تبحث هذه الورقة في انفعالات (1) العار والشعور بالذنب التي تقوم عليها ثقافة ذكرى الهولوكوست (2)، المُتمثلة في أُطروحة التفرد، وكيف يسهم ذلك في إنكار المنظور الفلسطيني في المجتمع الألماني. ستُقارب الورقة الموضوع من خلال دراسة حالة «قضية مبيمبي» في عام 2020. تحدى عمل أشيل مبيمبي الديكولنيالي العقائد الأساسية لثقافة الذاكرة الألمانية، عندما اقترح روابط بين الهولوكوست والاستعمار وكشف عن الإصرار الشديد على مُمايزة الهولوكوست في المجتمع الألماني. من أجل إثبات أن هذا الإصرار على الفرادة -وما ينتجه من انفعالات أساسية- يلعب دورًا حاسمًا في إنكار وجهات النظر الفلسطينية، تقدم الورقة أولا أطروحة التفرد، وآثارها، والسرديات المضادة. بعدها، تبحث الورقة في عاطفتي العار والذنب الجماعي باعتبارها دوافع أساسية لهذا الإصرار على تفرد الهولوكوست. وفي هذا السياق، سيتم إثبات أن ثقافة الذاكرة الألمانية التي تشكلها هذه الانفعالات تؤدي إلى إنكار التجربة والمنظور الفلسطيني حول الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
المقدمة
أستكشف في هذه الورقة الانفعالات الكامنة وراء ثقافة الذاكرة الألمانية، ودورها في إنكار المنظور الفلسطيني في المجتمع الألماني، مركزة على ما يسمى بـ«أطروحة التفرد» باعتبارها واحدة من المعتقدات الأساسية لثقافة الذاكرة الألمانية، وسأتعقب التأثيرات العاطفية للعار والذنب التي تدعم هذا المعتقد. وسأوضح بعد ذلك كيف تترجم هذه العواطف إلى إنكار لوجهات النظر الفلسطينية في المجتمع الألماني.
يعود اختيار أطروحة التفرد كموضوع رئيسي للنقاش، لكونها تحتل موقعًا مركزيًا في الجدل حول أشيل مبيمبي، والذي دار في ألمانيا عام 2020. وكان مبيمبي -الفيلسوف الكاميروني والشخصية الرائدة في فكر ما بعد الاستعمار- قد دُعي لإلقاء الكلمة الافتتاحية لمهرجان روهرترينالي Ruhrtriennale، وهو مهرجان فني ألماني سنوي. قُوبلت دعوة مبيمبي بانتقادات وصدرت مطالبات بإلغاء الدعوة من قبل أفراد من الجمهور الألماني بناء على عدة اتهامات، أبرزها نسبته (relativising) للهولوكوست.
اتهام مبيمبي بأنه يُنسبن (relativises) الهولوكوست -كما جاء في التغطية الإخبارية لحديثه- يعود إلى عمله الذي يتحدى فكرة فرادة الهولوكوست. باعتباره باحثًا في موضوعات ما بعد الاستعمار مختصٌ في أبحاث الاستعمار والعنصرية، يرى مبيمبي الهولوكوست باعتبارها استمرارًا لهذه الديناميكيات وليس كظاهرة منفصلة. ولهذا السبب أحدث جدل مبيمبي ما سمي بـ«خلاف المؤرخين الثاني»، والذي يأتي بعد «خلاف المؤرخين» الشهير في منتصف الثمانينات، والذي نُوقشت فيه قراءات مختلفة للهولوكوست. ركزت التغطية الإخبارية للخلاف بشكل أساسي على خِطاب الطابع الفريد للهولوكوست وأظهرت ميلًا واضحًا للإصرار على هذا التفرد.
ويعد جدل مبيمبي حادثة واحدة ضمن النمط العريض لإسكات حملات التضامن مع فلسطين في ألمانيا. خلال السنوات القليلة الماضية، زادت حالات استهداف الأفراد والجماعات، والمطالبات بسحب الدعوات أو حتى الإلغاء (3)، كما حدث مع نيمي الحسن، ومدرسة نبذ الصهيونية (the School for Unlearning Zionism)، ودوكومنتا 15 (documenta 15)، ودويتشه فاله (Deutsche Welle). برزت هذه الديناميكية بشكل خاص منذ مصادقة البرلمان الألماني لقرار مكافحة المقاطعة (Anti-BDS) عام 2019، إذ صارت الحملات تسعى وراء أهداف أكثر بروزا وحظيت بمزيد من الاهتمام الإعلامي. ومع أن إسكات الأصوات المتضامنة مع فلسطين وعداء الفلسطينيين -بالمثل- ليست حكرا على ألمانيا، إلا أنها ناجحة بشكل خاص هناك. وهذا مؤشر على دور العواطف -مثل الشعور بالذنب والعار- التي شكّلت المجتمع الألماني في مرحلة ما بعد الهولوكوست. مع ذلك، تجدر الإشارة أيضًا إلى أن إنكار الرواية الفلسطينية لا يرجع لهذه الانفعالات وحدها، كما يُدلل على ذلك انتشار العنصرية ضد الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم الغربي. وكما أوضح باحثون آخرون، فهو أيضا مظهر من مظاهر العنصرية الاستعمارية ضد السكان الأصليين، والإسلاموفوبيا في سياق الجغرافيا السياسية العالمية والاستغلال الصهيوني لذكرى الهولوكوست لأغراض سياسية (Abu-Laban and Bakan 2019).
من أجل إثبات أن الإصرار على فرادة الهولوكوست -والعواطف الكامنة- تلعب دورًا حاسمًا في إنكار المنظور الفلسطيني، سأستهل بمقدمة حول أطروحة التفرد والسبب الذي جعل منها مركز النقاش في الجدل المثار حول مبيمبي. ثانيا، سأستكشف دور التأثير الجماعي للعار والذنب في هذا الإصرار على التفرد، وكيف تؤدي ثقافة الذاكرة الألمانية التي شكلتها هذه المشاعر إلى إنكار المنظور الفلسطيني.
يتخذ الذنب مكانًا مركزيًا في نقاشات مجتمع ما بعد الهولوكوست الألماني. الشعور بالذنب الجماعي هو ما يمنح ألمانيا -في الغالب- سمعتها كبلاد نجحت في التعامل مع ماضيها الشنيع. على الرغم من التنظير المفرط، تبقى بعض جوانب الذنب مغفول عنها، خاصة من منظور إنهاء الاستعمار. من المهم ربط نظريات المشاعر بالواقع المادي، وبهذا نجلب إلى الواجهة تأثيرات المشاعر الجماعية على الحياة الواقعية، فيما يتعلق بإنتاج الهوية، والعنصرية، والسلطة.
أطروحة التفرد ودلالاتها والسرديات المضادة
في مقابلة مع محطة الإذاعة الوطنية Deutschlandfunk Kultur، يدعّم فيليكس كلاين -أحد المحرضين الرئيسيين على الحملة ضد مبيمبي- انتقاداته عبر التأكيد على أن «تفرد الهولوكوست» هي «سردية مهمة لثقافة الذاكرة في ألمانيا، ولتأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية» (Aguigah, Klein, and Gerk 2020). يمكن تتبع كلمة وفكرة «الفرادة» (و«الوحدانية») من خلال الكثير من التغطية الإعلامية للنقاش حول مبيمبي (Elbe 2020; Leggewie 2020; Schindler 2020; Cheema and Mendel 2020). الجدل الذي بدأ كمجرد محاولة لسحب دعوة مبيمبي من مهرجان فني، تحول إلى واحدة من أهم الاضطرابات في المجتمع الألماني الذي يعيد التفاوض بشأن نظام الذاكرة.
