى تطوير مقترحات لا تضرّ بالإنسان أو بالبيئة أو بالمجتمع ككل. ولا يهم إن كان ذلك يضع قيودًا أكبر على الشركات مقارنة بخيار الابتكار دون مسؤولية. ومن خلال تقديم حلول جديدة بفضل نشر ونقل معرفة فلسفية راسخة حول هذا الموضوع، يمكننا الاعتقاد بعد ذلك أن ثمّة فلسفة.
إن عشرات الساعات من البحث هي التي تمكّننا من الخروج بفكرة حول موضوع محدد. ويكمن عمل الفيلسوف في الاشتباك مع الواقع، مما يعني أيضا التفكير في هذا الواقع، وهو ما يتطلّب التزامًا طويلًا وباعثًا على الضّجر. إن السماح للناس بالاعتقاد بأن الفلسفة هي مسألة اقتباسات (غالبا ما تُستعمل خارج سياقها)، أو صيغ جيدة تخاطب الحسّ السليم، لا يخدم الفلسفة، ولا يضمن حتى أننا سننجح في مسعانا نحو مساعدة أولئك الذين نرغب في تقديم النصح لهم.
أن تكون فيلسوفًا أو مستشارًا، عليك أن تختار بينهما
إن حاجة الشركات إلى النمو وتحقيق الأرباح وتحسين عملياتها وإنتاجيتها أمر واضح، وهي تخلق في سعيها وراء ذلك نسيجا اقتصاديا واجتماعيا أساسيا. فهل تحتاج الشركات إلى مستشارين استراتيجيين وإلى المشورة من أجل إدارة إشكاليّاتها بشكل أفضل؟ لا ريب في ذلك، ويملك الاستشاريون المسافة والمهارات اللازمة ليكونوا بالتأكيد ذوي فائدة كبيرة في هذا المجال.
ولكن هل على الفلسفة أن تضيع في هذه التفاصيل؟ وأن تستخدم تقنياتها الخاصة وميزاتها لغرض تجاري ومن أجل مصالح خاصة؟ إذا كان على الفلسفة أن تظل أسلوب حياة، فلن يتم ذلك من خلال ورشة عمل أو محاضرة اختتامية في مؤتمر ما.
لا بدّ أن نحترم الشركة ونقدّر دورها ومساهماتها الأساسية، لكن احترامنا للفلسفة يجب ألا يقلّ أهمية. وبعيدا عن الرغبة في استبعاد الفلسفة عن الشركات، فإن بإمكانهما التعايش بشكل كامل وحتى مساعدة بعضهما البعض، طالما أن الهدف يبقى هو العمل لمصلحة المجتمع، كما ينصّ على ذلك مفهوم الابتكار المسؤول على سبيل المثال أو حتى بعض الأعمال المتعلقة بالإدارة (مثلا: مقال عن البيانات الفلسفية للإدارة، تأليف جيسلان دولوند).
إن «فلسفة» الشركات كما تبدو عليه اليوم مجرّدة من أي معنى فلسفي. فالفلسفة لن تكون أبدًا في يوم من الأيام سلعة للشراء والبيع. يتعلّق الأمر باستخدام سطحي للفلسفة يتم من أجل الربح، والتواصل، أو حتى السّفسطة. لكننا سنستفيد جميعًا من تطوير فكر فلسفي قادر على التفكير في الشركات بطريقة جديدة، لا لمساعدتها، وإنما كما قلنا لتكون عونًا يساعد على تحقيق هدف الفلسفة.
ولذا، يجب علينا أن نسأل أنفسنا: كيف يمكن للمنظمات أن تقدّم مساعدتها من أجل الصالح العام؟ كيف يمكن للشركات المساعدة في محاربة الأهواء والرغبات التي تكون دائما باطلة وعابرة؟ كيف يمكن للشركات تطوير حلول لمساعدة الناس على العيش بشكل أفضل؟ هذه بعض الأسئلة الفلسفية الأساسية التي يجب خوض نقاش حولها مع الشركات.
