عاشت «الفنون القولية» ردحًا طويلًا من الزمن على هامش الثقافة الرسمية، باعتبارها فنونًا من الدرجة الثانية أحيانًا، وباعتبارها تعبيرًا عن أشواق الطبقات الدنيا في سلّم الحضارة أحيانًا أخرى، لكن بمرور الزمن تصدرت «الفنون القولية» المشهد، أو لنَقُل قفزت من دونيتها لتقترب من المشهد الثقافي الرسمي في كثير من دول العالم، وبدأ الاهتمام بها بحثًا ودراسة، وتشجيعًا لممثليها وأبنائها والمنتمين إليها. وبمرور الوقت اتسع حضور «الفنون القولية» ليصبح جزءًا رئيسًا من المشهد الإبداعي العربي، لتقام لها المسابقات، وتُعلَن لها الجوائز، ويُقبِل عليها جمهور كبير يفوق في أحايينَ كثيرةٍ ذلك الجمهور الذي يتعاطى الفنونَ الأخرى، وهو ما يكشف عن قدرة الفنون القولية على التأثير في المتلقي، وتفاعلِه معها.
وتنحو هذه القراءة نحو بحث الأسباب التي أدت إلى صعود «الفنون القولية» وحضورها، وإلى أسباب قدرتها على التأثير في المتلقي، لكن قبْل ذلك يجدر بنا في تصوري أن نتعرف ماهية تلك الفنون وطبيعتها ونشأتها، وفضِّ الاشتباك بين مفاهيم الأدب الشعبي والثقافة الشعبية.
(الفنون القولية)
الفنون القولية فرعٌ مِن فروع الأدب الشعبي الذي ينتمي إلى ما يُطلَق عليه «الثقافة الشعبية»، وعندما نستدعي مفهوم «الأدب الشعبي» فإننا نعني كل الفنون القولية الصادرة عن الجماعة الشعبية، بمعنى أنه الأدب المعتمِد على الكلمة دون غيرها؛ فهو لا يضم الرقصاتِ الشعبية ولا الألعابَ الجماعية؛ وإنما يقتصر على الأمثال الشعبية، وأغاني المناسبات، والحكايا والحواديت، والأساطير والنكات، والمدائح أو الابتهالات الدينية، والمواويل والمربّعات والنميم، والعدّودة (فن البكاء). وتنتمي الفنون القولية في نشأتها الأولى إلى ما يمكن أن نطلِق عليه «الأدب الشفاهي»، وهو ذلك الفن الذي كان يُنشَد أو يُقال شَفاهة، أو روايةً، ولم يكن يُشترَط في قائلِه -فردًا كان أو جماعة- أن يكون متعلمًا أو مُثقفًا أو قادرًا على الكتابة والتدوين.
ومِن المتواضَع عليه بين العلماء والباحثين والدارسين في الفولكلور أو الثقافة الشعبية أن الإنسانَ القديم- قَبل معرفة الكتابة- كان قادرًا على القول والإنشاد، ليُسلِّى نفسه أو يُعزيها، أو ليأتنِس بما يقول. وقد ذاعت وانتشرت مصطلحاتٌ ومفاهيمُ كثيرة ومختلفة لهذا النوع من الفن، مِن قبيل الأدب الشفاهي، والأدب الشائع، والأدب غير المكتوب، والفن القولي. وإذا كان كثير من المهتمين بالشأن الفولكلوري يعتبرونه مصطلحًا شامِلًا وعامًّا وجامِعًا لكل المواد الفنية أو المعتقدات والتصورات الشعبية، فإنّ نفرًا مِن «الأنثروبولوجيين» يميلون إلى قَصْر مفهوم الفولكلور على المواد المعتمِدة على الكلمة فحسب؛ بل إنهم يذهبون إلى اعتبار أن الفولكلور مهتم بالأساس بدراسة الأدب الشفاهي المرتبِط عادةً بالكتابة دون غيره من الفنون الأخرى. والحقُّ أنها نظرةٌ ضيقة وقاصِرة؛ لأن الحقيقة أن الإنسانَ القديم- وكثيرًا من الشعوب البدائية غير المتعلِّمة- كان له أشكالٌ كثيرة ومختلفة من الفنون الشعبية كالحكايات والأمثال، والأساطير، شِعرًا كان ذلك أم نثرًا، وهي مواد غير مكتوبة لكنها مُصَاغة في شكلٍ يلائم عملية الانتقال الشفاهي، ويعتمد حِفظُها لا على الكتابة والتدوين، بل على قوَى الذاكرة الجمعية التي تتمتع بها تلك الشعوب. وكان الأدب الشفاهي يتمثل في تلك الأماكن التي عاش أو يعيش فيها أناسٌ لم يَعرفوا الكتابة. وتخضع عملية تناقُلِ المأثور الشفاهي لقواعدَ محددةٍ أحيانًا، ولكنها قد تكون عشوائية في الأغلب. ولعل الاهتمامَ بالأدب الشفاهي تحديدًا جاء مواكبًا لعملية الاهتمام بالثقافة الشعبية.
