صدف سعيدة
بدأت البحث في أعمال تشارلز بوكوفسكي سنة 2007. وبعد نحو سنتين، لا أزال أتذكر بوضوح حديثي مع أحد أعضاء لجنة مناقشتي في الدكتوراه. كان قد كتب أطروحته عن موبي ديك سنة 1992 وبعد خمسة عشر عاما من ذلك كان لا يزال ينشر مقالات عن الكتاب وعن ملفيل. كنت ساذجا بعض الشيء في الشؤون الأكاديمية، فلم يكن استيعاب ذلك بالأمر اليسير. كيف لشخص أن يقضي خمسة عشر عاما من حياته وهو يعمل على الموضوع نفسه؟ هل يبقى شيء ليقال؟ أو حجر ليقلب؟ فعلا؟
فعلا. فها أنا بعد خمسة عشر عاما لم أزل أبحث في أعمال بوكوفسكي. صحيح أن معظم البحث تم على فترات متقطعة، بين أسفار، وانفصالات، وتربية أولاد، وتغيير سكنى، وتولي وظائف جديدة، وما إلى ذلك. المعتاد. لم يكن قط ركيزة عملي، لكنه كان على الدوام حضورا واضحا لا مفر منه. أقرب إلى أرض خصبة سحرية تظل تثمر كتبا ومقالات وكتيبات وأحاديث وعشاقا وما لا أعرف غير ذلك. عطايا إلهية بالقطع. وأيضا، نعم، هناك ببليوجرافيا سيرية أيضا. مشروع عملاق كنت أعمل عليه لفترة غير قليلة. كتاب مليء بقصص نافذة وأطنان بيانات مضجرة استحال إتمامه. ولنلق اللوم في ذلك على طبع الغزارة عند بوكوفسكي.
بعدما أتيح لنا استئناف حياتنا بطريقة ما بعد الوباء، شعرت أن تلك لحظة من لحظات «الآن وإلا فلا». إما الدفع بذلك المشروع إلى منتهاه على الفور أو المسارعة بوضع الصبار على مقبرته. ساعات طوال من الليل، عطلات أسبوعية جنونية في الانكباب على الكمبيوتر، وفجأة، بومّ، اكتمل على حين غرة. أو ذلك ما ظننته. كنت قد يئست بالفعل من العثور على اثنين من أكثر المواد مراوغة عند بوكوفسكي، وهما «اكتب» ورسائل مناصرة النازية التي كان قد نشرها في جرائد يمينية في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. غير أن بحثا سريعا في أواسط 2023 أصاب الهدف على غير انتظار. ولدقيقة لم أصدق عيني. هل حقا الرسائل التي كنت أقرؤها هي لبوكوفسكي نفسه الذي أعمل عليه لنحو خمسة عشر عاما؟ أم كانت من تلك السرابات التي يتعثر فيها الباحثون في نهاية يوم عمل طويل مجدب، بعد أن يستهلكهم التعب فتغيم أعينهم؟
الأمر أنني شهقت من الدهشة. أدركت أنني كنت أطارد الصحيفة الخاطئة لأكثر من عشر سنوات. كنت كلما تحدثت مع شخص عن الرسائل سيئة الذكر المناصرة للنازية يقال لي إنني ينبغي أن أتحقق من الأعداد القديمة لصحيفة (لوس أنجلوس إكزامينر). وفعلت ذلك. قضيت ساعات لا حصر لها في مكتبة لوس آنجلس العامة في استعراض مئات من عبوات الميكروفيلم فيزداد إحساسي بالدوار مع مرور كل دقيقة. وبعد سويعات، إذا بكل ميكروفيلم جديد محض بقعة هائلة من الحبر الشائه. وإذا بالأسماء والأماكن ألغاز مستحيلة. وكنت في استراحات قصيرة أخرج وأسير في الحي وأرجع لا لشيء سوى الدوار من جديد. وخرجت مرة. ورجعت للمرة الألف. ولا حظ على الإطلاق. في صفحة الرأي، بجوار أعمدة هيلين رولاند وإدوين هيل وإلزي روبنسن. تحققت ثلاث مرات من عشرات وعشرات من باب «بريد المحرر» ولا فائدة. ما من بوكوفسكي مطلقا.
في ذلك الوقت تقريبا، ذكرت تلك الرسائل لمحرر بوكوفسكي العتيد جون مارتن فقال «أعتقد أن بوكوفسكي كان يحلم. أشك أن يكون لتلك الرسائل المنشورة وجود». توقفت تقريبا عن البحث. فكم من طرق مسدودة. كانت قد تحولت هاجسا مرضيًّا. أغلقت ذلك الباب وانطلقت. وبعد فترة قصيرة، بدأت أعمل في «الإنسانيات الرقمية». كنت أرقمن مئات من الدوريات، ومنها أوائل أعداد مجلة (شعر). كان أمرا طريفا أن أرى إزرا باوند ينشر في شتى الأماكن، شأن بوكوفسكي بعد عقود. بت على ألفة بـ (التعرف الضوئي على الحروف) والبيانات الوصفية ووضع العلامات. أخذت مشاريع رقمنة هائلة تجري في المكتبات بجميع أرجاء البلد. وإذا بأمور كانت حتى ذلك الحين تستوجب رحلات باهظة التكاليف تصبح بغتة على بعد نقرة. وفي وقت ما من منتصف عام 2023، إذ أضع اللمسات الأخيرة على مشروعي غير القابل للانتهاء في كتابة ببليوجرافيا بوكوفسكي السيرية، أخذت نفسا عميقا وقررت أن أجرب مرة أخيرة. وذلك دأب الباحثين. لا يرمون المنشفة أبدا، وذلك ما يسوء كل المحيطين بهم بلا استثناء.
أعدت التحقق من جميع قواعد البيانات الكبرى: بروكويست إبسكو، نيوزبنك، جيهستور، وكل ما يخطر لكم. ولا شيء. جربت إنترنت أركييفز الذي تضاف إليه آلاف الصفحات المرقمنة حديثا كل يوم. ولا أثر. ساعات وساعات في الهباء. لا عجب أن تلك الرسائل كانت الكأس المقدسة. ومع ذلك، زعم كاتب السيرة هوارد سونيس أن بوكوفسكي «كتب إلى الصحف يعبر عن آرائه المتطرفة»، وأن الكاتب باري مايلز انتهى إلى أن بوكوفسكي «كتب إلى لوس أنجلوس إكزامينر رسائل تدعم هتلر». قلت لا بد أن تكون حقيقية إذن. المدهش أن سونيس عندما سئل عن هذه الرسائل قال «لا أعتقد أنني رأيت رسائل بوكوفسكي النازية قط، لكنني صدقته إذ أشار في كتابات وحوارات أخرى إلى أنه قد كتبها»، أما مايلز فاعترف قائلا «من المؤكد أنني لم أر الصحف نفسها». فلعلها في نهاية المطاف وهم.
غير أن المصادفات تحدث. وشاء الحظ أن صادفت قاعدة بيانات ضئيلة نسبيا فيها كم ضخم من أعداد لوس أنجلوس إكزامينر ولوس أنجلوس هيرالد إكزامينر. لم يسفر البحث الروتيني عن أي نتائج بالمرة. تذكرت أن والد بوكوفسكي غضب عليه لتوقيعه مقالة باسم «هنري بوكوفسكي» في عدد من لوس أنجلوس كولجيان سنة 1940، وهو أول نشر له على الإطلاق. جربت تنويعات عديدة لكتابة اسم بوكوفسكي، فظهرت ثلاث رسائل لـ«هنري سي بوكوفسكي الابن»، نقرت عليها فإذا بها أمامي، الرسائل المخاتلة التي ذكرها بوكوفسكي في حوارات وقصائد، تلك التي ظلت خاملة لردح من الزمن لا يعلمه إلا الله في قاعدة بيانات لم يسمع بها أحد.
