عندما بدأتُ طريقي في الكتابة، اعتقدتُ، عن غفلة وسذاجة، أنني سأكون كاتبة قصص قصيرة تقليدية، ولو لم أعبّر على هذا النحو. مع تطوّر كتابتي، أخذتُ أنزاحُ عن هذا الشَكل، أبعد ثم أبعد مع مرور السنوات، لكنّي أعود إلى زيارته بين الحين والآخر لأنه شكل راسخ ويُعتَمد عليه. أحد الأمثلة على هذه العودة إلى شكل أكثر تقليدية، قصة بعنوان «النُزهة»، كُتِبَت قبل نحو اثنتي عشرة سنة.
تدورُ «النزهة» في أوكسفورد، إنجلترا، خلال وبُعَيد مؤتمر أدبي حولَ الترجمة – يشكّل هذا الموضوع مادة كتابة نموذجية ومقبولة للغاية من أجل قصة قصيرة تليق بالنشر في النيويوركر على سبيل المثال. الشخصيتان الرئيسيتان هُما مترجِمة، مُستمدّة مِن شخصيتي، وناقد، مُركَّب مِن أكثر من شخص أعرفه. معظم الأحداث قائمة على وقائع حقيقية جرت خلال مؤتمر ترجمة حقيقي في أوكسفورد، وبعض العناصر فيها خيالية تمامًا. (حدثت نقطة تحوّل في تطوري ككاتبة عندما أدركتُ أنَّ بوسعي، بكل الارتياح والرضا، أن أكتب قصصًا خيالية تروي أحداثًا حقيقية، بدرجة طفيفة للغاية من التمويه.)
الحدث الأساسي في هذه القصة هو ببساطة خروج الشخصيتين الرئيسيتين في نزهة تَمشية. الدراما المركزية – ليست درامية للغاية – هي إدراكُ الراوية بأنَّ ثمة تشابُه بين نزهتها بصحبة الناقد وفقرة من ترجمتها لكتاب [مارسيل] بروست جانب منازل سوان(1). في لحظةٍ أخرى من القصة، لكنها أشد درامية من الناحية التقليدية، تكاد الراوية أن تتسبب في انطلاق إنذار الحريق في المبنى حيث تقيم. في الواقع، تسببت الشخصية الرئيسية في الموقف الفِعلي – يعني أنا نفسي – في إطلاق إنذار الحريق. لكن لو كنتُ أعدتُ سرد هذه الواقعة كما حدثت بالفعل، مع جميع الطلاب الذي هرعوا إلى الباحة لإخلاء المبنى، وبعضهم خرج بمئزر الحمَّام مبتلَّ الشعر، إلى آخره، وأنا أبدي اعتذارًا وأسفًا عميقين، لذهبتُ بالقصة في الاتجاه الخطأ؛ لأنها كما هي، قصة تنتمي لفئة الثقافة العالية، بل النُخبوية.
كما هو الحال مع جميع القصص على الدوام تقريبًا، لم تُولَد هذه القصة من شيءٍ واحدٍ فحسب بل من عدة أشياء. أولًا، يروق لي بين آونة وأخرى، وكلما سنحت لي الفرصة، أن أعيد إنتاج القصة القصيرة التقليدية، وإن كنتُ أضيف لها غالبًا بعض تنويعاتٍ أقل تقليدية. على نحوٍ ما، كنتُ أحاكي الصوت التقليدي الذي تُروى به مثل هذه القصة، من داخل قناع/ شخصية راوٍ نموذجي مِن نوع بعينه:
تصادفَ وجود مُترجِمة وناقد معًا في مدينة جامعة أوكسفورد الكبيرة، وُجّهت إليهما دعوة في مؤتمر حول الترجمة. شَغلَ المؤتمر يوم سبتٍ كامل، إضافة إلى ذلك المساء الذي تناولا فيه العشاء معًا، وإن لم يكن ذلك بكامل اختيارهما. الآخرون ممن شاركوا في المؤتمر أو حضروه غادروا، حتّى المنظمون. لم يختر سواهما مَدّ الإقامة لليلة ثانية في الحجرتين المحجوزتين لهما في الكلية التي أقيم بها المؤتمر؛ بناية قديمة، قاعاتها مفروشة بسجادٍ متسخ، رائحة عفن في غرف الزوار، وهياكل أسرّة حديدية تُحدث صريرًا.(2)
(في الأصل لم أكن قد أعطيتُ المدينة اسمًا في أي موضع من القصة، لأنني أفضّل عدم تسمية الأماكن بوجهٍ عام، ولكن بعد ذلك، عند التفكير في بضعة أمور منها أنَّ الراوية في القصة تبحث عن البيت الذي عاشَ فيه المحرر الشهير لقاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية، أخذَ هذا يبدو لي تكتُّمًا لا لزوم له.)