وقد ظل الفولكلور المصري- كمثال- بمفهوم الثقافة الشعبية- فترةً طويلة لا يَلتفِت إليه أحد، وظَل الاهتمام مُنصبًّا على الثقافة المكتوبة والمدوَّنة، لا سيما وأن الكتابة ظلت إلى عقودٍ طويلة قاصرة على نَفرٍ من رجال الدين والمتعلمين الذين كانوا يَنظرون إلى تلك الثقافة الشعبية نظرة دونية، إلى أن نهض علماءُ أجانب بدراسة تقاليد الشعب المصري وعاداته في القرن التاسع عشر (أمثال ثنكلر الألماني، والإنجليزي لين، والفرنسي الشهير ماسبيرو، ولعل كتاب وصف مصر الذي وضعه الفرنسيون خير مثالٍ على ذلك).
الأمر الذي ساعد بعد ذلك على شيوع كل أنواع الثقافة الشعبية، وشيئًا فشيئًا عادت الفنون القولية قوية ومعبِّرة عن أشواق طوائفَ كثيرةٍ ومتعددة من أبناء الشعب المصري.
جماليات الفنون القولية وأسباب حضورها
لا أحد يستطيع أن ينكر الحضور القوي والطاغي للفنون القولية وتأثيرها على ذائقة المتلقي، وتنفرد الفنون القولية دون غيرها بقدرتها على التأثير في كل طوائف المتلقين، سواءٌ أكانوا مثقفين، أم متعلمين فقط، أم أنصاف متعلمين، أم غير متعلمين.. حتى العامة والدهماء من الناس يمكن لهم بيُسرٍ وسهولة أن يلتفتوا إلى جماليات تلك الفنون معلِنين عن تأثرهم بها، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نجده في شعر الفصحى مثلًا الذي يقتصر تأثيره على الملِمّين بالعربية وآدابها، وكذلك الأمر في السرد بنوعيه القصصي والروائي، بل إن قصيدة العامية نفسها لا تحظى بما تحظى به الفنون القولية المنتمية للأدب الشعبي، ويمكن إرجاع ذلك إلى أسباب داخلية متعلقة ببنية الفنون القولية نفسها، وأسبابٍ أخرى خارجية متعلقة بنشأة تلك الفنون ودلالاتها في الذاكرة الجمعية.
فمِن الأسباب المتعلقة ببنية الفنون القولية، سنلاحظ أنها تتميز عن سائر الفنون بقصر جُمَلها، واختزال عباراتها، وتكثيف دلالاتها، ويمكن أن نجد ذلك واضحًا في الموال الشعبي، أو المربّع، أو النميم، بل يمكننا ملاحظته بسهولة في المَثَل الشعبي، أضِف إلى ذلك ما تتضمنه الفنون القولية من آلياتٍ تطريبية، ووسائطَ موسيقيةٍ كان لها الأثر الأكبر في بقائها وتوارثها جيلًا إثرَ جيل، هذا فضلًا عن قدرة هؤلاء الذين أنتجوا- أو يُنتِجون- تلك الفنون على سبْكِ الصياغة، وعبقرية التعبير، وإرسال الحكمة البالغة، وهو الأمر الذي احتل مساحةً عريضة من وجدان العرب الذين يميلون بطبعِهم إلى الفن أو الطرب أو الحكمة الموجزة، أو المَثَل السائر. ولم يكُ غريبًا أن تنهض عمليات الجَمْع والتصنيف والتحليل لكل أنواع الأدب الشفاهي في الآونة الأخيرة بعد اكتشاف كنوزِها وقدرتِها على إشباع كثير من الرغبات والأشواق الإنسانية؛ خاصةً أن تلك الفنون حفلت بالكثير والكثير من مراعاة مقتضيات الأحوال، ومشاعرِ وأحاسيس المُنشِد والمتلقي معًا.