ومن الطريف، بينما ألقى نظرة قريبة على الغلاف الأمامي لتلك الأعداد الثلاثة، أني لا أملك إلا أن ألحظ أنها لم تكن أعدادا من لوس أنجلوس إكزامينر أو لوس أنجلوس هيراليد إكزامينر، وذلك برغم أنني كنت على يقين من أن ذلك ما كان يطلق عليها في قاعدة البيانات. أعدت خطواتي من النهاية إلى البداية ونقرت مرة أخرى على أعداد لوس أنجلوس إكزامينر، فإذا بي أنتقل مرة أخرى إلى جريدة أخرى اسمها لوس أنجلوس هيرالد آند إكسبريس إيفننج [أي المسائية]. طبعا! خطأ تصنيف كلاسيكي! جميع أعداد لوس أنجلوس هيرالد آند إكسبريس إيفننج مصنفة باعتبارها أعدادا من لوس أنجلوس إكزامينر. لم يكن من سبيل للعثور على تلك الأعداد إلا بالصدفة. واللوم في ذلك يقع على مسارعة الإنسانيات الرقمية إلى رقمنة كل الكتب التي عرفتها البشرية في طرفة عين. وذلك، فضلا عن التعرف الضوئي على الحروف، هو المدان الرئيسي في ساعات عقيمة أمام شاشة الكمبيوتر.
وكم كنت ساذجا حينما تصورت أن بوكوفسكي بعث رسائله إلى لوس أنجلس إكزامينر، وهي الطبعة الصباحية من الجريدة. لقد جرب الطبعة المسائية بالتأكيد، حين كان يفيق ويتزن بما يتيح له أن يقرأ جريدة. من الطريف للغاية أن كل شيء يبدو منطقيا متسقا بأثر رجعي.
كان الأمر جديرا بالجهد. لم تعد تلك الرسائل المثيرة للجدل محض كائن أسطوري يستهزئ بي، ويمتحن صبري. كانت موجودة، تنتظر الفحص، والتحليل، والتشريح. فأهلا بالمسرات والمباهج!
إلى المرح
لنبدأ بالبدايات. برغم أن المزاعم بشأن التعاطف مع النازية مطروحة من سونيس سنة 1998، ومن مايلز سنة 2005، ومن بِن بليزَنتس في المقام الأكبر في كتابه «بوكوفسكي الحشوي» سنة 2004 ـ وكلها بعد مرور ردح من الزمن على وفاة بوكوفسكي ـ فالحقيقة الراسخة هي أن أول من بادر إلى نشر تلك النميمة لم يكن غير بوكوفسكي نفسه. ففي حوارات وقصائد وقصص وروايات، لم يتحاش بوكوفسكي الحديث عما أطلق عليه «الفخ النازي»، وبخاصة في الأشرطة سيئة السمعة التي سجلها بليزنتس، وأقول سيئة السمعة لأن بليزنتس هوجم لزعمه أن بوكوفسكي نازي في جوهره، وأصر دائما أن كل ما قاله إنما له مصدر في الأشرطة التي سجلها بين أواسط السبعينيات وأواخرها حينما كان يعمل على سيرة لبوكوفسكي لم تر النور قط. على مدار سنين، ساد الظن بأن ذلك محض اختلاق من بليزَنتس وأن هذه الأشرطة ليست إلا محض فبركة، لكن بعد وفاة بليزنتس سنة 2013، استطعت أن أتعقب الأشرطة فسمعت بوكوفسكي بالفعل يطنطن ويطنطن بشأن شخصيته النازية.
ما لم يذكره بليزانتس هو أن ذلك كله قيل مزاحا. فبوكوفسكي في الأشرطة واضح تمام الوضوح في هذا. فلم تكن طلعته النازية إلا تمثيلية هائلة، والأمر بهذه البساطة. وربما كان مثالا آخر ـ وإن يكن منحرفا ـ على ظرفه الذي ينال من نفسه. ولقد كان بليزنتس ـ الذي ظل يبحث في أعمال بوكوفسكي منذ أوائل السبعينيات ـ على وعي تام بأقوال بوكوفسكي العلنية. ومع ذلك، فما رواه بوكوفسكي وهو شبه هازل في تلك الأشرطة وفي غيرها، حوله بليزنتس إلى معتقدات نازية راديكالية متجذرة. وأقل ما يقال في هذا إنه صادم. لا أملك أحيانا إلا الظن بأن ذلك كان انتقامه لإلغاء السيرة الذاتية. ولم يخفف وطأة ذلك أن بوكوفسكي كتب سنة 1978 قصة قصيرة سخر فيها من سلوك بليزنتس وعجرفته وانكفائه على نفسه.
باستثناء إشارات عابرة بين الحين والآخر، ما من تسجيلات لبوكوفسي يناقش فيها النازية قبل السبعينيات. وأول حديث مسهب له في الموضوع كان في حوار بمجلة ستونكلاود سنة 1972: «تظاهرت بدافع من الضجر المحض أنني نازي...أتذكر ذات مرة أنني انتهيت في ذلك المكان في [مدينة] جلينديل بقبو معتم ضخم. وقفنا جميعا نحيي العلم، ووقف فينا رجل بغاية الجدية وكلمنا في أننا الذين سوف نحطم الشيوعية. لكنني لم أكن واحدا منهم، كان ذلك محض استعراض...جاء بويد كول [رئيس كلية لوس أنجلس سيتي] وقال «هاي بوكوفسكي: أنا لا أومن بما تدعو إليه، لكن دعني أقل لك شيئا: «لو حدث وفزتم فسوف أقف في صفكم» فقلت له: «ما أنت يا بويد إلا بعرة كبيرة، فحل عن سمائي». وبعد سنين روى بوكوفسكي هذه الواقعة مرى أخرى مع الرئيس كول في رواية «لحم على خبز» [ترجمت بالعربية بعنوان «الشطيرة»].
في قصة قصيرة عنوانها «سياسات» نشرت في ديسمبر 1972، أعرب بوكوفسكي عن وجهة نظر مماثلة: «في كلية لوس أنجلس سيتي قبيل الحرب العالمية الثانية، تظاهرت أنني نازي. لم أكن أميز تقريبا بين هتلر وهرقل، ولا كنت أبالي...ما كنت أكترث أصلا بالقراءة عن أدولف. فقط كنت أتفوه بأي شيء أشعر أنه آثم أو جنوني...لعبت دور النازي لفترة أطول قليلا، برغم لامبالاتي بالنازيين أو الشيوعيين أو الأمريكيين». وفي عام 1963 منحت مجلة ذي أوتسايدر الصغيرة لبوكوفسكي لقب «غريب العام»، وبعد قرابة عقد من الزمن كان لا يزال يبدوعلى هامش كل شيء تقريبا، وبخاصة في السياسة.
في أحد أشرطة بليزَنتس المسجلة سنة 1976 اعترف بوكوفسكي بأنه وصل إلى حد أن صار له أتباع، كلهم طلبة جامعيون «ضعاف، مأزومون» انجذبوا ـ شأن صديقه بُولدي في المرحلة الثانوية ـ إلى حركاته النازية الزائفة. مضى بوكوفسكي فأوضح أنهم كانوا يلعبون الروليت الروسية بمسدس حقيقي. كلهم تعهدوا في جلال بالولاء للعلم الأمريكي، وعقدوا النية على إنقاذ بلدهم من الشيوعية، برغم أن بوكوفسكي «لم يكن يبالي» البتة، سرعان ما أدركت أن أشرطة بليزنتس كنز مخبوء. صحيح أن بليزنتس حرف ما قاله بوكوفسكي فيها ليلائم سرديته، متوصلا إلى مزاعم بدت لي خيالية تماما. فمن ذلك نقله عن بوكوفسكي قوله إنه كان يقرأ لوس أنجلس إكزامينر لأن وليم راندولف هيرست كان ينشر لهتلر وموسوليني، برغم أن هيرست طرد هتلر لعدم التزامه بمواعيد التسليم. قلت إنها فرية أخرى من بليزنتس. فكيف يمكن أن يطرد أحد هتلر؟ لكن المؤرخ والكاتب ديفيد ناسو صحَّح لي ظني: «كان هيرست يكلف هتلر وموسوليني وكثير من زعماء العالم بالكتابة، ثم يطردهم إذا لم يلتزموا بالتسليم في الميعاد». انتبهت للتصحيح، واعتبارا من ذلك الحين، أعطيت بلينزنتس ميزة الشك، فكنت أتحقق من مزاعمه بدلا من المرة ثلاثا.