إن فكرة فرادة الهولوكوست، كما رأينا في الاقتباس أعلاه، مبنية على ما يسمى بـ«أطروحة التفرد»، وهو الإطار الذي يؤسس للهولوكوست باعتباره حدثا تاريخيا فريدا لا يمكن مقارنته بأي فظاعة أخرى، ومعاداة السامية -بدورها- ظاهرة لا مثيل لها في التاريخ، ولا يُمكن عدّها شكلا آخر من أشكال العنصرية. وفقًا لديرك موزس Dirk Moses، وجدت هذه المقاربة للهولوكوست طريقها في الأوساط الأكاديمية إلى ثقافة ذكرى الهولوكوست بحلول الثمانينيات، إلى الحد الذي «دفع العديد من الألمان اليساريين والليبراليين اليوم، يعتقدون أن مسؤوليتهم في مرحلة ما بعد الهولوكوست، تُحتم عليهم دمج هذا الإيمان [بفرادته] في فهمهم الذاتي وصورتهم الدولية» (Moses 2021b).
بدأ خطاب مبيمبي في خلخلة هذا النظام. وفجأة، انبرى العديد من الصحفيين يتساءلون ما إذا كانت مقارنة الهولوكوست بعمليات الإبادة الجماعية الأخرى -وهي [أي المقارنة] الممارسة التي يُنظر إليها باعتبارها مثيرةً للجدل وغير ملائمة- يمكن اعتبارها غير شرعية بالفعل. بدأت دعوة الخبراء لإجراء مقابلات للتأكد من أن المقارنات هي ممارسة علمية شائعة وقيمة للتحليل التاريخي. تساءلت الفيلسوفة الأمريكية سوزان نيمان Susan Neiman، «كيف يمكن ربط الإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين بجرائم أخرى ضد الإنسانية دون إنكار تفردها؟» (Aguigah, Assmann, and Neiman 2020). في حين يتم تحدي جوانب معينة من أطروحة التفرد -مثل حظر المقارنات- في التغطية الإعلامية لهذا الجدل، فإن الإصرار على تفرد الهولوكوست نتيجة للمقارنات لم يتم الطعن فيه.
هذا الإصرار على أطروحة التفرد هو ما يُوثقه ديرك موزس Dirk Moses في مقالته «العقيدة الألمانية»، التي تلخص المعتقدات الأساسية الخمسة لثقافة الذاكرة. أولا، تفرد الهولوكوست الذي يرى موزس أنه قادم من الفهم المحدود للهولوكوست باعتباره «إبادة اليهود من أجل الإبادة نفسها» (Moses 2021b). ثانيا، نتيجة لتفرده، تُقدّم الهولوكوست على أنها «شرخ حضاري» و«الأساس الأخلاقي لـ[ألمانيا]» (Moses 2021b). ثالثا، الاستنتاج الأخلاقي الذي توصلت إليه ألمانيا من هذا -وفقا لموزس- هو مسؤولية الدولة الخاصة تجاه اليهود وإسرائيل. رابعا، تم تدعيم فكرة أن الهولوكوست حدث فريد من نوعه عبر التأسيس لمعاداة السامية باعتبارها -هي أيضا- تحيزًا فريدًا مقابل كل ما عداه من أشكال العنصرية، وباعتبارها «تحيزًا ألمانيًا خاصًا». وأخيرًا، يكشف موزس عن وضع معاداة الصهيونية إزاء معاداة السامية باعتبارهما متماثلتين. من خلال «العقيدة الألمانية»، لاحظ موزس ديناميكية أصبحت سائدة بشكل متزايد في المجتمع الألماني في السنوات الأخيرة: يُنظر إلى فرادة الهولوكوست ودعم إسرائيل على أنهما استنتاجات مترابطة وبديهية، وهي محاولات لتحمل مسؤولية اقتراف الهولوكوست.
تخضع أطروحة التفرد لنقاش حاد من قبل العلماء الذين يحذرون من أن الإيمان بتفرد الهولوكوست يخلق تسلسلًا هرميًا للمعاناة (Moses 2021a; Rothberg 2009). ومن خلال الإصرار على تفرد الهولوكوست، يتم تقديم الهولوكوست على أنها «جريمة الجرائم»، «الشر المطلق». وهذا يضع معيارًا لتصنيف ضرب من الفظاعات على أنها إبادة جماعية ويؤدي إلى التنافس بين المجموعات للاعتراف بمعاناتها (Moses 2021a, 11). علاوة على ذلك، حذر مايكل روثبيرج Michael Rothberg من أن التسلسل الهرمي للمعاناة يؤدي إلى إزالة «المعاناة من مجال الفاعلية التاريخية (4)» وطور نهج الذاكرة متعددة الاتجاهات لمواجهة هذه المشكلة الأخلاقية (Rothberg 2009, 9).
أطروحة الاستمرارية -باعتبارها النظير لأطروحة التفرد- تضع الهولوكوست ضمن سلسلة متواصلة من العنف والعنصرية والحداثة والإمبريالية، وبالتالي تشجع ربطه بالاستعمار وغيره من الفظائع. هذا الفهم للهولوكوست بارز جدا في دراسات ما بعد الاستعمار، حيث يدعم علماء مثل: أشيل مبيمبي، وإدوارد سعيد، وإيمي سيزير Aimé Césaire، دو بويز W. E. B. Du Bois، ويورجن زيميرر Juergen Zimmerer هذا الرأي. ولهذا السبب، أثار مبيمبي على وجه الخصوص «خلاف المؤرخين الثاني»؛ نظرًا لأن عمله يرتكز على أطروحة الاستمرارية. وبما أن هذا لا يتوافق مع المعتقدات الأساسية لثقافة الذاكرة الألمانية، فإن العديد من المقالات الإخبارية التي تم نشرها حول جدال مبيمبي تؤطر ما بعد الاستعمار ككل على أنه إشكالي ومعادٍ للسامية (Hoyer 2022; Laurin 2020; Mangold 2020; Posener 2020; Cheema and Mendel 2020).
الانفعالات
من أجل فهم كامل لشراسة تلقي نقد مبيمبي لفرضية التفرد، نحتاج إلى النظر في دور المشاعر. وفقا لموزس فإنه «تم استيعاب [العقيدة الألمانية] من قبل عشرات الملايين باعتبارها الطريق إلى الخلاص الوطني من الماضي الآثم» (Moses 2021b). وبينما يركز موزس في تحليله على الدوافع الدينية لثقافة الذاكرة الألمانية، فإنني أزعم أن فهم العواطف التي تدعم نظام الذاكرة هذا سيكشف عمق إنكار المنظور الفلسطيني في المجتمع الألماني. بعد سنوات من حملات إسكات الفلسطينيين والمتضامنين مع التحرير الفلسطيني، أصبح من الواضح أن ثقافة الذاكرة الألمانية ليست مجرد مساهم في إنكار الحق الفلسطيني فحسب، وإنما الباعث الرئيسي وراءه. وفي حين أن هذا لا يعني أن العواطف هي السبب الوحيد لهذه الديناميكية، فإن تسليط الضوء على الانفعالات الأساسية أدناه سيعزز فهم تجارب الشتات الفلسطيني في ألمانيا، والديناميكيات التي يواجهونها.