يمكننا أن نتساءل ما إذا كانت الشركات قد حلّت مكان الدولة في فضائنا المعاصر، وما إذا كان ينبغي علينا بدورنا أن نكون «ضد فلسفة الشركات». لقد استمرّ حضور «الفلسفة» داخل المنظمات في التزايد خلال السنوات العشر الماضية. وليس من غير المألوف أن نرى فلاسفة يتحدثون في ندوات خاصة بالشركات، أو نرى انتشار «الوكالات الفلسفية»، أو نسمع عن «استشاراتٍ فلسفية داخل الشركات».
الفلسفة، أسلوب حياة قبل أي شيء آخر
إذا كان شوبنهاور قد انتقد الفلسفة الجامعية بشدّة فذلك؛ لأنها لم تعد تمثل في أيامه أسلوب حياة، كما حرص على ذلك الفلاسفة القدماء، سواء الرواقيون أو الأبيقوريون أو حتى الكلبيون. ففي زمن هؤلاء، كان الفلاسفة الحقيقيون هم أولئك الذين وضعوا كلماتهم الحكيمة في محكّ الاختبار، وكانت أفعالهم تعكس أقوالهم. ولقد أثيرت انتقادات كثيرة ضد أولئك الذين لم يهتمّوا بالتدريب الأخلاقي لتلاميذهم ولم ينخرطوا حقًا في أسلوب حياة فلسفي.
لقد أوضح أفلاطون، على سبيل المثال، أنه إذا كان قد سعى إلى لعب دور سياسي في سيراقوسة (جزيرة صقلية)، فإن الذي دفعه إلى ذلك هو ألاّ يبدو في قرارة نفسه كخطيب سلس عاجز عن الفعل. ومن جهته، كان بوليمون يسخر من الأساتذة الذين كانوا يسعون إلى إثارة إعجاب الآخرين بفضل مهاراتهم في الجدل والبلاغة، وكانوا يتناقضون مع أنفسهم حالما تُخضعهم الحياة للاختبار.
لقد كان الرّهان واضحًا، إذ لم تكن المسألة تتعلق بالتفكير بشكل «صحيح» أو أخلاقي، بل كانت تتعلق حقًا بفعل الخير. وإذا كانت الفلسفة القديمة عبارة عن مزيج من النظرية والتطبيق، فإن هذا الجانب الأخير هو الذي كان يحظى بأهمية أكبر.
عرفت الفلسفة خلال تاريخها الممتد عمليات استعادة وإعادة تملّك، سواء كان ذلك من قبل الأديان، أو من خلال إضفاء الطابع الرسمي على تدريسها إبّان العصور الوسطى، أو حتى من خلال إدماجها في الجامعات مما حوّلها إلى تخصّصٍ تحرّر من الحياة اليومية، وصارت أقل اهتمامًا بسؤال «كيفية العيش» صابّةً جلّ اهتمامها على التعليق على نصوص الأساتذة.
هذا لا يعني أن ممارسة الفلسفة باعتبارها أسلوبًا للحياة قد توقّف تماما، ولدينا سلسلة من الفلاسفة المعاصرين، من إيمرسون (Emerson) وثورو (Thoreau) إلى ستانلي كافل (Stanley Cavell) وريتشارد شوسترمان (Richard Shusterman) مرورًا بميشيل فوكو (Michel Foucault) أو جون بول سارتر (Jean‑Paul Sartre)، الذين أظهروا أن الفلسفة لا تزال قادرة على أن تكون طريقة للعيش.
غير أنه من الواضح تمامًا أن الفلسفة كطريقة للعيش تسعى نحو الحكمة، ومحاربة الأهواء والرغبات، والصراع مع المجد والسلطة والمال. إنها تتعلق باستهداف شكل جمالي للوجود يكون متحرّرًا من الهياكل المعيارية التي تحكمها البيئة الاجتماعية والاقتصادية. وبعبارة أخرى، تسعى طريقة العيش الفلسفية إلى تشكيل مواقف جديدة تجاه العالم في محاولة للعيش بشكل أفضل، أو في الحدّ الأدنى بأقل سوءٍ قدر الإمكان.