في الرواية التي يعدها البعض أفضل رواياته وهي «لحم على خبز» (1982)، تكلم بوكوفسكي أيضا عن شوقه إلى وطنه مع توجيهه اللوم طيلة الوقت إلى أساتذته في الكلية بسبب ميوله النازية: «بمولدي في ألمانيا، كان لدي ولاء طبيعي، ولم يرق لي أن أرى الأمة الألمانية كلها، والشعب، إذ يجري تصويرهم في كل مكان بوصفهم وحوشا وحمقى...لم أكن نازيا بمزاجي أو باختياري، ولكن المعلمين أرغموني بطريقة أو بأخرى على ذلك بكونهم شديدي التشابه وبتفكيرهم شديد التماثل وبميلهم على ألمانيا». ومرة أخرى، كما في حوارات وقصص قصيرة، اختار بوكوفسكي أن ينأى عمن يمتثلون لما يقال لهم، بما يذكرنا بعنوان أحد كتيباته الأولى «اجر مع الفرائس» (1962). وقد أكدت المؤرخة كاثرين أولمستيد ذكريات بوكوفسكي فقالت إن «أغلب المعلمين في عام 1941 كانوا على الأرجح معادين للنازية. وفي تلك المرحلة، كان هتلر يخوض حربا ضد أغلب ديمقراطيات أوروبا». غير أن ناسو رسم صورة مختلفة بعض الاختلاف: «أشك إلى حد ما في أن جميع المعلمين كانوا يساريين مناهضين لألمانيا. ففي عام 1940-1941، كان الأمريكيون بصفة عامة يكرهون هتلر ويخافونه، لكنهم لم يكونوا مستعدين لخوض حرب ضده». بدا أن معارضة التدخل هي الموقف المعياري قبل قصف بيرل هاربر في ديسمبر عام 1941.
في أواخر عام 1991، حينما كان بوكوفسكي في الحادية والسبعين، كتب «ما الذي سيخطر للجيران؟»، وهي قصيدة أوجز فيها أغلب أفكاره المتصلة بالنازية التي ناقشها بالفعل في أعماله، مركزا على أنه كان يدعم «القضايا غير الشعبية» في رسائله إلى جرائد محافظة. متطفلا على أتباعه اليمينيين في الشراب، استطاع بوكوفسكي أن يخدعهم ويحملهم على الإيمان بأنه متعاطف أصيل مع النازية. وهذه هي القصيدة التي اتخذها سونيس ومايلز مصدرا لمزاعمهما، متجاهلين المواقف السابقة التي أوضح فيها بوكوفسكي مرارا أن الأمر كله كان مزحة كاملة. وبرغم اتهامات سونيس ومايلز وبليزنتس بمناصرة النازية، كنت أميل إلى تصديق بوكوفسكي. فبعد سنين عديدة من البحث، عرفت أنه كائن نزاع إلى أسطرة نفسه محب لأن يكون مثيرا للجدل. كان من جملة مهاراته المقدرة على إحداث جلبة بمناصرة أفكارا تعد اليوم منافيىة للصائب سياسيا. لم تعد هيئة المحلفين بعيدة عني، والتهم جميعا إما هي غير مثبتة أو أسقطت إسقاطا غير رسمي.
ثم التقيت بنورما آلمكويست. كنا نحن الاثنين نجري بحوثا في مكتبة هنتنتُن. وكانت آلمكويست قد نشرت قليلا من قصائد بوكوفسكي في مجلة آنتي الصغيرة التي كانت تشارك في تحريرها في الستينيات. وفيما كنا نتناول غداء هادئا في بقعة ظليلة قرب الحدائق أفضت إليَّ بأنها درست مع بوكوفسكي في كلية لوس آنجلس سيتي. حكت لي أنه كان يجلس دائما في الصف الأخير، عابسا، ولا يختلط مطلقا بأحد في الصف. قلت في نفسي إن ذلك نمطي من بوكوفسكي. ثم إنها رمت القنبلة في وجهي: «كان عدوانيا في صمته، يضع صليبا معقوفا على كُمِّ سترته. ولما كانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت للتو، فقد كان الصليب المعقوف يبدو لنا جميعا صفعة على الوجه. أستبعد أنه كان متعاطفا مع الدعاية النازية. أعتقد أنه كان يضع الصليب المعقوف على سترته ليلفت الأنظار لا أكثر». وبرغم عدم إمكانية التحقق من صدق رواية آلمكويست لكن توقيتها دقيق، فإذ ذاك كانت طبيعة بوكوفسكي الاستفزازية تتشكل بالفعل. كانت آلمكويست في التسعين تقريبا آنذاك، فاستقبلت كلماتها بشيء من الحذر، آخذة في الاعتبار تأكيدها مرارا أن ذلك كان اصطناعا من بوكوفسكي.
وخطر لي أن بوكوفسكي ربما عبَّر بالفعل عن رؤى متطرفة داعمة لهتلر في أوائل الأربعينيات ثم غير رأيه في السبعينيات، قائلا إن ذلك كله كان مزاحا. وبدا أن إخفاء غرائب شبابه تحت ستار الكوميديا السوداء هو المخرج الأمثل. ولم يكن من سبيل للتحقق من ذلك إلا بالغوص في الرسائل الثلاث التي كشفت عنها النقاب بالمصادفة.
التريث
من الرسائل الكثيرة المنشورة في لوس آنجلوس هيرالد آند اكسبريس المسائية للقراء المواظبين من أمثال تشارلز جيدولد ومايكل كراولي وألبرت بوركي و«أُمّ» و«دافع ضرائب» و«أمريكي مخلص»، عثرت على الرسائل الثلاث للشاب الصغير بوكوفسكي. نشرت في عام 1941 قبل تفجير بيرل هاربور، وجاءت تحت عناوين «حكاية خرافية حديثة» و«سؤال وجواب» و«ما يثير قلقه». جاء نشر الرسالتين الأوليين عندما كان بوكوفسكي لا يزال يدرس في كلية لوس آنجلوس سيتي ويعيش مع أبويه، والثالثة نشرت بعد أشهر قليلة من تركه الدراسة وقبيل أن يبدأ ما أطلق عليه سنوات «التصعلك».
في «حكاية خرافية حديثة» يعرض بوكوفسكي ذو العشرين عاما استياءه من الدب سامي والدب ليمي والدب هيني وبخاصة معاملة الدب سامي للدب هيني. لقد ولد بوكوفسكي في نهاية المطاف في ألمانيا وشعر دائما بشيء من الحنين لوطنه. ومثلما أشار كاتب السيرة الذاتية ديفيد كالوني بعد قراءة الرسائل للمرة الأولى فإن بوكوفسكي «كانت لديه حتما بعض المشاعر الموالية للألمان بسبب انحداره منهم». والدببة الثلاثة جميعا مصورة بوصفها كائنات شيطانية، إلا الدب هيني الذي يبدو أقلها شرا. ومع ذلك يبدو أن بوكوفسكي مثلما أوضح كالوني «يدعو إلى عدم التدخل لأن «الدببة’ الثلاثة وسخة الأيدي». ويعترف بوكوفسكي نفسه أن الدببة جميعا «تتقاتل على عصيدة المستعمرة» وهي تتظاهر بأنها تنقذ الديمقراطية.