ثانيًا، تأثرّت للغاية بالجَمَال المادي لأوكسفورد حينما عاينتُه، وخصوصًا في وقت المساء – جَمَال المباني ذات التصميمات الهندسية المتباينة، في نور آخِر النهار – وعلى هذا أردتُ أن أصفَ المكان. ثالثًا، تواصَلَ اهتمامي لبضع سنين بقصة مُبدِع قاموس أوكسفور للغة الإنجليزية، الذي أنجِزَ هُناك تمامًا. في كتابٍ رائع، بعنوان عالق في شبكة الكلمات، كتبته إليزابيث موراي، حفيدة جيمس موراي، محرر القاموس، تروي فيه كيف عملَ عليه؛ وقد استولت عملية إبداع القاموس على اهتمامي، ليس فقط من باب الاهتمام العام بفقه اللغة، والمراجِع، والأشخاص المهووسين باللغة، ولكن أيضًا بسبب القصة الإنسانية، وحقيقة أنَّ الرجل قد أشرك أبناءه الكثيرين معه في المشروع، مُشتغلين في بيتٍ صغير في باحة منزلهم – وليس أبناءه فقط بل أشخاصًا تبادلَ معهم المراسلات من جميع أنحاء العالَم، ومنهم مجرمون محكومون بالسِجن، كانوا جميعًا يرسلون إليه كلمات والشواهِد التي تضمّ تلك الكلمات. ورابعًا، فقد تأثرتُ إلى حد إصابتي بالإحباط بسبب ملاحظات أحد النقّاد حول ترجمتي لكتاب بروست جانب منازل سوان، وكان مِن الممتع نوعًا ما أن أعبّر عن شيءٍ من ردود أفعالي مُتنكّرة في صورة سردٍ خيالي. وخامسًا، فقد سُررتُ وتسليتُ بالحدث الفعلي للنُزهة، والتي توازَت مع النزهة الموجودة في كتاب بروست المتَرجم أو أحالت إليها، وأردتُ أن أعيد إنتاج ذلك تحديدًا في القصة. وأغلب الظن أنَّ هذه المُصادَفة كانت هي نقطة انطلاق القصة، ما أشعلَ شرارتها.
أوشكتُ أن أقول بأنَّه من البداية كانت ثمّة رغبة بتضمين عنصر لن يُسمَح بدخوله إلى قصة قصيرة تقليدية تمامًا، وكان ذلك هو اقتباس فقرة طويلة من رواية بروست وليس فقط مرة واحدة بل مرتين بترجمتين مختلفتين قد تبدوان لعين القارئ غير المدقق متطابقتين تقريبًا. لكن الحقيقة غير ذلك، فأنا لم أخطط ذلك من البداية؛ فقد حدثَ بينما كنتُ أكتب.
***
ما الذي يدفعُ بقطعةٍ من الكتابة إلى الوجود؟ تدريجيًا، وعبر السنوات، صرتُ أرى التوازي الوثيق بين الدافع للترجمة والدافع لكتابة شيءٍ أصيل: بالضبط كما أريد أن أقبضَ على شيءٍ ما خارج نَفسي في قطعة كتابة أصلية، عندما أترجم شيئًا فإني أريدُ أن أقبضَ عليه أيضًا، في هذه الحالة أن أعيدَ إنتاجه في اللغة الإنجليزية.