أمّا الأسباب الأخرى الخارجية، فلعلها الأهم والأخطر، وهي أسباب لا تكاد تكون واضحة للمتلقي وربما لمبدع الفنون القولية نفسه، لكنه يستشعرها في لا وعيه، فهي قارّةٌ في وجدانِه، مستقرة في عقله، لا دليل عليها ولا أثر إلا تجلّيها الأخير في تأثره به. وهذه الأسباب يمكن معرفتها بمعرفة بدء الاهتمام وتاريخه القديم بالثقافة الشعبية والأدب الشعبي، لنكتشف أن الاهتمام بالثقافة الشعبية ارتبط -ولعلّه ما يزال- بالهوية، وتَزايدِ الشعور بالقومية. ولم يكن الأمر كما قد يتصور البعض مجرد رغبةٍ في إنشاء القول، أو البحث عن فنٍ جديد. إذ بدأ الاهتمام بحركة جمْع التراث الشعبي في «إنجلترا» بتأسيس جمعية الفولكلور 1878 وشهدت محاولاتٍ جادةً ودؤوبة لاستكشاف آداب الشعوب وعاداتها وأخلاقياتها وعقائدها، وكذا مجالات الأساطير والشعوذة وقصص البطولة. وقد أبلى علماءُ ودارِسون إنجليز بلاءً حَسنًا في التأصيل والتأسيس لهذا العِلم آنذاك( ). وقبْل ذلك بقليل، كانت قد انتشرت في أوروبا رغبةٌ عارِمة للميْل إلى الأغاني الشعبية والأساطير، والقصص والحكايات في السويد والنرويج وكثيرٍ من بلاد شرق أوروبا، لكن الدارس لا يستطيع أن يغفل الجهود الألمانية في هذا الميدان؛ بدءًا مما قام به «تاسيتوس جيرمانيكوس» الذي كَتب عن العادات والتقاليد الجرمانية القديمة.
وكان للأخويْن «جريم» فضلٌ كبير في تجميع كثير من المأثورات الشعبية، واتسمت أعمالهما، وأعمال مَن سبقوهما، بروحٍ رومانسية سادت عصرهم، «مما دفعهم للدعوة إلى المحافظة على كل شيء يتميز بطابع ألماني، خاصة أن نابليون كان يهدد ألمانيا آنذاك. ولقد بَلغ التطرف عند بعض المفكرين الألمان حدًّا جعلهم يتعصبون لكل ما هو ألماني قديم (ينظر في ذلك لكتاب «من مأثوراتنا الشعبية» د. أحمد علي مرسي) وبدا واضحًا أن أوروبا تسعى حثيثًا- وقتَها- لتكوّن دولًا حديثة، وبدأ الشعور يزداد بالقوميات ليزداد الاهتمام بحياةِ الطبقات الشعبية.
فالدراسات الفولكلورية في «فنلندا»- على سبيل المثال- كانت ردّ فعلٍ لسيطرة «السويد وروسيا» عليها؛ مما دفَع الفنلنديين إلى إكبار الشعور بالوطنية، واستطاعت الطبقة الوسطى في أوروبا أن تُعَبئ الفلاحين والعامة، وأن تثير فيهم نزعاتِ الحرية والعدل والمساواة، وبدؤوا يتحدثون عن فنون الشعب وعاداته وتقاليده. كل ذلك في اتجاه بَعْث القوميات التي تمتاز بثرائها وتراثها الفني. ويمكن لنا أن نلاحِظ أن كثيرًا من الدراسات الفولكلورية التي ظهرت بآخرةٍ من الوقت من تاريخ العالم استطاعت أن تعيد الروح إلى لغاتٍ ولهجات قومية كادت أن تندثر، بل إنّ كثيرًا من مَظاهر الفن والنهضة تأسست على تراثٍ عريق من الألحان والأغاني الفولكلورية القديمة، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا مثلًا.