ومن المثير للاهتمام أن القصة القصيرة الأولى المنشورة لبوكوفسكي في مجلة (القصة) التي كان يصدرها ويت بورنيت قد نشرت سنة 1944 لكن «هذه الحكاية المنقوصة» ـ بحسب وصف بوكوفسكي لها ـ كتبت في عام 1941 باعتبارها ضربا من الحكايات الخرافية وهي بالقطع أشبه في قراءتها بالقصة القصيرة. كان بوكوفسكي واعيا بذلك، فأشار في نهاية الرسالة إلى أن عدد الباكين من أجل الحرب على هتلر يزداد حجما كل يوم. وهذه الحكاية مهداة إليهم ومكتوبة في هذا القالب الطفولي لأنهم إن بلغوا من الحماقة مبلغ الوقوع في الخدعة نفسها مرتين، فمن المؤكد أنهم بسطاء العقول بحيث لا يمكن أن يفهموا أي شيء آخر. ولو أن هذه الرسالة الأولى في لوس آنجلس هيرالد آند إكسبريس المسائية تثبت أي شيء، فهو أن موهبته الكتابية كانت فاعلة آنذاك بالفعل.
أما «سؤال وجواب» فرسالة قصيرة مباشرة يتساءل فيها بوكوفسكي عن تناقضات الحرب موجها اللوم إلى إدارة الولايات المتحدة الأمريكية. وبغرابة يختتم رسالته هذه بقوله إنها «لحالة غريبة يا أصدقائي، أن تأكلوا كعكتكم وتصرون على بقائها لكم في الوقت نفسه». وفي رسالة «ما يثير قلقه» الأخيرة يبدأ بوكوفسكي بقوله «لست قلقا من مجيء هتلر إلى هنا بقدر ما أنا قلق من ذهابنا نحن إلى هناك» وينتقد هنا الرئيس فرانكلين روزفلت لعدم وفائه بوعوده في ما قبل الانتخابات. ودونما تزييف لكلماته فإنه يسوي الأمر بزعمه أن «نقاط السلام الثماني» التي أعلنها روزفلت هي في الحقيقة «ثمانية أسباب للتريث» لأنها قد تتسبب في «حروب في المستقبل» بدلا من أن تحل القضايا الراهنة.
جعلتني طبيعتي المتشككة أعيد قراءة الرسائل مرات، محاولا العثور على حجج داعمة لنظام هتلر. لقد كانت لوس آنجلس إكزامينر ولوس أنجلس هيرالد آند إكسبريس المسائية جريدتين محافظتين في الأربعينيات، وكان كثير من الليبراليين يقاطعونهما. ومثلما قالت لي المؤرخة كاثرين أولمستيد، كانت الصحيفتان «الشعبويتان المغاليتان في الوطنية» بوضوح «ترفضان التدخل في الحرب، وتناهضان [الخطة الاقتصادية التي عرفت بـ] ’الصفقة الجديدة’، وتناهضان فرانكلين روزفلت. لم يكن بوكوفسكي مرغما على التعبير عن رؤاه بطريقة متخفية، فقد كانت لديه الفرصة لقول ما يراه فعليا، وهذه الرسائل تعكس ذلك. ما كان لموقفه الرافض للتدخل [في الحرب] أن يكون أكثر بلاغة. لقد كان بوكوفسكي «رافضا للحرب ولا يقف حقا في صف أي جانب فيها. كان مواليا لألمانيا ثقافيا، لكنه بصفة أساسية كان مناهضا للحرب» وهذا ما خلص إليه كالوني. ووافقه الشاعر إس آيه جريفين كلَّ الموافقة في رأيه إذ قال إن «بوكوفسكي يمكن بلا شك أن يكون منقسم الولاءات بين أمريكا وألمانيا» موضحا أن بوكوفسكي «كان بوضوح منتبها ومهموما بعمق. كان يجهر بالحديث عن بناء الإمبراطورية واستمرار الحضارة الغربية». وبرغم اتهامه بالولاء للنازية، فإن روابط بوكوفسكي بألمانيا لم تجعل منه نصيرا لهتلر.
والحق أن كاتب السيرة نيلي تشيركوفسكي قد أشار إلى أنه «تظاهر بالموالاة للنازية قبل أن تبدأ الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يكن غير تظاهر وسط أصدقائه. وهو يقينا لم يكن يؤمن بأي من الكلام اليميني الذي صدر قبل الحرب وخلالها وبعدها. لم تكن في جسمه عظمة واحدة معادية للسامية». وليس ذلك فحسب، فالكاتب جيف ويدل أنكر تماما أي ميول نازية في هذه الرسائل: «إنه لا يقر هتلر أو الفاشية أو الإبادة الجماعية، وذلك ما أعتقد أن بعض المغالين في كراهية بوكوفسكي قد يريدون إلصاقه به». وذلك ما ينطبق على تعاطف بوكوفسكي مع النازية.
وهذا ما يوافق عليه المؤرخون. فلم تعثر أولمستد أو ناسو على أي تلميح للنازية في هذه الرسائل، ورأيا أن انعزالية بوكوفسكي لم تكن راديكالية أصلا في ذلك الوقت. قالت أولمستيد إن الرسائل تتسق مع «سياسة هيرست التحريرية العامة. وأغلب قراء هيرست يألفون تماما مثل هذه المشاعر» في حين انتهى ناسو إلى أن الرسائل لم تكن «مناصرة للنازية ولكنها ببساطة رافضة للتدخل في الحرب، ومناهضة لبريطانيا...لم يكن لنا شأن بخوض حرب تجري في أوروبا، لإنقاذ الإمبراطورية البريطانية. وخوض تلك الحرب، سواء بمناصرة البريطانيين أو بدخول الحرب مباشرة، ما كان لينجح إلا في تخريب الاقتصاد. فالرسائل ببساطة رفض للحرب». وبوكوفسكي كانت نتاج ثقافة أمريكية أعرب فيها ملايين من أبناء بلده الأمريكيين صراحة عن مناصرتهم للانعزالية في ما يتعلق بالحرب. بالقطع لم يكن ذلك موقفا تفرَّد به، وبخاصة لأن أهوال الحرب العالمية الأولى كانت لا تزال حية في الذات العالمية. «ما قاله بوكوفسكي في هذه الرسائل» حسبما ذهبت أولمستيد «لا يعد متطرفا في زمنه. فثمة فارق هائل بين القول بأن الولايات المتحدة لا يجب أن تدخل الحرب وبين القول بأن النازيين على حق».
ولا عجب أن بوكوفسكي ـ الكائن دائم الأسطرة لنفسه ـ قد غالى في رؤاه بعد خمسة عقود في قصيدة «ما الذي سيخطر للجيران؟» برغم فرصة جيدة لأن يكون قد كتب هذه الرسائل في عام 1941 لكي تسمع وتقرأ ـ مثلما فعل في عمله على مدار بقية عمره ـ فموقفه المغاير للسائد كان شائعا للغاية في ما قبل بيرل هاربور. وقوله عن أبويه إنهما «أحمقان وطنيان ضالان» بعد 50 سنة، وتمجيده عدم شيوع معتقداته المفترض في الأربعينيات، أشارا في الاتجاه نفسه: لقد كان يضخم بأثر رجعي رد الفعل العدائي تجاه الرسائل. وبالنسبة لبوكوفسكي الشاب، كان إزعاج أبويه ملحا عليه إلحاح الدافع القسري إلى الكتابة. أما بوكوفسكي الكبير فكان فقط شديد السعادة بإضفاء بعد خيالي على مآثر شبابه.
وما لم يظهر في المزيد من الرسائل دليل قوي على التزام بوكوفسكي بقضية النازية، فإن كل المزاعم في هذا الصدد لم تعد ذات مصداقية ويجب الصمت عنها تماما. وبعد سنين من البحث، ومراجعتي لنفسي ولكل شخص آخر في هذه المسألة، لم أملك إلا الظن بأن بوكوفسكي كان أذكى الجميع. ففي حين أخذ الجميع كلماته وكأنها منحوتة في الحجر، إما لتأليهه أو لإبداء الرعب منه، كان هو ببساطة يقضي وقتا لطيفا، غير مثقل بكل هذه الضجة. وأقصى ما في الأمر أنه كان مستمتعا تماما بسلسال الحيرة الذي أحدثه في المقام الأول بزعمه أنه تظاهر بالنازية في سنوات الكلية. في أشرطة بليزنتس، يمكنك أن تسمعوه وهو يضحك صاخبا بينما يتكلم عن طلعته النازية. كان يسخر من نفسه، عسى ألا يأخذه أحد مأخذ الجد.
وقد حان الوقت.