3.1 عاطفة العار
يمكن تصور تأثير العار من خلال ثلاث سمات رئيسية تميزه عن الشعور بالذنب. أولا، يبرز العار عندما يفشل المرء في الارتقاء إلى مستوى المُثُل العليا (Ahmed 2014, 108). ثانيا، يتطلب العار وجود جمهور من الغرباء يمكنهم أن يشهدوا تصرفات الشخص المشينة (Dresler-Hawke and Liu 2006, 135). ثالثا، يسعى العار إلى التستر أو استهجان الذات وأخطائها (Heimannsberg and Schmidt 1994, xix; Olick 2010, 68).
وفقا لسارة أحمد، فإن النقطة الأولى هي ما يربط العار بالهوية الجماعية: «العار يُطيح بالـ«أنا» مع الـ«نحن» عند الإخفاق في تحويل المُثل الاجتماعية إلى أفعال» (Ahmed 2014: 109). عندما تشهد أمة بشكل جماعي إخفاقاتها وجورها، وعندما يشهد عليها الغرباء، فإن ذلك يخلق شعورًا بالعار الجماعي (Ahmed 2014: 108). ومع سعي العار لإخفاء إخفاقاته، فإنه يحتاج إلى أن يتحول -مجددًا- إلى فخر. وتتابع سارة أحمد: «الإخفاق متى ما كان محط شهادة فإنه يؤكد على المُثل العليا، ويجعل من الممكن العودة إلى الكبرياء. وبعبارة أخرى، فإن إحالة الشعور السيئ إلى الشخص المصاب بالعار هو أمر مؤقت فقط، حيث يمكن أن تصبح «الإحالة» دليلًا على استعادة هوية يمكننا أن نفخر بها” (Ahmed 2014: 109–10). وعليه فإن الشعور الجماعي بالعار تجاه الهولوكوست يصبح مرتبطًا بالهوية الألمانية، ومن أجل الفرار من الشعور بالعار، لا بد من إعادة تشكيل الهوية الجماعية لتحويل العار إلى الفخر. ومن هنا فإن العار الألماني يؤدي وظيفة مؤقتة للتغلب على ماضٍ من الجرائم البشعة، ويمهد في النهاية الطريق للعودة إلى الشعور بالفخر. أزعم أن موضوع هذا الفخر الجديد هو ثقافة الذاكرة الألمانية التي تخلق نموذجًا فخريًا جديدًا للهوية الجماعية الألمانية. إنه بمثابة دليل على أن الماضي المخزي قد تم تركه وراءنا، وأن الإصلاحات قد تمت.
وبما أن شُهُود الفشل في الارتقاء إلى مستوى المُثُل العليا للفرد هي سمة أساسية للعار، فأنا أقترح أن نفس التأييد الخارجي مطلوب حتى يتحول العار إلى فخر. وبالتالي، لا بد من الاعتراف من قبل الآخرين بأن الإصلاحات قد أجريت، وأن الهوية الألمانية الجديدة منفصلة بالفعل عن الهوية القديمة. حتى تصبح الهوية الألمانية الجديدة محل فخر، يجب أن يعترف الآخرون بثقافة الذاكرة الألمانية باعتبارها أفضل طريقة للتعلم من الماضي. ومن خلال الإصرار على تفرد الهولوكوست، يتقوى هذا الفخر، كما يجعل التعافي من هذا الماضي المخزي فضيلة كُبرى. وبسبب هذه الحاجة إلى الشهادة، يحاول المجتمع الألماني تعميم ثقافة الذاكرة الخاصة به لإثبات أنه توصل إلى النتيجة المشروعة الوحيدة من الهولوكوست.
هذا الفخر المكتشف حديثًا في ثقافة الذاكرة هذه هو جوهر الهوية الألمانية الجديدة، وبالتالي، فإن أي تحدٍ لمكونات ثقافة الذاكرة يُنظر إليه على أنه تهديد ويتم تصويره على أنه معاد للسامية، وبالتالي جزء من «الهوية القديمة». وهذا يخلق مجتمعا حصريا لأن «الصورة المثالية للأمة، مبنية على صورة البعض دون البعض الآخر [و] تُصان من خلال تحويل العار إلى فخر» (Ahmed 2014: 113). يستبعد المجتمع الألماني -بالتالي- أولئك الذين لا يتشاطرون معه نفس المعتقدات الأساسية لـ«العقيدة الألمانية» التي بُنيت عليها الهوية الجماعية الجديدة. وبهذا المعنى، عندما يُترجم العار مرة أخرى إلى فخر، فإنه ينعش نفسه، لكنه لا يتحول إلى شيء جديد فعليا (Olick 2010, 90). بالتالي، فإن «الهوية الألمانية الجديدة» تُوهمنا بتجديدها، فيما تكرار -في الواقع- أنماطها القديمة.
تؤثر هذه الديناميكية سلبًا على الأصوات المهمشة، وخاصة الألمان من ذوي الخلفيات المهاجرة، الذين يتم استهدافهم لأنهم يحملون وجهات نظر مختلفة حول الهولوكوست، وذكراهم لفظائع أخرى. يتعرض الفلسطينيون على وجه الخصوص لهذا، لأنهم يعارضون العديد من المعتقدات الأساسية للعقيدة الألمانية. للفلسطينيين تجاربهم الخاصة مع التطهير العرقي والتروما(5)، زد على ذلك أن تجاربهم مع النكبة المستمرة مرتبط ارتباطًا مباشرًا بالهولوكوست (تمامًا كما هي الحال مع الاستعمار الأوروبي)، ويعد هذا كله ضارا بفرضية التفرد. كما أن إسرائيل هي الشاهد الأهم على الهوية الألمانية الجديدة «المحسنة»، فهي تجسيد لضحايا الهولوكوست بالنسبة لألمانيا. ومن ثم، يجب إنكار المنظور الفلسطيني -بشأن اعتبار إسرائيل دولة معتدية واستعمارية استيطانية- من أجل الإبقاء على شرعية إسرائيل لتكون شاهدا على تحول ألمانيا. ولهذا السبب فإن وجود إسرائيل في حد ذاته هو أحد المعتقدات الأساسية لثقافة الذاكرة الألمانية، وقد تم استهداف مبيمبي لتوضيحه الحقيقة الاستعمارية في إسرائيل/فلسطين.
3.2 عاطفة الذنب
عاطفة الذنب تُجسد هذه الديناميكية بوضوح. لنستكشف جانبين رئيسيين منه: أولاً، ينشأ الشعور بالذنب من خلال «الإدانة الذاتية للخطيئة» (Olick 2010: 68)، وبالتالي، على النقيض من العار، لا يلزم وجود شاهد خارجي لكي ينشأ هذا الانفعال. ثانيًا، يُختبر تأثير الذنب باعتباره عبئًا يجب رفعه من خلال الاعتراف (Olick 2010: 90). وفقًا لأيرمان Eyerman، يتطلب الشعور بالذنب لأجل أن يُصبح انفعالاً جماعيًا شعورًا بـ«التماهي مع الجناة [...] وترسيخ مثل هذا التماهي ضمن مجموعة أوسع» (Eyerman 2019: 169). إذا ما تم الإخفاق في إيجاد هذا التماهي، فسيُرفض الذنب وأي مسؤولية تُصاحبه. ومن ثم، يمكن اعتبار الرفض وسيلة أخرى للهروب من عبء الذنب.
إذا كان الذنب يستلزم الاعتراف وإذا كان الإصرار على تفرد الهولوكوست يعيق الاعتراف الصحيح بالاستعمار الألماني، فيمكن استنتاج أن تأثير الذنب داخل ثقافة الذاكرة الألمانية لا يشمل الشعور بالذنب تجاه الاستعمار. لذلك، فإنني أتصور الذنب الألماني كما تم التعبير عنه في ثقافة الذاكرة على أنه ذو شقين: الذنب تجاه الهولوكوست، وغياب الذنب تجاه الاستعمار. وبالتالي لا تقتصر وظيفة الاعتقاد بتفرد الهولوكوست على كونها اعترافاً فحسب، بل وتشكل أيضاً رفضاً للاعتراف بجرائم الاستعمار.