وبينما يحمل الوجود إلينا نصيبنا من العقبات والصعوبات والأحزان والاضطرابات التي يجب علينا التعامل معها، سواء في الحياة اليومية المهنية أو الخاصة للفرد، تسعى الفلسفة منذ 2500 عام على الأقل، إلى تقديم الحلول. لقد عمل الفلاسفة القدماء من خلال المعرفة وممارسة التمارين الروحية، على تقديم العون إلى معاصريهم. وتساعد هذه التمارين (التأمل، الحوار، المناقشة، القراءة، الكتابة...) كل من يدمجها في حياته ويحرص على ممارستها.
وبعد ممارسات طويلة من أجل تغيير موقفنا تجاه الوجود، يبدأ الممارس في إدراك الطبيعة الباطلة للتملّك، ويتلاشى لديه الاهتمام بما هو سريع الزوال، فيفصل نفسه عن الاهتمامات المادية والعاطفية التي تتجاوزه ولا تتوقّف عليه.
استعمال الفلسفة
من الصعب أن نتصوّر إدراج «فلسفة» الشركات في هذا المجال من البحث عن الحكمة وممارسة التمارين الروحية عندما تكون قضيتها الرئيسية هي زيادة الأداء، أو الحصول على حصص أفضل من السوق، أو زيادة إنتاجية الفريق. وبالتالي فما الهدف الكامن وراء الفلسفة داخل الشركات؟ أهو لتحسين أهداف الفرد أم لاستخلاص ما يشبه تأملات واكتساب منظور متعالٍ بمناسبة اختتام ندوة ما؟
ما من شكّ في أن تقنيات الفلسفة يمكن أن تكون ذات فائدة بالنسبة إلى الشركات. لا يتردّد بعض المستشارين في مجال «الفلسفة» في الإشارة إلى استخدام المنهج التوليدي من أجل فهمٍ أحسن للعملاء والموظّفين، واقتراح أساليب التمييز من أجل بناء حوار اجتماعي أفضل. كما أنهم لا يتوانون عن استدعاء الكثير من الاقتباسات التي ترجع لقدماء من أجل الترويج للتنمية الذاتية، أو حتى توفير أساليب تتيح إمكانية التعبير عن الأفكار بشكل واضح ومتميز أثناء الاجتماعات... غير أننا نبقى بذلك بعيدين جدا عن رهانات الفلسفة، خاصّة وأن هذه «النصائح» تتم تحت غطاء صفقة تجارية يكمن هدفها حصرا في تحسين أداء المنظمة.
كيف يمكن أن نصدّق العكس؟ فهل رأينا من قبل مداخلة مدفوعة الأجر في شركة ما تحرّض الناس على الاحتجاج على النظام القائم وتؤدي إلى استقالات وتمرّد في صفوف الموظفين؟ كيف يمكننا أن نعتقد أنه عندما تقوم شركة جوجل بتطوير برنامجها الخاص باليقظة الذهنية داخل مؤسستها، فإن الأمر لا يتعلق سوى بتحسين إنتاجية الشركة في ظل الضغط الناتج عن العمل اليومي؟
الفلسفة ليست شيئًا «مؤسّسيًا»، بل هي في المقام الأول موقف متأصّل في الفرد الذي لا يكترث للمجال المهني، والذي لا يهتم بأمور الإنتاج أو أداء المؤسسة. إن الفيلسوف ملتزم بالتنزّه عن الغرض والمصلحة، ولا يسعى إلى الإجماع بأي ثمن، ولا إلى الاسترضاء دون حل المشكلة الأساسية، ولا إلى المصلحة الخاصة لأن رهانه هو الصالح العام.
الشركة في خدمة الفلسفة
لا يمكن للفلسفة أن تكون في خدمة الشركة، بل يجب أن يكون العكس هو الصحيح. يجب أن تكون الشركة في خدمة الفلسفة، أي في خدمة الرفاهية والصالح العام وأفضل حياة ممكنة. وعلى هذا النحو فقط يؤّدي الهدف من الفلسفة العملية معناه الكامل لأنه سيتعلّق حينئذٍ باستخدام الشركات كوسيلة للولوج إلى الفلسفة. وعلى سبيل المثال فإن إنجاز الأبحاث حول الفلسفة النقدية المتعلقة بالابتكار والمبتكرين يندرج بالكامل في هذا الإطار.