بدأت البحث في أعمال تشارلز بوكوفسكي سنة 2007. وبعد نحو سنتين، لا أزال أتذكر بوضوح حديثي مع أحد أعضاء لجنة مناقشتي في الدكتوراه. كان قد كتب أطروحته عن موبي ديك سنة 1992 وبعد خمسة عشر عاما من ذلك كان لا يزال ينشر مقالات عن الكتاب وعن ملفيل. كنت ساذجا بعض الشيء في الشؤون الأكاديمية، فلم يكن استيعاب ذلك بالأمر اليسير. كيف لشخص أن يقضي خمسة عشر عاما من حياته وهو يعمل على الموضوع نفسه؟ هل يبقى شيء ليقال؟ أو حجر ليقلب؟ فعلا؟
فعلا. فها أنا بعد خمسة عشر عاما لم أزل أبحث في أعمال بوكوفسكي. صحيح أن معظم البحث تم على فترات متقطعة، بين أسفار، وانفصالات، وتربية أولاد، وتغيير سكنى، وتولي وظائف جديدة، وما إلى ذلك. المعتاد. لم يكن قط ركيزة عملي، لكنه كان على الدوام حضورا واضحا لا مفر منه. أقرب إلى أرض خصبة سحرية تظل تثمر كتبا ومقالات وكتيبات وأحاديث وعشاقا وما لا أعرف غير ذلك. عطايا إلهية بالقطع. وأيضا، نعم، هناك ببليوجرافيا سيرية أيضا. مشروع عملاق كنت أعمل عليه لفترة غير قليلة. كتاب مليء بقصص نافذة وأطنان بيانات مضجرة استحال إتمامه. ولنلق اللوم في ذلك على طبع الغزارة عند بوكوفسكي.
بعدما أتيح لنا استئناف حياتنا بطريقة ما بعد الوباء، شعرت أن تلك لحظة من لحظات «الآن وإلا فلا». إما الدفع بذلك المشروع إلى منتهاه على الفور أو المسارعة بوضع الصبار على مقبرته. ساعات طوال من الليل، عطلات أسبوعية جنونية في الانكباب على الكمبيوتر، وفجأة، بومّ، اكتمل على حين غرة. أو ذلك ما ظننته. كنت قد يئست بالفعل من العثور على اثنين من أكثر المواد مراوغة عند بوكوفسكي، وهما «اكتب» ورسائل مناصرة النازية التي كان قد نشرها في جرائد يمينية في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. غير أن بحثا سريعا في أواسط 2023 أصاب الهدف على غير انتظار. ولدقيقة لم أصدق عيني. هل حقا الرسائل التي كنت أقرؤها هي لبوكوفسكي نفسه الذي أعمل عليه لنحو خمسة عشر عاما؟ أم كانت من تلك السرابات التي يتعثر فيها الباحثون في نهاية يوم عمل طويل مجدب، بعد أن يستهلكهم التعب فتغيم أعينهم؟
الأمر أنني شهقت من الدهشة. أدركت أنني كنت أطارد الصحيفة الخاطئة لأكثر من عشر سنوات. كنت كلما تحدثت مع شخص عن الرسائل سيئة الذكر المناصرة للنازية يقال لي إنني ينبغي أن أتحقق من الأعداد القديمة لصحيفة (لوس أنجلوس إكزامينر). وفعلت ذلك. قضيت ساعات لا حصر لها في مكتبة لوس آنجلس العامة في استعراض مئات من عبوات الميكروفيلم فيزداد إحساسي بالدوار مع مرور كل دقيقة. وبعد سويعات، إذا بكل ميكروفيلم جديد محض بقعة هائلة من الحبر الشائه. وإذا بالأسماء والأماكن ألغاز مستحيلة. وكنت في استراحات قصيرة أخرج وأسير في الحي وأرجع لا لشيء سوى الدوار من جديد. وخرجت مرة. ورجعت للمرة الألف. ولا حظ على الإطلاق. في صفحة الرأي، بجوار أعمدة هيلين رولاند وإدوين هيل وإلزي روبنسن. تحققت ثلاث مرات من عشرات وعشرات من باب «بريد المحرر» ولا فائدة. ما من بوكوفسكي مطلقا.
في ذلك الوقت تقريبا، ذكرت تلك الرسائل لمحرر بوكوفسكي العتيد جون مارتن فقال «أعتقد أن بوكوفسكي كان يحلم. أشك أن يكون لتلك الرسائل المنشورة وجود». توقفت تقريبا عن البحث. فكم من طرق مسدودة. كانت قد تحولت هاجسا مرضيًّا. أغلقت ذلك الباب وانطلقت. وبعد فترة قصيرة، بدأت أعمل في «الإنسانيات الرقمية». كنت أرقمن مئات من الدوريات، ومنها أوائل أعداد مجلة (شعر). كان أمرا طريفا أن أرى إزرا باوند ينشر في شتى الأماكن، شأن بوكوفسكي بعد عقود. بت على ألفة بـ (التعرف الضوئي على الحروف) والبيانات الوصفية ووضع العلامات. أخذت مشاريع رقمنة هائلة تجري في المكتبات بجميع أرجاء البلد. وإذا بأمور كانت حتى ذلك الحين تستوجب رحلات باهظة التكاليف تصبح بغتة على بعد نقرة. وفي وقت ما من منتصف عام 2023، إذ أضع اللمسات الأخيرة على مشروعي غير القابل للانتهاء في كتابة ببليوجرافيا بوكوفسكي السيرية، أخذت نفسا عميقا وقررت أن أجرب مرة أخيرة. وذلك دأب الباحثين. لا يرمون المنشفة أبدا، وذلك ما يسوء كل المحيطين بهم بلا استثناء.
أعدت التحقق من جميع قواعد البيانات الكبرى: بروكويست إبسكو، نيوزبنك، جيهستور، وكل ما يخطر لكم. ولا شيء. جربت إنترنت أركييفز الذي تضاف إليه آلاف الصفحات المرقمنة حديثا كل يوم. ولا أثر. ساعات وساعات في الهباء. لا عجب أن تلك الرسائل كانت الكأس المقدسة. ومع ذلك، زعم كاتب السيرة هوارد سونيس أن بوكوفسكي «كتب إلى الصحف يعبر عن آرائه المتطرفة»، وأن الكاتب باري مايلز انتهى إلى أن بوكوفسكي «كتب إلى لوس أنجلوس إكزامينر رسائل تدعم هتلر». قلت لا بد أن تكون حقيقية إذن. المدهش أن سونيس عندما سئل عن هذه الرسائل قال «لا أعتقد أنني رأيت رسائل بوكوفسكي النازية قط، لكنني صدقته إذ أشار في كتابات وحوارات أخرى إلى أنه قد كتبها»، أما مايلز فاعترف قائلا «من المؤكد أنني لم أر الصحف نفسها». فلعلها في نهاية المطاف وهم.
غير أن المصادفات تحدث. وشاء الحظ أن صادفت قاعدة بيانات ضئيلة نسبيا فيها كم ضخم من أعداد لوس أنجلوس إكزامينر ولوس أنجلوس هيرالد إكزامينر. لم يسفر البحث الروتيني عن أي نتائج بالمرة. تذكرت أن والد بوكوفسكي غضب عليه لتوقيعه مقالة باسم «هنري بوكوفسكي» في عدد من لوس أنجلوس كولجيان سنة 1940، وهو أول نشر له على الإطلاق. جربت تنويعات عديدة لكتابة اسم بوكوفسكي، فظهرت ثلاث رسائل لـ«هنري سي بوكوفسكي الابن»، نقرت عليها فإذا بها أمامي، الرسائل المخاتلة التي ذكرها بوكوفسكي في حوارات وقصائد، تلك التي ظلت خاملة لردح من الزمن لا يعلمه إلا الله في قاعدة بيانات لم يسمع بها أحد.