إذا كان الذنب ينشأ من «قناعة باطنية بالخطيئة»، فإن غياب الشعور بالذنب تجاه الاستعمار يعني أن المجتمع الألماني لم يعترف بالاستعمار باعتباره «خطيئة». تلعب أطروحة التفرد، وفقًا لأمنون راز-كراكوتزكين Amnon Raz-Krakotzkin، دورًا مهمًا في هذا، حيث إن عزل الهولوكوست «كحالة شاذة [...] يحافظ على الصورة الذاتية للمسيحية الغربية (العلمانية) باعتبارها الحامل الحصري للديمقراطية، العلمنة، والتقدم” (Raz-Krakotzkin 2019, 84). ومن ثم، فمن خلال تجنب الاعتراف بالاستعمار، لا يرفض المجتمع الألماني مضاعفة ذنبه فحسب، بل إنه -أيضا- يُبقي الدروس المستفادة من الهولوكوست مُبسطة؛ لأنه يتهرب من معالجة العنصرية البنيوية ويسمح بالوجود المستمر لعلاقة القوة الاستعمارية.
وهذا ما يكشفه منظور ما بعد الاستعمار الذي يصر على دمج المسؤولية عن الاستعمار في ثقافة الذاكرة. من خلال إظهار المزيد من الفظائع -التي تستلزم الشعور بالذنب- للجماعة الألمانية، فإن ما بعد الاستعمار يشكل تهديدًا للهوية الألمانية غير المثقلة بالأعباء. علاوة على ذلك، تكشف مرحلة ما بعد الاستعمار كيف أن المجتمع الألماني لا يزال مذنبًا ومتواطئًا. يجادل روثبيرج Rothberg وزيمرر Zimmerer بأن «لا يُمكن عد الأمر إلا تهربًا من النقاش حول الجرائم الاستعمارية -وفي السياق نفسه- محاولة إنقاذ الحداثة الأوروبية دون أن يمسها النقد، وتأمين موقف السيطرة البيضاء في الداخل، ووضع الهيمنة الغربية في الخارج» (Rothberg and Zimmerer 2021). وبالتالي، فأنا أزعم أن الإصرار على تفرد الهولوكوست يقوم بدور المتراس يحوُل دون تحمل المسؤولية الفعلية، والذي ينبغي أن يأتي في شاكلة التحول البنيوي وإنهاء الاستعمار.
حذّر الباحثون منذ أمد حول كون الشعور بالذنب يعيق تحمل المسؤولية؛ بسبب ميله إلى الانغماس والتمركز حول الذات (Köhler, Arendt, and Blücher 2000: 84–85; Olick 2010: 89). وهذا ما يؤكده الجدل حول مبيمبي، الذي أنتجته التغطية الإعلامية ليقتصر على تناول ثقافة الذاكرة الألمانية وحدها. على الرغم من أن ما أذكى الشرارة الأولى هو تبني مبيمبي لوجهة النظر الفلسطينية، من خلال تصور إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية، إلا أن تحليله هذا لم يلقَ التفاعل الملائم في التغطية الإعلامية الألمانية. على العكس من ذلك، تم إنكار الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية لإسرائيل بشكل قاطع وتم تصوير دعم إسرائيل على أنه ضرورة ناتجة عن تفرد الهولوكوست (Elbe 2020). من منظور الذنب، فإن دعم إسرائيل هو بمثابة تعويض عن الجرائم الألمانية، وبالتالي يخفف عبء الذنب عن المجتمع الألماني. إن الاعتراف بالواقع الاستعماري الاستيطاني في إسرائيل وفلسطين من شأنه أن يزيد الوعي باستمرارية ديناميكيات القوة الاستعمارية، وتورط ألمانيا فيها. ومن ثم فإنه سيثقل كاهل المجتمع الألماني بالذنب. بعبارة أخرى، يشكل الفلسطينيون -باعتبارهم ضحايا مستعمَرين لإسرائيل- تهديدًا لتهرب ألمانيا من الشعور بالذنب، ولهذا يتم استهداف وإسكات أولئك الذين يتبنون المنظور الفلسطيني، بما في ذلك باحثو ما بعد الاستعمار. وبالتالي فإن محو الرواية الفلسطينية، هو نتيجة مباشرة للذنب الألماني، ولا يمكن مواجهته إلا من خلال «إعادة الفلسطينيين إلى مركز قصتهم مرة أخرى» (Anonymous 2020: 9).
الخاتمة
بيّنت هذه الورقة أن مشاعر العار والذنب تصيغ على نحو فعال ثقافة الذاكرة الألمانية، بطريقة تنكر وجهات النظر الفلسطينية. يستخدم ذلك الميل المُصاحب العار إلى ستر إخفاقاته - ثقافة الذاكرة لغرض خلق هوية جماعية جديدة فخورة. وهذا يخلق مجتمعًا حصريًا يشعر بالتهديد من أي تحديات للمعتقدات الأساسية لثقافة الذاكرة. وبما أن الفلسطينيين لا يحملون قصصهم الخاصة المملوءة بالتروما والفظائع فحسب، بل يتحدون أيضًا دور إسرائيل كشاهد شرعي للإصلاحات الألمانية، تُواجه وجهات نظرهم بالرفض. ثمة جانبيين للذنب في سياق ثقافة الذاكرة الألمانية: شعور بالذنب تجاه الهولوكوست، ثم غياب الذنب تجاه الاستعمار الألماني. تعمل ثقافة الذاكرة الألمانية على الإراحة من عبء ذنب الهولوكوست، وتساعد أطروحة التفرد على تجنب معالجة استمرارية علاقات القوة الاستعمارية والعنصرية الهيكلية. وجهات النظر الفلسطينية كمواطنين خاضعين للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي تجلب هذه الاستمرارية إلى السطح، ومن شأنها أن تُثقل كاهل المجتمع الألماني بالذنب من جديد، وبالتالي يجب إنكارها. وهكذا، فمن خلال مشاعر العار والذنب، «تم تصميم ثقافة الذاكرة الألمانية لتجعل نفسها محصنة ضد المعاملة العنيفة الواقعة على الفلسطينيين» (Anonymous 2020, 5) وبالتالي فمن الضروري اكتساب فهم حَقّانِيّ لديناميكياتها العاطفية من أجل التصدي لهذه العملية. يسلط جدل مبيمبي الضوء على الإجحاف الذي يواجهه الفلسطينيون كمجموعة تم استبعادها من النقاش والتغطية الإعلامية. إنه يوضح مدى عمق إنكار وجهات النظر الفلسطينية وصدماتهم ومعاناتهم في ثقافة الذاكرة الألمانية، إلى الحد الذي يدعم فيه بشكل فعال علاقات القوة الاستعمارية داخل المجتمع الألماني.