وهكذا، كان للعامل القومي دورٌ أساسي في نشأة الاهتمام بالمأثورات الشعبية ودراستِها على أساسٍ عِلمي، وقد استطاعت دول أوروبية كثيرة، كروسيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها، أن تستثمر وجدانها القومي ومشاعرها في إذكاء روح الاهتمام بخصوصياتها الثقافية والفنية القديمة. وإذا كان الكلام ذا شجون كما يقولون، فإننا يمكن هنا أن نتذكر أنه إذا كانت الدواعي القومية عاملًا مُحفزًا لأوروبا للاهتمام بالمأثورات الشعبية، إلا أنها كانت على النقيض في دول عربية، ونها مصر منذ سنين بعيدة؛ حيث إن «الفكرة القومية العربية كانت تقف معاكسة لمثل هذه الدراسات؛ على اعتبار أنها دراسات تدعو إلى الاهتمام بالعاميات، ومِن ثَمَّ فهي دعوة إقليمية، وقفَ ضدها علماء اللغة التقليديون والأدباء الرسميون» وهو ما أشار إليه باستفاضة د. أحمد علي مرسي.
وللأسف الشديد كان الموقف الثقافي الرسمي للثقافة العربية محمّلا بالأيدولوجيا والتوجه النخبوي للوقوف ضد الأدب الشعبي باعتباره دائمًا يهدد العربية الفصحى، وباعتباره خطرًا يجب مواجهته، الأمر الذي أخّر كثيرا رد الاعتبار للقيمة الحضارية التي يمثلها الأدب الشعبي. ورغم كل ذلك، فقد استطاعت الأفكارُ الرومانسية، وأحلام الديمقراطية، وأشواق البحث العلمي أن تتغلب على تلك النظرة، ونهضت حركة عِلمية مخلِصة للاهتمام بهذا النوع من الدراسات في مصر، شارك فيها لفيفٌ من أساتذة الجامعات والباحثين كالدكتور عبد العزيز الأهواني، والدكتور عبد الحميد يونس، والدكتورة سهير القلماوي، والأستاذ أحمد رشدي صالح وآخرين. وبدا الأمر في أولِه عسيرًا بعض الشيء في تحديد مصطلح الفولكلور في ثقافتنا، وحاول الكثيرون تحديد الاصطلاح والمعنى والمادة، إلى أن أصبحت الثقافة الشعبية هي الترجمة الدقيقة للمصطلح.
والحق أننا مَدينون إلى هؤلاء النفر الذين استطاعوا ردّ الاعتبار إلى الأدب الشعبي، بل الثقافة الشعبية برمّتِها؛ لتصبح النظرةُ إليهما، لا باعتبارهما جزءًا من الماضي، ولا باعتبارهما نتاجاتٍ غير واعيةٍ، بل باعتبارهما أدبًا حقيقيًّا جديرًا بالاهتمام والبحث والدراسة.
وتنحو هذه القراءة نحو بحث الأسباب التي أدت إلى صعود «الفنون القولية» وحضورها، وإلى أسباب قدرتها على التأثير في المتلقي، لكن قبْل ذلك يجدر بنا في تصوري أن نتعرف ماهية تلك الفنون وطبيعتها ونشأتها، وفضِّ الاشتباك بين مفاهيم الأدب الشعبي والثقافة الشعبية.
(الفنون القولية)
الفنون القولية فرعٌ مِن فروع الأدب الشعبي الذي ينتمي إلى ما يُطلَق عليه «الثقافة الشعبية»، وعندما نستدعي مفهوم «الأدب الشعبي» فإننا نعني كل الفنون القولية الصادرة عن الجماعة الشعبية، بمعنى أنه الأدب المعتمِد على الكلمة دون غيرها؛ فهو لا يضم الرقصاتِ الشعبية ولا الألعابَ الجماعية؛ وإنما يقتصر على الأمثال الشعبية، وأغاني المناسبات، والحكايا والحواديت، والأساطير والنكات، والمدائح أو الابتهالات الدينية، والمواويل والمربّعات والنميم، والعدّودة (فن البكاء). وتنتمي الفنون القولية في نشأتها الأولى إلى ما يمكن أن نطلِق عليه «الأدب الشفاهي»، وهو ذلك الفن الذي كان يُنشَد أو يُقال شَفاهة، أو روايةً، ولم يكن يُشترَط في قائلِه -فردًا كان أو جماعة- أن يكون متعلمًا أو مُثقفًا أو قادرًا على الكتابة والتدوين.