ومن الطريف، بينما ألقى نظرة قريبة على الغلاف الأمامي لتلك الأعداد الثلاثة، أني لا أملك إلا أن ألحظ أنها لم تكن أعدادا من لوس أنجلوس إكزامينر أو لوس أنجلوس هيراليد إكزامينر، وذلك برغم أنني كنت على يقين من أن ذلك ما كان يطلق عليها في قاعدة البيانات. أعدت خطواتي من النهاية إلى البداية ونقرت مرة أخرى على أعداد لوس أنجلوس إكزامينر، فإذا بي أنتقل مرة أخرى إلى جريدة أخرى اسمها لوس أنجلوس هيرالد آند إكسبريس إيفننج [أي المسائية]. طبعا! خطأ تصنيف كلاسيكي! جميع أعداد لوس أنجلوس هيرالد آند إكسبريس إيفننج مصنفة باعتبارها أعدادا من لوس أنجلوس إكزامينر. لم يكن من سبيل للعثور على تلك الأعداد إلا بالصدفة. واللوم في ذلك يقع على مسارعة الإنسانيات الرقمية إلى رقمنة كل الكتب التي عرفتها البشرية في طرفة عين. وذلك، فضلا عن التعرف الضوئي على الحروف، هو المدان الرئيسي في ساعات عقيمة أمام شاشة الكمبيوتر.
وكم كنت ساذجا حينما تصورت أن بوكوفسكي بعث رسائله إلى لوس أنجلس إكزامينر، وهي الطبعة الصباحية من الجريدة. لقد جرب الطبعة المسائية بالتأكيد، حين كان يفيق ويتزن بما يتيح له أن يقرأ جريدة. من الطريف للغاية أن كل شيء يبدو منطقيا متسقا بأثر رجعي.
كان الأمر جديرا بالجهد. لم تعد تلك الرسائل المثيرة للجدل محض كائن أسطوري يستهزئ بي، ويمتحن صبري. كانت موجودة، تنتظر الفحص، والتحليل، والتشريح. فأهلا بالمسرات والمباهج!
إلى المرح
لنبدأ بالبدايات. برغم أن المزاعم بشأن التعاطف مع النازية مطروحة من سونيس سنة 1998، ومن مايلز سنة 2005، ومن بِن بليزَنتس في المقام الأكبر في كتابه «بوكوفسكي الحشوي» سنة 2004 ـ وكلها بعد مرور ردح من الزمن على وفاة بوكوفسكي ـ فالحقيقة الراسخة هي أن أول من بادر إلى نشر تلك النميمة لم يكن غير بوكوفسكي نفسه. ففي حوارات وقصائد وقصص وروايات، لم يتحاش بوكوفسكي الحديث عما أطلق عليه «الفخ النازي»، وبخاصة في الأشرطة سيئة السمعة التي سجلها بليزنتس، وأقول سيئة السمعة لأن بليزنتس هوجم لزعمه أن بوكوفسكي نازي في جوهره، وأصر دائما أن كل ما قاله إنما له مصدر في الأشرطة التي سجلها بين أواسط السبعينيات وأواخرها حينما كان يعمل على سيرة لبوكوفسكي لم تر النور قط. على مدار سنين، ساد الظن بأن ذلك محض اختلاق من بليزَنتس وأن هذه الأشرطة ليست إلا محض فبركة، لكن بعد وفاة بليزنتس سنة 2013، استطعت أن أتعقب الأشرطة فسمعت بوكوفسكي بالفعل يطنطن ويطنطن بشأن شخصيته النازية.
ما لم يذكره بليزانتس هو أن ذلك كله قيل مزاحا. فبوكوفسكي في الأشرطة واضح تمام الوضوح في هذا. فلم تكن طلعته النازية إلا تمثيلية هائلة، والأمر بهذه البساطة. وربما كان مثالا آخر ـ وإن يكن منحرفا ـ على ظرفه الذي ينال من نفسه. ولقد كان بليزنتس ـ الذي ظل يبحث في أعمال بوكوفسكي منذ أوائل السبعينيات ـ على وعي تام بأقوال بوكوفسكي العلنية. ومع ذلك، فما رواه بوكوفسكي وهو شبه هازل في تلك الأشرطة وفي غيرها، حوله بليزنتس إلى معتقدات نازية راديكالية متجذرة. وأقل ما يقال في هذا إنه صادم. لا أملك أحيانا إلا الظن بأن ذلك كان انتقامه لإلغاء السيرة الذاتية. ولم يخفف وطأة ذلك أن بوكوفسكي كتب سنة 1978 قصة قصيرة سخر فيها من سلوك بليزنتس وعجرفته وانكفائه على نفسه.
باستثناء إشارات عابرة بين الحين والآخر، ما من تسجيلات لبوكوفسي يناقش فيها النازية قبل السبعينيات. وأول حديث مسهب له في الموضوع كان في حوار بمجلة ستونكلاود سنة 1972: «تظاهرت بدافع من الضجر المحض أنني نازي...أتذكر ذات مرة أنني انتهيت في ذلك المكان في [مدينة] جلينديل بقبو معتم ضخم. وقفنا جميعا نحيي العلم، ووقف فينا رجل بغاية الجدية وكلمنا في أننا الذين سوف نحطم الشيوعية. لكنني لم أكن واحدا منهم، كان ذلك محض استعراض...جاء بويد كول [رئيس كلية لوس أنجلس سيتي] وقال «هاي بوكوفسكي: أنا لا أومن بما تدعو إليه، لكن دعني أقل لك شيئا: «لو حدث وفزتم فسوف أقف في صفكم» فقلت له: «ما أنت يا بويد إلا بعرة كبيرة، فحل عن سمائي». وبعد سنين روى بوكوفسكي هذه الواقعة مرى أخرى مع الرئيس كول في رواية «لحم على خبز» [ترجمت بالعربية بعنوان «الشطيرة»].
في قصة قصيرة عنوانها «سياسات» نشرت في ديسمبر 1972، أعرب بوكوفسكي عن وجهة نظر مماثلة: «في كلية لوس أنجلس سيتي قبيل الحرب العالمية الثانية، تظاهرت أنني نازي. لم أكن أميز تقريبا بين هتلر وهرقل، ولا كنت أبالي...ما كنت أكترث أصلا بالقراءة عن أدولف. فقط كنت أتفوه بأي شيء أشعر أنه آثم أو جنوني...لعبت دور النازي لفترة أطول قليلا، برغم لامبالاتي بالنازيين أو الشيوعيين أو الأمريكيين». وفي عام 1963 منحت مجلة ذي أوتسايدر الصغيرة لبوكوفسكي لقب «غريب العام»، وبعد قرابة عقد من الزمن كان لا يزال يبدوعلى هامش كل شيء تقريبا، وبخاصة في السياسة.
في أحد أشرطة بليزَنتس المسجلة سنة 1976 اعترف بوكوفسكي بأنه وصل إلى حد أن صار له أتباع، كلهم طلبة جامعيون «ضعاف، مأزومون» انجذبوا ـ شأن صديقه بُولدي في المرحلة الثانوية ـ إلى حركاته النازية الزائفة. مضى بوكوفسكي فأوضح أنهم كانوا يلعبون الروليت الروسية بمسدس حقيقي. كلهم تعهدوا في جلال بالولاء للعلم الأمريكي، وعقدوا النية على إنقاذ بلدهم من الشيوعية، برغم أن بوكوفسكي «لم يكن يبالي» البتة، سرعان ما أدركت أن أشرطة بليزنتس كنز مخبوء. صحيح أن بليزنتس حرف ما قاله بوكوفسكي فيها ليلائم سرديته، متوصلا إلى مزاعم بدت لي خيالية تماما. فمن ذلك نقله عن بوكوفسكي قوله إنه كان يقرأ لوس أنجلس إكزامينر لأن وليم راندولف هيرست كان ينشر لهتلر وموسوليني، برغم أن هيرست طرد هتلر لعدم التزامه بمواعيد التسليم. قلت إنها فرية أخرى من بليزنتس. فكيف يمكن أن يطرد أحد هتلر؟ لكن المؤرخ والكاتب ديفيد ناسو صحَّح لي ظني: «كان هيرست يكلف هتلر وموسوليني وكثير من زعماء العالم بالكتابة، ثم يطردهم إذا لم يلتزموا بالتسليم في الميعاد». انتبهت للتصحيح، واعتبارا من ذلك الحين، أعطيت بلينزنتس ميزة الشك، فكنت أتحقق من مزاعمه بدلا من المرة ثلاثا.