وجدت هذه المقالة أن هذه الديناميكيات تُستدام من خلال الإصرار على أطروحة التفرد التي هي -بدورها- مظهر من مظاهر العار الجماعي والشعور بالذنب. كما أوضح ديرك موزس، فإن أطروحة التفرد هي واحدة من المعتقدات الأساسية التي تقوم عليها ثقافة الذاكرة الألمانية الحالية. في رسالة مفتوحة تضامنًا مع مبيمبي، أفادت مجموعة من المثقفين الأفارقة بأنه: «لجميع الشعوب الحق في ثقافة الذاكرة، فوق هذا فلجميع ثقافات الذاكرة أيضًا نفس الحق في الاعتراف والسرد» (Lado, Bitouh, and Inou 2020). والإصرار على التفرد يناقض هذا الحق. عقيدة التفرد هي دوغمائية مضللة، فلجميع الأحداث التاريخية والفظائع والإبادة الجماعية لها سماتها الفريدة - وليس الهولوكوست وحدها. وفي نهاية المطاف، فهو لا يخدم المجتمع الألماني إلا في عودته إلى الكبرياء، وتجنب المسؤولية عن الاستعمار، واستدامة علاقات القوة الاستعمارية.
المقدمة
أستكشف في هذه الورقة الانفعالات الكامنة وراء ثقافة الذاكرة الألمانية، ودورها في إنكار المنظور الفلسطيني في المجتمع الألماني، مركزة على ما يسمى بـ«أطروحة التفرد» باعتبارها واحدة من المعتقدات الأساسية لثقافة الذاكرة الألمانية، وسأتعقب التأثيرات العاطفية للعار والذنب التي تدعم هذا المعتقد. وسأوضح بعد ذلك كيف تترجم هذه العواطف إلى إنكار لوجهات النظر الفلسطينية في المجتمع الألماني.
يعود اختيار أطروحة التفرد كموضوع رئيسي للنقاش، لكونها تحتل موقعًا مركزيًا في الجدل حول أشيل مبيمبي، والذي دار في ألمانيا عام 2020. وكان مبيمبي -الفيلسوف الكاميروني والشخصية الرائدة في فكر ما بعد الاستعمار- قد دُعي لإلقاء الكلمة الافتتاحية لمهرجان روهرترينالي Ruhrtriennale، وهو مهرجان فني ألماني سنوي. قُوبلت دعوة مبيمبي بانتقادات وصدرت مطالبات بإلغاء الدعوة من قبل أفراد من الجمهور الألماني بناء على عدة اتهامات، أبرزها نسبته (relativising) للهولوكوست.
اتهام مبيمبي بأنه يُنسبن (relativises) الهولوكوست -كما جاء في التغطية الإخبارية لحديثه- يعود إلى عمله الذي يتحدى فكرة فرادة الهولوكوست. باعتباره باحثًا في موضوعات ما بعد الاستعمار مختصٌ في أبحاث الاستعمار والعنصرية، يرى مبيمبي الهولوكوست باعتبارها استمرارًا لهذه الديناميكيات وليس كظاهرة منفصلة. ولهذا السبب أحدث جدل مبيمبي ما سمي بـ«خلاف المؤرخين الثاني»، والذي يأتي بعد «خلاف المؤرخين» الشهير في منتصف الثمانينات، والذي نُوقشت فيه قراءات مختلفة للهولوكوست. ركزت التغطية الإخبارية للخلاف بشكل أساسي على خِطاب الطابع الفريد للهولوكوست وأظهرت ميلًا واضحًا للإصرار على هذا التفرد.
ويعد جدل مبيمبي حادثة واحدة ضمن النمط العريض لإسكات حملات التضامن مع فلسطين في ألمانيا. خلال السنوات القليلة الماضية، زادت حالات استهداف الأفراد والجماعات، والمطالبات بسحب الدعوات أو حتى الإلغاء (3)، كما حدث مع نيمي الحسن، ومدرسة نبذ الصهيونية (the School for Unlearning Zionism)، ودوكومنتا 15 (documenta 15)، ودويتشه فاله (Deutsche Welle). برزت هذه الديناميكية بشكل خاص منذ مصادقة البرلمان الألماني لقرار مكافحة المقاطعة (Anti-BDS) عام 2019، إذ صارت الحملات تسعى وراء أهداف أكثر بروزا وحظيت بمزيد من الاهتمام الإعلامي. ومع أن إسكات الأصوات المتضامنة مع فلسطين وعداء الفلسطينيين -بالمثل- ليست حكرا على ألمانيا، إلا أنها ناجحة بشكل خاص هناك. وهذا مؤشر على دور العواطف -مثل الشعور بالذنب والعار- التي شكّلت المجتمع الألماني في مرحلة ما بعد الهولوكوست. مع ذلك، تجدر الإشارة أيضًا إلى أن إنكار الرواية الفلسطينية لا يرجع لهذه الانفعالات وحدها، كما يُدلل على ذلك انتشار العنصرية ضد الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم الغربي. وكما أوضح باحثون آخرون، فهو أيضا مظهر من مظاهر العنصرية الاستعمارية ضد السكان الأصليين، والإسلاموفوبيا في سياق الجغرافيا السياسية العالمية والاستغلال الصهيوني لذكرى الهولوكوست لأغراض سياسية (Abu-Laban and Bakan 2019).
من أجل إثبات أن الإصرار على فرادة الهولوكوست -والعواطف الكامنة- تلعب دورًا حاسمًا في إنكار المنظور الفلسطيني، سأستهل بمقدمة حول أطروحة التفرد والسبب الذي جعل منها مركز النقاش في الجدل المثار حول مبيمبي. ثانيا، سأستكشف دور التأثير الجماعي للعار والذنب في هذا الإصرار على التفرد، وكيف تؤدي ثقافة الذاكرة الألمانية التي شكلتها هذه المشاعر إلى إنكار المنظور الفلسطيني.
يتخذ الذنب مكانًا مركزيًا في نقاشات مجتمع ما بعد الهولوكوست الألماني. الشعور بالذنب الجماعي هو ما يمنح ألمانيا -في الغالب- سمعتها كبلاد نجحت في التعامل مع ماضيها الشنيع. على الرغم من التنظير المفرط، تبقى بعض جوانب الذنب مغفول عنها، خاصة من منظور إنهاء الاستعمار. من المهم ربط نظريات المشاعر بالواقع المادي، وبهذا نجلب إلى الواجهة تأثيرات المشاعر الجماعية على الحياة الواقعية، فيما يتعلق بإنتاج الهوية، والعنصرية، والسلطة.
أطروحة التفرد ودلالاتها والسرديات المضادة
في مقابلة مع محطة الإذاعة الوطنية Deutschlandfunk Kultur، يدعّم فيليكس كلاين -أحد المحرضين الرئيسيين على الحملة ضد مبيمبي- انتقاداته عبر التأكيد على أن «تفرد الهولوكوست» هي «سردية مهمة لثقافة الذاكرة في ألمانيا، ولتأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية» (Aguigah, Klein, and Gerk 2020). يمكن تتبع كلمة وفكرة «الفرادة» (و«الوحدانية») من خلال الكثير من التغطية الإعلامية للنقاش حول مبيمبي (Elbe 2020; Leggewie 2020; Schindler 2020; Cheema and Mendel 2020). الجدل الذي بدأ كمجرد محاولة لسحب دعوة مبيمبي من مهرجان فني، تحول إلى واحدة من أهم الاضطرابات في المجتمع الألماني الذي يعيد التفاوض بشأن نظام الذاكرة.
إن فكرة فرادة الهولوكوست، كما رأينا في الاقتباس أعلاه، مبنية على ما يسمى بـ«أطروحة التفرد»، وهو الإطار الذي يؤسس للهولوكوست باعتباره حدثا تاريخيا فريدا لا يمكن مقارنته بأي فظاعة أخرى، ومعاداة السامية -بدورها- ظاهرة لا مثيل لها في التاريخ، ولا يُمكن عدّها شكلا آخر من أشكال العنصرية. وفقًا لديرك موزس Dirk Moses، وجدت هذه المقاربة للهولوكوست طريقها في الأوساط الأكاديمية إلى ثقافة ذكرى الهولوكوست بحلول الثمانينيات، إلى الحد الذي «دفع العديد من الألمان اليساريين والليبراليين اليوم، يعتقدون أن مسؤوليتهم في مرحلة ما بعد الهولوكوست، تُحتم عليهم دمج هذا الإيمان [بفرادته] في فهمهم الذاتي وصورتهم الدولية» (Moses 2021b).