ومِن المتواضَع عليه بين العلماء والباحثين والدارسين في الفولكلور أو الثقافة الشعبية أن الإنسانَ القديم- قَبل معرفة الكتابة- كان قادرًا على القول والإنشاد، ليُسلِّى نفسه أو يُعزيها، أو ليأتنِس بما يقول. وقد ذاعت وانتشرت مصطلحاتٌ ومفاهيمُ كثيرة ومختلفة لهذا النوع من الفن، مِن قبيل الأدب الشفاهي، والأدب الشائع، والأدب غير المكتوب، والفن القولي. وإذا كان كثير من المهتمين بالشأن الفولكلوري يعتبرونه مصطلحًا شامِلًا وعامًّا وجامِعًا لكل المواد الفنية أو المعتقدات والتصورات الشعبية، فإنّ نفرًا مِن «الأنثروبولوجيين» يميلون إلى قَصْر مفهوم الفولكلور على المواد المعتمِدة على الكلمة فحسب؛ بل إنهم يذهبون إلى اعتبار أن الفولكلور مهتم بالأساس بدراسة الأدب الشفاهي المرتبِط عادةً بالكتابة دون غيره من الفنون الأخرى. والحقُّ أنها نظرةٌ ضيقة وقاصِرة؛ لأن الحقيقة أن الإنسانَ القديم- وكثيرًا من الشعوب البدائية غير المتعلِّمة- كان له أشكالٌ كثيرة ومختلفة من الفنون الشعبية كالحكايات والأمثال، والأساطير، شِعرًا كان ذلك أم نثرًا، وهي مواد غير مكتوبة لكنها مُصَاغة في شكلٍ يلائم عملية الانتقال الشفاهي، ويعتمد حِفظُها لا على الكتابة والتدوين، بل على قوَى الذاكرة الجمعية التي تتمتع بها تلك الشعوب. وكان الأدب الشفاهي يتمثل في تلك الأماكن التي عاش أو يعيش فيها أناسٌ لم يَعرفوا الكتابة. وتخضع عملية تناقُلِ المأثور الشفاهي لقواعدَ محددةٍ أحيانًا، ولكنها قد تكون عشوائية في الأغلب. ولعل الاهتمامَ بالأدب الشفاهي تحديدًا جاء مواكبًا لعملية الاهتمام بالثقافة الشعبية.
وقد ظل الفولكلور المصري- كمثال- بمفهوم الثقافة الشعبية- فترةً طويلة لا يَلتفِت إليه أحد، وظَل الاهتمام مُنصبًّا على الثقافة المكتوبة والمدوَّنة، لا سيما وأن الكتابة ظلت إلى عقودٍ طويلة قاصرة على نَفرٍ من رجال الدين والمتعلمين الذين كانوا يَنظرون إلى تلك الثقافة الشعبية نظرة دونية، إلى أن نهض علماءُ أجانب بدراسة تقاليد الشعب المصري وعاداته في القرن التاسع عشر (أمثال ثنكلر الألماني، والإنجليزي لين، والفرنسي الشهير ماسبيرو، ولعل كتاب وصف مصر الذي وضعه الفرنسيون خير مثالٍ على ذلك).
الأمر الذي ساعد بعد ذلك على شيوع كل أنواع الثقافة الشعبية، وشيئًا فشيئًا عادت الفنون القولية قوية ومعبِّرة عن أشواق طوائفَ كثيرةٍ ومتعددة من أبناء الشعب المصري.
جماليات الفنون القولية وأسباب حضورها
لا أحد يستطيع أن ينكر الحضور القوي والطاغي للفنون القولية وتأثيرها على ذائقة المتلقي، وتنفرد الفنون القولية دون غيرها بقدرتها على التأثير في كل طوائف المتلقين، سواءٌ أكانوا مثقفين، أم متعلمين فقط، أم أنصاف متعلمين، أم غير متعلمين.. حتى العامة والدهماء من الناس يمكن لهم بيُسرٍ وسهولة أن يلتفتوا إلى جماليات تلك الفنون معلِنين عن تأثرهم بها، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نجده في شعر الفصحى مثلًا الذي يقتصر تأثيره على الملِمّين بالعربية وآدابها، وكذلك الأمر في السرد بنوعيه القصصي والروائي، بل إن قصيدة العامية نفسها لا تحظى بما تحظى به الفنون القولية المنتمية للأدب الشعبي، ويمكن إرجاع ذلك إلى أسباب داخلية متعلقة ببنية الفنون القولية نفسها، وأسبابٍ أخرى خارجية متعلقة بنشأة تلك الفنون ودلالاتها في الذاكرة الجمعية.