في الرواية التي يعدها البعض أفضل رواياته وهي «لحم على خبز» (1982)، تكلم بوكوفسكي أيضا عن شوقه إلى وطنه مع توجيهه اللوم طيلة الوقت إلى أساتذته في الكلية بسبب ميوله النازية: «بمولدي في ألمانيا، كان لدي ولاء طبيعي، ولم يرق لي أن أرى الأمة الألمانية كلها، والشعب، إذ يجري تصويرهم في كل مكان بوصفهم وحوشا وحمقى...لم أكن نازيا بمزاجي أو باختياري، ولكن المعلمين أرغموني بطريقة أو بأخرى على ذلك بكونهم شديدي التشابه وبتفكيرهم شديد التماثل وبميلهم على ألمانيا». ومرة أخرى، كما في حوارات وقصص قصيرة، اختار بوكوفسكي أن ينأى عمن يمتثلون لما يقال لهم، بما يذكرنا بعنوان أحد كتيباته الأولى «اجر مع الفرائس» (1962). وقد أكدت المؤرخة كاثرين أولمستيد ذكريات بوكوفسكي فقالت إن «أغلب المعلمين في عام 1941 كانوا على الأرجح معادين للنازية. وفي تلك المرحلة، كان هتلر يخوض حربا ضد أغلب ديمقراطيات أوروبا». غير أن ناسو رسم صورة مختلفة بعض الاختلاف: «أشك إلى حد ما في أن جميع المعلمين كانوا يساريين مناهضين لألمانيا. ففي عام 1940-1941، كان الأمريكيون بصفة عامة يكرهون هتلر ويخافونه، لكنهم لم يكونوا مستعدين لخوض حرب ضده». بدا أن معارضة التدخل هي الموقف المعياري قبل قصف بيرل هاربر في ديسمبر عام 1941.
في أواخر عام 1991، حينما كان بوكوفسكي في الحادية والسبعين، كتب «ما الذي سيخطر للجيران؟»، وهي قصيدة أوجز فيها أغلب أفكاره المتصلة بالنازية التي ناقشها بالفعل في أعماله، مركزا على أنه كان يدعم «القضايا غير الشعبية» في رسائله إلى جرائد محافظة. متطفلا على أتباعه اليمينيين في الشراب، استطاع بوكوفسكي أن يخدعهم ويحملهم على الإيمان بأنه متعاطف أصيل مع النازية. وهذه هي القصيدة التي اتخذها سونيس ومايلز مصدرا لمزاعمهما، متجاهلين المواقف السابقة التي أوضح فيها بوكوفسكي مرارا أن الأمر كله كان مزحة كاملة. وبرغم اتهامات سونيس ومايلز وبليزنتس بمناصرة النازية، كنت أميل إلى تصديق بوكوفسكي. فبعد سنين عديدة من البحث، عرفت أنه كائن نزاع إلى أسطرة نفسه محب لأن يكون مثيرا للجدل. كان من جملة مهاراته المقدرة على إحداث جلبة بمناصرة أفكارا تعد اليوم منافيىة للصائب سياسيا. لم تعد هيئة المحلفين بعيدة عني، والتهم جميعا إما هي غير مثبتة أو أسقطت إسقاطا غير رسمي.
ثم التقيت بنورما آلمكويست. كنا نحن الاثنين نجري بحوثا في مكتبة هنتنتُن. وكانت آلمكويست قد نشرت قليلا من قصائد بوكوفسكي في مجلة آنتي الصغيرة التي كانت تشارك في تحريرها في الستينيات. وفيما كنا نتناول غداء هادئا في بقعة ظليلة قرب الحدائق أفضت إليَّ بأنها درست مع بوكوفسكي في كلية لوس آنجلس سيتي. حكت لي أنه كان يجلس دائما في الصف الأخير، عابسا، ولا يختلط مطلقا بأحد في الصف. قلت في نفسي إن ذلك نمطي من بوكوفسكي. ثم إنها رمت القنبلة في وجهي: «كان عدوانيا في صمته، يضع صليبا معقوفا على كُمِّ سترته. ولما كانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت للتو، فقد كان الصليب المعقوف يبدو لنا جميعا صفعة على الوجه. أستبعد أنه كان متعاطفا مع الدعاية النازية. أعتقد أنه كان يضع الصليب المعقوف على سترته ليلفت الأنظار لا أكثر». وبرغم عدم إمكانية التحقق من صدق رواية آلمكويست لكن توقيتها دقيق، فإذ ذاك كانت طبيعة بوكوفسكي الاستفزازية تتشكل بالفعل. كانت آلمكويست في التسعين تقريبا آنذاك، فاستقبلت كلماتها بشيء من الحذر، آخذة في الاعتبار تأكيدها مرارا أن ذلك كان اصطناعا من بوكوفسكي.
وخطر لي أن بوكوفسكي ربما عبَّر بالفعل عن رؤى متطرفة داعمة لهتلر في أوائل الأربعينيات ثم غير رأيه في السبعينيات، قائلا إن ذلك كله كان مزاحا. وبدا أن إخفاء غرائب شبابه تحت ستار الكوميديا السوداء هو المخرج الأمثل. ولم يكن من سبيل للتحقق من ذلك إلا بالغوص في الرسائل الثلاث التي كشفت عنها النقاب بالمصادفة.
التريث
من الرسائل الكثيرة المنشورة في لوس آنجلوس هيرالد آند اكسبريس المسائية للقراء المواظبين من أمثال تشارلز جيدولد ومايكل كراولي وألبرت بوركي و«أُمّ» و«دافع ضرائب» و«أمريكي مخلص»، عثرت على الرسائل الثلاث للشاب الصغير بوكوفسكي. نشرت في عام 1941 قبل تفجير بيرل هاربور، وجاءت تحت عناوين «حكاية خرافية حديثة» و«سؤال وجواب» و«ما يثير قلقه». جاء نشر الرسالتين الأوليين عندما كان بوكوفسكي لا يزال يدرس في كلية لوس آنجلوس سيتي ويعيش مع أبويه، والثالثة نشرت بعد أشهر قليلة من تركه الدراسة وقبيل أن يبدأ ما أطلق عليه سنوات «التصعلك».
في «حكاية خرافية حديثة» يعرض بوكوفسكي ذو العشرين عاما استياءه من الدب سامي والدب ليمي والدب هيني وبخاصة معاملة الدب سامي للدب هيني. لقد ولد بوكوفسكي في نهاية المطاف في ألمانيا وشعر دائما بشيء من الحنين لوطنه. ومثلما أشار كاتب السيرة الذاتية ديفيد كالوني بعد قراءة الرسائل للمرة الأولى فإن بوكوفسكي «كانت لديه حتما بعض المشاعر الموالية للألمان بسبب انحداره منهم». والدببة الثلاثة جميعا مصورة بوصفها كائنات شيطانية، إلا الدب هيني الذي يبدو أقلها شرا. ومع ذلك يبدو أن بوكوفسكي مثلما أوضح كالوني «يدعو إلى عدم التدخل لأن «الدببة’ الثلاثة وسخة الأيدي». ويعترف بوكوفسكي نفسه أن الدببة جميعا «تتقاتل على عصيدة المستعمرة» وهي تتظاهر بأنها تنقذ الديمقراطية.