بدأ خطاب مبيمبي في خلخلة هذا النظام. وفجأة، انبرى العديد من الصحفيين يتساءلون ما إذا كانت مقارنة الهولوكوست بعمليات الإبادة الجماعية الأخرى -وهي [أي المقارنة] الممارسة التي يُنظر إليها باعتبارها مثيرةً للجدل وغير ملائمة- يمكن اعتبارها غير شرعية بالفعل. بدأت دعوة الخبراء لإجراء مقابلات للتأكد من أن المقارنات هي ممارسة علمية شائعة وقيمة للتحليل التاريخي. تساءلت الفيلسوفة الأمريكية سوزان نيمان Susan Neiman، «كيف يمكن ربط الإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين بجرائم أخرى ضد الإنسانية دون إنكار تفردها؟» (Aguigah, Assmann, and Neiman 2020). في حين يتم تحدي جوانب معينة من أطروحة التفرد -مثل حظر المقارنات- في التغطية الإعلامية لهذا الجدل، فإن الإصرار على تفرد الهولوكوست نتيجة للمقارنات لم يتم الطعن فيه.
هذا الإصرار على أطروحة التفرد هو ما يُوثقه ديرك موزس Dirk Moses في مقالته «العقيدة الألمانية»، التي تلخص المعتقدات الأساسية الخمسة لثقافة الذاكرة. أولا، تفرد الهولوكوست الذي يرى موزس أنه قادم من الفهم المحدود للهولوكوست باعتباره «إبادة اليهود من أجل الإبادة نفسها» (Moses 2021b). ثانيا، نتيجة لتفرده، تُقدّم الهولوكوست على أنها «شرخ حضاري» و«الأساس الأخلاقي لـ[ألمانيا]» (Moses 2021b). ثالثا، الاستنتاج الأخلاقي الذي توصلت إليه ألمانيا من هذا -وفقا لموزس- هو مسؤولية الدولة الخاصة تجاه اليهود وإسرائيل. رابعا، تم تدعيم فكرة أن الهولوكوست حدث فريد من نوعه عبر التأسيس لمعاداة السامية باعتبارها -هي أيضا- تحيزًا فريدًا مقابل كل ما عداه من أشكال العنصرية، وباعتبارها «تحيزًا ألمانيًا خاصًا». وأخيرًا، يكشف موزس عن وضع معاداة الصهيونية إزاء معاداة السامية باعتبارهما متماثلتين. من خلال «العقيدة الألمانية»، لاحظ موزس ديناميكية أصبحت سائدة بشكل متزايد في المجتمع الألماني في السنوات الأخيرة: يُنظر إلى فرادة الهولوكوست ودعم إسرائيل على أنهما استنتاجات مترابطة وبديهية، وهي محاولات لتحمل مسؤولية اقتراف الهولوكوست.
تخضع أطروحة التفرد لنقاش حاد من قبل العلماء الذين يحذرون من أن الإيمان بتفرد الهولوكوست يخلق تسلسلًا هرميًا للمعاناة (Moses 2021a; Rothberg 2009). ومن خلال الإصرار على تفرد الهولوكوست، يتم تقديم الهولوكوست على أنها «جريمة الجرائم»، «الشر المطلق». وهذا يضع معيارًا لتصنيف ضرب من الفظاعات على أنها إبادة جماعية ويؤدي إلى التنافس بين المجموعات للاعتراف بمعاناتها (Moses 2021a, 11). علاوة على ذلك، حذر مايكل روثبيرج Michael Rothberg من أن التسلسل الهرمي للمعاناة يؤدي إلى إزالة «المعاناة من مجال الفاعلية التاريخية (4)» وطور نهج الذاكرة متعددة الاتجاهات لمواجهة هذه المشكلة الأخلاقية (Rothberg 2009, 9).
أطروحة الاستمرارية -باعتبارها النظير لأطروحة التفرد- تضع الهولوكوست ضمن سلسلة متواصلة من العنف والعنصرية والحداثة والإمبريالية، وبالتالي تشجع ربطه بالاستعمار وغيره من الفظائع. هذا الفهم للهولوكوست بارز جدا في دراسات ما بعد الاستعمار، حيث يدعم علماء مثل: أشيل مبيمبي، وإدوارد سعيد، وإيمي سيزير Aimé Césaire، دو بويز W. E. B. Du Bois، ويورجن زيميرر Juergen Zimmerer هذا الرأي. ولهذا السبب، أثار مبيمبي على وجه الخصوص «خلاف المؤرخين الثاني»؛ نظرًا لأن عمله يرتكز على أطروحة الاستمرارية. وبما أن هذا لا يتوافق مع المعتقدات الأساسية لثقافة الذاكرة الألمانية، فإن العديد من المقالات الإخبارية التي تم نشرها حول جدال مبيمبي تؤطر ما بعد الاستعمار ككل على أنه إشكالي ومعادٍ للسامية (Hoyer 2022; Laurin 2020; Mangold 2020; Posener 2020; Cheema and Mendel 2020).
الانفعالات
من أجل فهم كامل لشراسة تلقي نقد مبيمبي لفرضية التفرد، نحتاج إلى النظر في دور المشاعر. وفقا لموزس فإنه «تم استيعاب [العقيدة الألمانية] من قبل عشرات الملايين باعتبارها الطريق إلى الخلاص الوطني من الماضي الآثم» (Moses 2021b). وبينما يركز موزس في تحليله على الدوافع الدينية لثقافة الذاكرة الألمانية، فإنني أزعم أن فهم العواطف التي تدعم نظام الذاكرة هذا سيكشف عمق إنكار المنظور الفلسطيني في المجتمع الألماني. بعد سنوات من حملات إسكات الفلسطينيين والمتضامنين مع التحرير الفلسطيني، أصبح من الواضح أن ثقافة الذاكرة الألمانية ليست مجرد مساهم في إنكار الحق الفلسطيني فحسب، وإنما الباعث الرئيسي وراءه. وفي حين أن هذا لا يعني أن العواطف هي السبب الوحيد لهذه الديناميكية، فإن تسليط الضوء على الانفعالات الأساسية أدناه سيعزز فهم تجارب الشتات الفلسطيني في ألمانيا، والديناميكيات التي يواجهونها.
3.1 عاطفة العار
يمكن تصور تأثير العار من خلال ثلاث سمات رئيسية تميزه عن الشعور بالذنب. أولا، يبرز العار عندما يفشل المرء في الارتقاء إلى مستوى المُثُل العليا (Ahmed 2014, 108). ثانيا، يتطلب العار وجود جمهور من الغرباء يمكنهم أن يشهدوا تصرفات الشخص المشينة (Dresler-Hawke and Liu 2006, 135). ثالثا، يسعى العار إلى التستر أو استهجان الذات وأخطائها (Heimannsberg and Schmidt 1994, xix; Olick 2010, 68).