فمِن الأسباب المتعلقة ببنية الفنون القولية، سنلاحظ أنها تتميز عن سائر الفنون بقصر جُمَلها، واختزال عباراتها، وتكثيف دلالاتها، ويمكن أن نجد ذلك واضحًا في الموال الشعبي، أو المربّع، أو النميم، بل يمكننا ملاحظته بسهولة في المَثَل الشعبي، أضِف إلى ذلك ما تتضمنه الفنون القولية من آلياتٍ تطريبية، ووسائطَ موسيقيةٍ كان لها الأثر الأكبر في بقائها وتوارثها جيلًا إثرَ جيل، هذا فضلًا عن قدرة هؤلاء الذين أنتجوا- أو يُنتِجون- تلك الفنون على سبْكِ الصياغة، وعبقرية التعبير، وإرسال الحكمة البالغة، وهو الأمر الذي احتل مساحةً عريضة من وجدان العرب الذين يميلون بطبعِهم إلى الفن أو الطرب أو الحكمة الموجزة، أو المَثَل السائر. ولم يكُ غريبًا أن تنهض عمليات الجَمْع والتصنيف والتحليل لكل أنواع الأدب الشفاهي في الآونة الأخيرة بعد اكتشاف كنوزِها وقدرتِها على إشباع كثير من الرغبات والأشواق الإنسانية؛ خاصةً أن تلك الفنون حفلت بالكثير والكثير من مراعاة مقتضيات الأحوال، ومشاعرِ وأحاسيس المُنشِد والمتلقي معًا.
أمّا الأسباب الأخرى الخارجية، فلعلها الأهم والأخطر، وهي أسباب لا تكاد تكون واضحة للمتلقي وربما لمبدع الفنون القولية نفسه، لكنه يستشعرها في لا وعيه، فهي قارّةٌ في وجدانِه، مستقرة في عقله، لا دليل عليها ولا أثر إلا تجلّيها الأخير في تأثره به. وهذه الأسباب يمكن معرفتها بمعرفة بدء الاهتمام وتاريخه القديم بالثقافة الشعبية والأدب الشعبي، لنكتشف أن الاهتمام بالثقافة الشعبية ارتبط -ولعلّه ما يزال- بالهوية، وتَزايدِ الشعور بالقومية. ولم يكن الأمر كما قد يتصور البعض مجرد رغبةٍ في إنشاء القول، أو البحث عن فنٍ جديد. إذ بدأ الاهتمام بحركة جمْع التراث الشعبي في «إنجلترا» بتأسيس جمعية الفولكلور 1878 وشهدت محاولاتٍ جادةً ودؤوبة لاستكشاف آداب الشعوب وعاداتها وأخلاقياتها وعقائدها، وكذا مجالات الأساطير والشعوذة وقصص البطولة. وقد أبلى علماءُ ودارِسون إنجليز بلاءً حَسنًا في التأصيل والتأسيس لهذا العِلم آنذاك( ). وقبْل ذلك بقليل، كانت قد انتشرت في أوروبا رغبةٌ عارِمة للميْل إلى الأغاني الشعبية والأساطير، والقصص والحكايات في السويد والنرويج وكثيرٍ من بلاد شرق أوروبا، لكن الدارس لا يستطيع أن يغفل الجهود الألمانية في هذا الميدان؛ بدءًا مما قام به «تاسيتوس جيرمانيكوس» الذي كَتب عن العادات والتقاليد الجرمانية القديمة.
وكان للأخويْن «جريم» فضلٌ كبير في تجميع كثير من المأثورات الشعبية، واتسمت أعمالهما، وأعمال مَن سبقوهما، بروحٍ رومانسية سادت عصرهم، «مما دفعهم للدعوة إلى المحافظة على كل شيء يتميز بطابع ألماني، خاصة أن نابليون كان يهدد ألمانيا آنذاك. ولقد بَلغ التطرف عند بعض المفكرين الألمان حدًّا جعلهم يتعصبون لكل ما هو ألماني قديم (ينظر في ذلك لكتاب «من مأثوراتنا الشعبية» د. أحمد علي مرسي) وبدا واضحًا أن أوروبا تسعى حثيثًا- وقتَها- لتكوّن دولًا حديثة، وبدأ الشعور يزداد بالقوميات ليزداد الاهتمام بحياةِ الطبقات الشعبية.