ومن المثير للاهتمام أن القصة القصيرة الأولى المنشورة لبوكوفسكي في مجلة (القصة) التي كان يصدرها ويت بورنيت قد نشرت سنة 1944 لكن «هذه الحكاية المنقوصة» ـ بحسب وصف بوكوفسكي لها ـ كتبت في عام 1941 باعتبارها ضربا من الحكايات الخرافية وهي بالقطع أشبه في قراءتها بالقصة القصيرة. كان بوكوفسكي واعيا بذلك، فأشار في نهاية الرسالة إلى أن عدد الباكين من أجل الحرب على هتلر يزداد حجما كل يوم. وهذه الحكاية مهداة إليهم ومكتوبة في هذا القالب الطفولي لأنهم إن بلغوا من الحماقة مبلغ الوقوع في الخدعة نفسها مرتين، فمن المؤكد أنهم بسطاء العقول بحيث لا يمكن أن يفهموا أي شيء آخر. ولو أن هذه الرسالة الأولى في لوس آنجلس هيرالد آند إكسبريس المسائية تثبت أي شيء، فهو أن موهبته الكتابية كانت فاعلة آنذاك بالفعل.
أما «سؤال وجواب» فرسالة قصيرة مباشرة يتساءل فيها بوكوفسكي عن تناقضات الحرب موجها اللوم إلى إدارة الولايات المتحدة الأمريكية. وبغرابة يختتم رسالته هذه بقوله إنها «لحالة غريبة يا أصدقائي، أن تأكلوا كعكتكم وتصرون على بقائها لكم في الوقت نفسه». وفي رسالة «ما يثير قلقه» الأخيرة يبدأ بوكوفسكي بقوله «لست قلقا من مجيء هتلر إلى هنا بقدر ما أنا قلق من ذهابنا نحن إلى هناك» وينتقد هنا الرئيس فرانكلين روزفلت لعدم وفائه بوعوده في ما قبل الانتخابات. ودونما تزييف لكلماته فإنه يسوي الأمر بزعمه أن «نقاط السلام الثماني» التي أعلنها روزفلت هي في الحقيقة «ثمانية أسباب للتريث» لأنها قد تتسبب في «حروب في المستقبل» بدلا من أن تحل القضايا الراهنة.
جعلتني طبيعتي المتشككة أعيد قراءة الرسائل مرات، محاولا العثور على حجج داعمة لنظام هتلر. لقد كانت لوس آنجلس إكزامينر ولوس أنجلس هيرالد آند إكسبريس المسائية جريدتين محافظتين في الأربعينيات، وكان كثير من الليبراليين يقاطعونهما. ومثلما قالت لي المؤرخة كاثرين أولمستيد، كانت الصحيفتان «الشعبويتان المغاليتان في الوطنية» بوضوح «ترفضان التدخل في الحرب، وتناهضان [الخطة الاقتصادية التي عرفت بـ] ’الصفقة الجديدة’، وتناهضان فرانكلين روزفلت. لم يكن بوكوفسكي مرغما على التعبير عن رؤاه بطريقة متخفية، فقد كانت لديه الفرصة لقول ما يراه فعليا، وهذه الرسائل تعكس ذلك. ما كان لموقفه الرافض للتدخل [في الحرب] أن يكون أكثر بلاغة. لقد كان بوكوفسكي «رافضا للحرب ولا يقف حقا في صف أي جانب فيها. كان مواليا لألمانيا ثقافيا، لكنه بصفة أساسية كان مناهضا للحرب» وهذا ما خلص إليه كالوني. ووافقه الشاعر إس آيه جريفين كلَّ الموافقة في رأيه إذ قال إن «بوكوفسكي يمكن بلا شك أن يكون منقسم الولاءات بين أمريكا وألمانيا» موضحا أن بوكوفسكي «كان بوضوح منتبها ومهموما بعمق. كان يجهر بالحديث عن بناء الإمبراطورية واستمرار الحضارة الغربية». وبرغم اتهامه بالولاء للنازية، فإن روابط بوكوفسكي بألمانيا لم تجعل منه نصيرا لهتلر.
والحق أن كاتب السيرة نيلي تشيركوفسكي قد أشار إلى أنه «تظاهر بالموالاة للنازية قبل أن تبدأ الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يكن غير تظاهر وسط أصدقائه. وهو يقينا لم يكن يؤمن بأي من الكلام اليميني الذي صدر قبل الحرب وخلالها وبعدها. لم تكن في جسمه عظمة واحدة معادية للسامية». وليس ذلك فحسب، فالكاتب جيف ويدل أنكر تماما أي ميول نازية في هذه الرسائل: «إنه لا يقر هتلر أو الفاشية أو الإبادة الجماعية، وذلك ما أعتقد أن بعض المغالين في كراهية بوكوفسكي قد يريدون إلصاقه به». وذلك ما ينطبق على تعاطف بوكوفسكي مع النازية.
وهذا ما يوافق عليه المؤرخون. فلم تعثر أولمستد أو ناسو على أي تلميح للنازية في هذه الرسائل، ورأيا أن انعزالية بوكوفسكي لم تكن راديكالية أصلا في ذلك الوقت. قالت أولمستيد إن الرسائل تتسق مع «سياسة هيرست التحريرية العامة. وأغلب قراء هيرست يألفون تماما مثل هذه المشاعر» في حين انتهى ناسو إلى أن الرسائل لم تكن «مناصرة للنازية ولكنها ببساطة رافضة للتدخل في الحرب، ومناهضة لبريطانيا...لم يكن لنا شأن بخوض حرب تجري في أوروبا، لإنقاذ الإمبراطورية البريطانية. وخوض تلك الحرب، سواء بمناصرة البريطانيين أو بدخول الحرب مباشرة، ما كان لينجح إلا في تخريب الاقتصاد. فالرسائل ببساطة رفض للحرب». وبوكوفسكي كانت نتاج ثقافة أمريكية أعرب فيها ملايين من أبناء بلده الأمريكيين صراحة عن مناصرتهم للانعزالية في ما يتعلق بالحرب. بالقطع لم يكن ذلك موقفا تفرَّد به، وبخاصة لأن أهوال الحرب العالمية الأولى كانت لا تزال حية في الذات العالمية. «ما قاله بوكوفسكي في هذه الرسائل» حسبما ذهبت أولمستيد «لا يعد متطرفا في زمنه. فثمة فارق هائل بين القول بأن الولايات المتحدة لا يجب أن تدخل الحرب وبين القول بأن النازيين على حق».
ولا عجب أن بوكوفسكي ـ الكائن دائم الأسطرة لنفسه ـ قد غالى في رؤاه بعد خمسة عقود في قصيدة «ما الذي سيخطر للجيران؟» برغم فرصة جيدة لأن يكون قد كتب هذه الرسائل في عام 1941 لكي تسمع وتقرأ ـ مثلما فعل في عمله على مدار بقية عمره ـ فموقفه المغاير للسائد كان شائعا للغاية في ما قبل بيرل هاربور. وقوله عن أبويه إنهما «أحمقان وطنيان ضالان» بعد 50 سنة، وتمجيده عدم شيوع معتقداته المفترض في الأربعينيات، أشارا في الاتجاه نفسه: لقد كان يضخم بأثر رجعي رد الفعل العدائي تجاه الرسائل. وبالنسبة لبوكوفسكي الشاب، كان إزعاج أبويه ملحا عليه إلحاح الدافع القسري إلى الكتابة. أما بوكوفسكي الكبير فكان فقط شديد السعادة بإضفاء بعد خيالي على مآثر شبابه.
وما لم يظهر في المزيد من الرسائل دليل قوي على التزام بوكوفسكي بقضية النازية، فإن كل المزاعم في هذا الصدد لم تعد ذات مصداقية ويجب الصمت عنها تماما. وبعد سنين من البحث، ومراجعتي لنفسي ولكل شخص آخر في هذه المسألة، لم أملك إلا الظن بأن بوكوفسكي كان أذكى الجميع. ففي حين أخذ الجميع كلماته وكأنها منحوتة في الحجر، إما لتأليهه أو لإبداء الرعب منه، كان هو ببساطة يقضي وقتا لطيفا، غير مثقل بكل هذه الضجة. وأقصى ما في الأمر أنه كان مستمتعا تماما بسلسال الحيرة الذي أحدثه في المقام الأول بزعمه أنه تظاهر بالنازية في سنوات الكلية. في أشرطة بليزنتس، يمكنك أن تسمعوه وهو يضحك صاخبا بينما يتكلم عن طلعته النازية. كان يسخر من نفسه، عسى ألا يأخذه أحد مأخذ الجد.
وقد حان الوقت.