وفقا لسارة أحمد، فإن النقطة الأولى هي ما يربط العار بالهوية الجماعية: «العار يُطيح بالـ«أنا» مع الـ«نحن» عند الإخفاق في تحويل المُثل الاجتماعية إلى أفعال» (Ahmed 2014: 109). عندما تشهد أمة بشكل جماعي إخفاقاتها وجورها، وعندما يشهد عليها الغرباء، فإن ذلك يخلق شعورًا بالعار الجماعي (Ahmed 2014: 108). ومع سعي العار لإخفاء إخفاقاته، فإنه يحتاج إلى أن يتحول -مجددًا- إلى فخر. وتتابع سارة أحمد: «الإخفاق متى ما كان محط شهادة فإنه يؤكد على المُثل العليا، ويجعل من الممكن العودة إلى الكبرياء. وبعبارة أخرى، فإن إحالة الشعور السيئ إلى الشخص المصاب بالعار هو أمر مؤقت فقط، حيث يمكن أن تصبح «الإحالة» دليلًا على استعادة هوية يمكننا أن نفخر بها” (Ahmed 2014: 109–10). وعليه فإن الشعور الجماعي بالعار تجاه الهولوكوست يصبح مرتبطًا بالهوية الألمانية، ومن أجل الفرار من الشعور بالعار، لا بد من إعادة تشكيل الهوية الجماعية لتحويل العار إلى الفخر. ومن هنا فإن العار الألماني يؤدي وظيفة مؤقتة للتغلب على ماضٍ من الجرائم البشعة، ويمهد في النهاية الطريق للعودة إلى الشعور بالفخر. أزعم أن موضوع هذا الفخر الجديد هو ثقافة الذاكرة الألمانية التي تخلق نموذجًا فخريًا جديدًا للهوية الجماعية الألمانية. إنه بمثابة دليل على أن الماضي المخزي قد تم تركه وراءنا، وأن الإصلاحات قد تمت.
وبما أن شُهُود الفشل في الارتقاء إلى مستوى المُثُل العليا للفرد هي سمة أساسية للعار، فأنا أقترح أن نفس التأييد الخارجي مطلوب حتى يتحول العار إلى فخر. وبالتالي، لا بد من الاعتراف من قبل الآخرين بأن الإصلاحات قد أجريت، وأن الهوية الألمانية الجديدة منفصلة بالفعل عن الهوية القديمة. حتى تصبح الهوية الألمانية الجديدة محل فخر، يجب أن يعترف الآخرون بثقافة الذاكرة الألمانية باعتبارها أفضل طريقة للتعلم من الماضي. ومن خلال الإصرار على تفرد الهولوكوست، يتقوى هذا الفخر، كما يجعل التعافي من هذا الماضي المخزي فضيلة كُبرى. وبسبب هذه الحاجة إلى الشهادة، يحاول المجتمع الألماني تعميم ثقافة الذاكرة الخاصة به لإثبات أنه توصل إلى النتيجة المشروعة الوحيدة من الهولوكوست.
هذا الفخر المكتشف حديثًا في ثقافة الذاكرة هذه هو جوهر الهوية الألمانية الجديدة، وبالتالي، فإن أي تحدٍ لمكونات ثقافة الذاكرة يُنظر إليه على أنه تهديد ويتم تصويره على أنه معاد للسامية، وبالتالي جزء من «الهوية القديمة». وهذا يخلق مجتمعا حصريا لأن «الصورة المثالية للأمة، مبنية على صورة البعض دون البعض الآخر [و] تُصان من خلال تحويل العار إلى فخر» (Ahmed 2014: 113). يستبعد المجتمع الألماني -بالتالي- أولئك الذين لا يتشاطرون معه نفس المعتقدات الأساسية لـ«العقيدة الألمانية» التي بُنيت عليها الهوية الجماعية الجديدة. وبهذا المعنى، عندما يُترجم العار مرة أخرى إلى فخر، فإنه ينعش نفسه، لكنه لا يتحول إلى شيء جديد فعليا (Olick 2010, 90). بالتالي، فإن «الهوية الألمانية الجديدة» تُوهمنا بتجديدها، فيما تكرار -في الواقع- أنماطها القديمة.
تؤثر هذه الديناميكية سلبًا على الأصوات المهمشة، وخاصة الألمان من ذوي الخلفيات المهاجرة، الذين يتم استهدافهم لأنهم يحملون وجهات نظر مختلفة حول الهولوكوست، وذكراهم لفظائع أخرى. يتعرض الفلسطينيون على وجه الخصوص لهذا، لأنهم يعارضون العديد من المعتقدات الأساسية للعقيدة الألمانية. للفلسطينيين تجاربهم الخاصة مع التطهير العرقي والتروما(5)، زد على ذلك أن تجاربهم مع النكبة المستمرة مرتبط ارتباطًا مباشرًا بالهولوكوست (تمامًا كما هي الحال مع الاستعمار الأوروبي)، ويعد هذا كله ضارا بفرضية التفرد. كما أن إسرائيل هي الشاهد الأهم على الهوية الألمانية الجديدة «المحسنة»، فهي تجسيد لضحايا الهولوكوست بالنسبة لألمانيا. ومن ثم، يجب إنكار المنظور الفلسطيني -بشأن اعتبار إسرائيل دولة معتدية واستعمارية استيطانية- من أجل الإبقاء على شرعية إسرائيل لتكون شاهدا على تحول ألمانيا. ولهذا السبب فإن وجود إسرائيل في حد ذاته هو أحد المعتقدات الأساسية لثقافة الذاكرة الألمانية، وقد تم استهداف مبيمبي لتوضيحه الحقيقة الاستعمارية في إسرائيل/فلسطين.
3.2 عاطفة الذنب
عاطفة الذنب تُجسد هذه الديناميكية بوضوح. لنستكشف جانبين رئيسيين منه: أولاً، ينشأ الشعور بالذنب من خلال «الإدانة الذاتية للخطيئة» (Olick 2010: 68)، وبالتالي، على النقيض من العار، لا يلزم وجود شاهد خارجي لكي ينشأ هذا الانفعال. ثانيًا، يُختبر تأثير الذنب باعتباره عبئًا يجب رفعه من خلال الاعتراف (Olick 2010: 90). وفقًا لأيرمان Eyerman، يتطلب الشعور بالذنب لأجل أن يُصبح انفعالاً جماعيًا شعورًا بـ«التماهي مع الجناة [...] وترسيخ مثل هذا التماهي ضمن مجموعة أوسع» (Eyerman 2019: 169). إذا ما تم الإخفاق في إيجاد هذا التماهي، فسيُرفض الذنب وأي مسؤولية تُصاحبه. ومن ثم، يمكن اعتبار الرفض وسيلة أخرى للهروب من عبء الذنب.
إذا كان الذنب يستلزم الاعتراف وإذا كان الإصرار على تفرد الهولوكوست يعيق الاعتراف الصحيح بالاستعمار الألماني، فيمكن استنتاج أن تأثير الذنب داخل ثقافة الذاكرة الألمانية لا يشمل الشعور بالذنب تجاه الاستعمار. لذلك، فإنني أتصور الذنب الألماني كما تم التعبير عنه في ثقافة الذاكرة على أنه ذو شقين: الذنب تجاه الهولوكوست، وغياب الذنب تجاه الاستعمار. وبالتالي لا تقتصر وظيفة الاعتقاد بتفرد الهولوكوست على كونها اعترافاً فحسب، بل وتشكل أيضاً رفضاً للاعتراف بجرائم الاستعمار.