يتمثل التحدّي الذي تواجهه هذه الأعمال البحثية في السعي إلى تطوير مقترحات لا تضرّ بالإنسان أو بالبيئة أو بالمجتمع ككل. ولا يهم إن كان ذلك يضع قيودًا أكبر على الشركات مقارنة بخيار الابتكار دون مسؤولية. ومن خلال تقديم حلول جديدة بفضل نشر ونقل معرفة فلسفية راسخة حول هذا الموضوع، يمكننا الاعتقاد بعد ذلك أن ثمّة فلسفة.
إن عشرات الساعات من البحث هي التي تمكّننا من الخروج بفكرة حول موضوع محدد. ويكمن عمل الفيلسوف في الاشتباك مع الواقع، مما يعني أيضا التفكير في هذا الواقع، وهو ما يتطلّب التزامًا طويلًا وباعثًا على الضّجر. إن السماح للناس بالاعتقاد بأن الفلسفة هي مسألة اقتباسات (غالبا ما تُستعمل خارج سياقها)، أو صيغ جيدة تخاطب الحسّ السليم، لا يخدم الفلسفة، ولا يضمن حتى أننا سننجح في مسعانا نحو مساعدة أولئك الذين نرغب في تقديم النصح لهم.
أن تكون فيلسوفًا أو مستشارًا، عليك أن تختار بينهما
إن حاجة الشركات إلى النمو وتحقيق الأرباح وتحسين عملياتها وإنتاجيتها أمر واضح، وهي تخلق في سعيها وراء ذلك نسيجا اقتصاديا واجتماعيا أساسيا. فهل تحتاج الشركات إلى مستشارين استراتيجيين وإلى المشورة من أجل إدارة إشكاليّاتها بشكل أفضل؟ لا ريب في ذلك، ويملك الاستشاريون المسافة والمهارات اللازمة ليكونوا بالتأكيد ذوي فائدة كبيرة في هذا المجال.
ولكن هل على الفلسفة أن تضيع في هذه التفاصيل؟ وأن تستخدم تقنياتها الخاصة وميزاتها لغرض تجاري ومن أجل مصالح خاصة؟ إذا كان على الفلسفة أن تظل أسلوب حياة، فلن يتم ذلك من خلال ورشة عمل أو محاضرة اختتامية في مؤتمر ما.
لا بدّ أن نحترم الشركة ونقدّر دورها ومساهماتها الأساسية، لكن احترامنا للفلسفة يجب ألا يقلّ أهمية. وبعيدا عن الرغبة في استبعاد الفلسفة عن الشركات، فإن بإمكانهما التعايش بشكل كامل وحتى مساعدة بعضهما البعض، طالما أن الهدف يبقى هو العمل لمصلحة المجتمع، كما ينصّ على ذلك مفهوم الابتكار المسؤول على سبيل المثال أو حتى بعض الأعمال المتعلقة بالإدارة (مثلا: مقال عن البيانات الفلسفية للإدارة، تأليف جيسلان دولوند).
إن «فلسفة» الشركات كما تبدو عليه اليوم مجرّدة من أي معنى فلسفي. فالفلسفة لن تكون أبدًا في يوم من الأيام سلعة للشراء والبيع. يتعلّق الأمر باستخدام سطحي للفلسفة يتم من أجل الربح، والتواصل، أو حتى السّفسطة. لكننا سنستفيد جميعًا من تطوير فكر فلسفي قادر على التفكير في الشركات بطريقة جديدة، لا لمساعدتها، وإنما كما قلنا لتكون عونًا يساعد على تحقيق هدف الفلسفة.
ولذا، يجب علينا أن نسأل أنفسنا: كيف يمكن للمنظمات أن تقدّم مساعدتها من أجل الصالح العام؟ كيف يمكن للشركات المساعدة في محاربة الأهواء والرغبات التي تكون دائما باطلة وعابرة؟ كيف يمكن للشركات تطوير حلول لمساعدة الناس على العيش بشكل أفضل؟ هذه بعض الأسئلة الفلسفية الأساسية التي يجب خوض نقاش حولها مع الشركات.