فالدراسات الفولكلورية في «فنلندا»- على سبيل المثال- كانت ردّ فعلٍ لسيطرة «السويد وروسيا» عليها؛ مما دفَع الفنلنديين إلى إكبار الشعور بالوطنية، واستطاعت الطبقة الوسطى في أوروبا أن تُعَبئ الفلاحين والعامة، وأن تثير فيهم نزعاتِ الحرية والعدل والمساواة، وبدؤوا يتحدثون عن فنون الشعب وعاداته وتقاليده. كل ذلك في اتجاه بَعْث القوميات التي تمتاز بثرائها وتراثها الفني. ويمكن لنا أن نلاحِظ أن كثيرًا من الدراسات الفولكلورية التي ظهرت بآخرةٍ من الوقت من تاريخ العالم استطاعت أن تعيد الروح إلى لغاتٍ ولهجات قومية كادت أن تندثر، بل إنّ كثيرًا من مَظاهر الفن والنهضة تأسست على تراثٍ عريق من الألحان والأغاني الفولكلورية القديمة، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا مثلًا.
وهكذا، كان للعامل القومي دورٌ أساسي في نشأة الاهتمام بالمأثورات الشعبية ودراستِها على أساسٍ عِلمي، وقد استطاعت دول أوروبية كثيرة، كروسيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها، أن تستثمر وجدانها القومي ومشاعرها في إذكاء روح الاهتمام بخصوصياتها الثقافية والفنية القديمة. وإذا كان الكلام ذا شجون كما يقولون، فإننا يمكن هنا أن نتذكر أنه إذا كانت الدواعي القومية عاملًا مُحفزًا لأوروبا للاهتمام بالمأثورات الشعبية، إلا أنها كانت على النقيض في دول عربية، ونها مصر منذ سنين بعيدة؛ حيث إن «الفكرة القومية العربية كانت تقف معاكسة لمثل هذه الدراسات؛ على اعتبار أنها دراسات تدعو إلى الاهتمام بالعاميات، ومِن ثَمَّ فهي دعوة إقليمية، وقفَ ضدها علماء اللغة التقليديون والأدباء الرسميون» وهو ما أشار إليه باستفاضة د. أحمد علي مرسي.
وللأسف الشديد كان الموقف الثقافي الرسمي للثقافة العربية محمّلا بالأيدولوجيا والتوجه النخبوي للوقوف ضد الأدب الشعبي باعتباره دائمًا يهدد العربية الفصحى، وباعتباره خطرًا يجب مواجهته، الأمر الذي أخّر كثيرا رد الاعتبار للقيمة الحضارية التي يمثلها الأدب الشعبي. ورغم كل ذلك، فقد استطاعت الأفكارُ الرومانسية، وأحلام الديمقراطية، وأشواق البحث العلمي أن تتغلب على تلك النظرة، ونهضت حركة عِلمية مخلِصة للاهتمام بهذا النوع من الدراسات في مصر، شارك فيها لفيفٌ من أساتذة الجامعات والباحثين كالدكتور عبد العزيز الأهواني، والدكتور عبد الحميد يونس، والدكتورة سهير القلماوي، والأستاذ أحمد رشدي صالح وآخرين. وبدا الأمر في أولِه عسيرًا بعض الشيء في تحديد مصطلح الفولكلور في ثقافتنا، وحاول الكثيرون تحديد الاصطلاح والمعنى والمادة، إلى أن أصبحت الثقافة الشعبية هي الترجمة الدقيقة للمصطلح.
والحق أننا مَدينون إلى هؤلاء النفر الذين استطاعوا ردّ الاعتبار إلى الأدب الشعبي، بل الثقافة الشعبية برمّتِها؛ لتصبح النظرةُ إليهما، لا باعتبارهما جزءًا من الماضي، ولا باعتبارهما نتاجاتٍ غير واعيةٍ، بل باعتبارهما أدبًا حقيقيًّا جديرًا بالاهتمام والبحث والدراسة.