إذا كان الذنب ينشأ من «قناعة باطنية بالخطيئة»، فإن غياب الشعور بالذنب تجاه الاستعمار يعني أن المجتمع الألماني لم يعترف بالاستعمار باعتباره «خطيئة». تلعب أطروحة التفرد، وفقًا لأمنون راز-كراكوتزكين Amnon Raz-Krakotzkin، دورًا مهمًا في هذا، حيث إن عزل الهولوكوست «كحالة شاذة [...] يحافظ على الصورة الذاتية للمسيحية الغربية (العلمانية) باعتبارها الحامل الحصري للديمقراطية، العلمنة، والتقدم” (Raz-Krakotzkin 2019, 84). ومن ثم، فمن خلال تجنب الاعتراف بالاستعمار، لا يرفض المجتمع الألماني مضاعفة ذنبه فحسب، بل إنه -أيضا- يُبقي الدروس المستفادة من الهولوكوست مُبسطة؛ لأنه يتهرب من معالجة العنصرية البنيوية ويسمح بالوجود المستمر لعلاقة القوة الاستعمارية.
وهذا ما يكشفه منظور ما بعد الاستعمار الذي يصر على دمج المسؤولية عن الاستعمار في ثقافة الذاكرة. من خلال إظهار المزيد من الفظائع -التي تستلزم الشعور بالذنب- للجماعة الألمانية، فإن ما بعد الاستعمار يشكل تهديدًا للهوية الألمانية غير المثقلة بالأعباء. علاوة على ذلك، تكشف مرحلة ما بعد الاستعمار كيف أن المجتمع الألماني لا يزال مذنبًا ومتواطئًا. يجادل روثبيرج Rothberg وزيمرر Zimmerer بأن «لا يُمكن عد الأمر إلا تهربًا من النقاش حول الجرائم الاستعمارية -وفي السياق نفسه- محاولة إنقاذ الحداثة الأوروبية دون أن يمسها النقد، وتأمين موقف السيطرة البيضاء في الداخل، ووضع الهيمنة الغربية في الخارج» (Rothberg and Zimmerer 2021). وبالتالي، فأنا أزعم أن الإصرار على تفرد الهولوكوست يقوم بدور المتراس يحوُل دون تحمل المسؤولية الفعلية، والذي ينبغي أن يأتي في شاكلة التحول البنيوي وإنهاء الاستعمار.
حذّر الباحثون منذ أمد حول كون الشعور بالذنب يعيق تحمل المسؤولية؛ بسبب ميله إلى الانغماس والتمركز حول الذات (Köhler, Arendt, and Blücher 2000: 84–85; Olick 2010: 89). وهذا ما يؤكده الجدل حول مبيمبي، الذي أنتجته التغطية الإعلامية ليقتصر على تناول ثقافة الذاكرة الألمانية وحدها. على الرغم من أن ما أذكى الشرارة الأولى هو تبني مبيمبي لوجهة النظر الفلسطينية، من خلال تصور إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية، إلا أن تحليله هذا لم يلقَ التفاعل الملائم في التغطية الإعلامية الألمانية. على العكس من ذلك، تم إنكار الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية لإسرائيل بشكل قاطع وتم تصوير دعم إسرائيل على أنه ضرورة ناتجة عن تفرد الهولوكوست (Elbe 2020). من منظور الذنب، فإن دعم إسرائيل هو بمثابة تعويض عن الجرائم الألمانية، وبالتالي يخفف عبء الذنب عن المجتمع الألماني. إن الاعتراف بالواقع الاستعماري الاستيطاني في إسرائيل وفلسطين من شأنه أن يزيد الوعي باستمرارية ديناميكيات القوة الاستعمارية، وتورط ألمانيا فيها. ومن ثم فإنه سيثقل كاهل المجتمع الألماني بالذنب. بعبارة أخرى، يشكل الفلسطينيون -باعتبارهم ضحايا مستعمَرين لإسرائيل- تهديدًا لتهرب ألمانيا من الشعور بالذنب، ولهذا يتم استهداف وإسكات أولئك الذين يتبنون المنظور الفلسطيني، بما في ذلك باحثو ما بعد الاستعمار. وبالتالي فإن محو الرواية الفلسطينية، هو نتيجة مباشرة للذنب الألماني، ولا يمكن مواجهته إلا من خلال «إعادة الفلسطينيين إلى مركز قصتهم مرة أخرى» (Anonymous 2020: 9).
الخاتمة
بيّنت هذه الورقة أن مشاعر العار والذنب تصيغ على نحو فعال ثقافة الذاكرة الألمانية، بطريقة تنكر وجهات النظر الفلسطينية. يستخدم ذلك الميل المُصاحب العار إلى ستر إخفاقاته - ثقافة الذاكرة لغرض خلق هوية جماعية جديدة فخورة. وهذا يخلق مجتمعًا حصريًا يشعر بالتهديد من أي تحديات للمعتقدات الأساسية لثقافة الذاكرة. وبما أن الفلسطينيين لا يحملون قصصهم الخاصة المملوءة بالتروما والفظائع فحسب، بل يتحدون أيضًا دور إسرائيل كشاهد شرعي للإصلاحات الألمانية، تُواجه وجهات نظرهم بالرفض. ثمة جانبيين للذنب في سياق ثقافة الذاكرة الألمانية: شعور بالذنب تجاه الهولوكوست، ثم غياب الذنب تجاه الاستعمار الألماني. تعمل ثقافة الذاكرة الألمانية على الإراحة من عبء ذنب الهولوكوست، وتساعد أطروحة التفرد على تجنب معالجة استمرارية علاقات القوة الاستعمارية والعنصرية الهيكلية. وجهات النظر الفلسطينية كمواطنين خاضعين للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي تجلب هذه الاستمرارية إلى السطح، ومن شأنها أن تُثقل كاهل المجتمع الألماني بالذنب من جديد، وبالتالي يجب إنكارها. وهكذا، فمن خلال مشاعر العار والذنب، «تم تصميم ثقافة الذاكرة الألمانية لتجعل نفسها محصنة ضد المعاملة العنيفة الواقعة على الفلسطينيين» (Anonymous 2020, 5) وبالتالي فمن الضروري اكتساب فهم حَقّانِيّ لديناميكياتها العاطفية من أجل التصدي لهذه العملية. يسلط جدل مبيمبي الضوء على الإجحاف الذي يواجهه الفلسطينيون كمجموعة تم استبعادها من النقاش والتغطية الإعلامية. إنه يوضح مدى عمق إنكار وجهات النظر الفلسطينية وصدماتهم ومعاناتهم في ثقافة الذاكرة الألمانية، إلى الحد الذي يدعم فيه بشكل فعال علاقات القوة الاستعمارية داخل المجتمع الألماني.
وجدت هذه المقالة أن هذه الديناميكيات تُستدام من خلال الإصرار على أطروحة التفرد التي هي -بدورها- مظهر من مظاهر العار الجماعي والشعور بالذنب. كما أوضح ديرك موزس، فإن أطروحة التفرد هي واحدة من المعتقدات الأساسية التي تقوم عليها ثقافة الذاكرة الألمانية الحالية. في رسالة مفتوحة تضامنًا مع مبيمبي، أفادت مجموعة من المثقفين الأفارقة بأنه: «لجميع الشعوب الحق في ثقافة الذاكرة، فوق هذا فلجميع ثقافات الذاكرة أيضًا نفس الحق في الاعتراف والسرد» (Lado, Bitouh, and Inou 2020). والإصرار على التفرد يناقض هذا الحق. عقيدة التفرد هي دوغمائية مضللة، فلجميع الأحداث التاريخية والفظائع والإبادة الجماعية لها سماتها الفريدة - وليس الهولوكوست وحدها. وفي نهاية المطاف، فهو لا يخدم المجتمع الألماني إلا في عودته إلى الكبرياء، وتجنب المسؤولية عن الاستعمار، واستدامة علاقات القوة الاستعمارية.