كانت كلير كافاناه، مُترجمةِ [الشاعرَين البولنديين] تشيسلاف ميلوش وفيسوافا شيمبورسكا، قد كتبتَ مقالًا حول الترجمة بعنوان «فن الخسارة: الشِعر البولندي والترجمة»، والذي تختمه بالإقرار التالي:
«إنَّ ترجمة الشِعر مَهمةٌ مستحيلة بكل تأكيد: مثل جميع الأشياء الرائعة. لكنَّ الدافع الذي يقود المرء لأن يحاول لا يبتعدُ كثيرًا، على ما أظن، عن تلك القوة التي تُرسلُ الشاعرَ الغنائي، مرارًا وتكرارًا، ليحاول امتلاك العالَم ببضعة أبياتٍ من الشِعر. إنك ترى شيئًا رائعًا أمامَ عينيك، فَترغب فيه. تحاول قراءته مرة بعد مرة، وتجرب حِفْظه في ذاكرتك لو استطعت، أو نَسْخه بيديك سطرًا بعد سطر. ولا شيء من ذلك يفلح؛ إذ لم يزل هناك. وهكذا إن لم يكن هذا النص موجودًا من قبل في اللغة الإنجليزية، فإنك تلجأ إلى الترجمة؛ تجرّب إعادة صُنعه في لغتك أنت، وبكلماتك أنت، يراودك الأمل الباطل بأن تحصل عليه هكذا مرةً وانتهينا، بأن تجعله أخيرًا ملكًا لك. بل إنك تشعر أحيانًا، على الأقل لفترة، ليوم أو يومين أو حتَّى بضعة أسابيع، تشعر بأنك امتلكته وانتهينا، لقد أفلح الأمر، القصيدة قصيدتك. ولكن بعد ذلك قد تلتفت وراءك نحو القصيدة نفسها عند نقطةٍ ما، فيكون عليك أن تخبطَ رأسك بالحائط ضاحكًا: إذ لم تزل هناك.»
قارن هذا بفقرة مِن جانب منازل سوان وفيها يصف بروست كيف كان يبدو الأمر مع مارسيل الشاب إذ يريد أن يأسرَ بالكتابة شيئًا ما يحرّك عاطفته:
«حينئذ، وبعيدًا عن جميع هذه الاهتمامات الأدبية بما لا يرتبط بشيء فيها، كان يستوقفني فجأة سَطحٌ ووهجُ الشمس على حجرٍ ورائحةُ طريق وذلك من جراء لذة خاصة تولدها فيَّ، ولأنها كانت تبدو إلى ذلك وكأنها تخبئ خلف حدود ما أرى شيئًا تدعوني أن أبادر إلى أخذه ولا أستطيع، على الرغم من جهودي، اكتشافه. وبما أني كنت أحس أنَّ ذلك موجود فيها كنت أمكث هنالك لا أبدي حراكًا أتطلع وأستنشق وأحاول أن أذهب بفكري إلى ما وراء الصورة أو الرائحة. فإن انبغى لي اللحاق بجدي أو متابعة طريقي كنت أحاول العودة إليها وأنا أطبق عيني؛ وكنت أسعى إلى أن أتذكر بالضبط خط السطح ولون الحجر وقد بديا لي، دون أن أتمكن من إدراك السبب، مليئين وعلى وشك أن ينشقَّا ويجودا بما كانا محض غطاءٍ له.»
وفي حقيقة الأمر، بينما أنسخُ هذه الفقرة، أرى صِلةً هُنا لم أرها عندما اخترتُ أن أستشهد بها، صِلةً بين أمثلة بروست للسَطح ووهج الشمس على حجر وبين تأثري بالجمال المادي لمدينة أوكسفورد – لأنَّ ذلك كان جزءًا مِن جَمال المدينة بالنسبة لي، كيف تهبط الشمس في السماء نحو الغروب وهي تتوهّج بالدفء، والنور باللون العَسليّ على أسطح المدينة وصخور المباني والشوارع المعبَّدة بالحجارة الصقيلة.
***
تاليًا أريدُ أن أنتقلَ مِن بروست ونوع الاستلهام الأسمى هذا إلى نوعٍ آخَر أسخف. ومع ذلك، وبرغم أنَّ مادة الموضوع أقل سُمُوًا، فإنَّ شعورنا بالدافع يبقى كما هو: هنا أيضًا مادة تطيبُ لك وتفتح شهيتك، مادة تجعلك تريدُ أن تفترسها بطريقة ما. وُلدَت هذه القصة مِن إيميل تلقّيته كان مُرسلًا لمجموعة من الناس. «نانسي براون ستكون في المدينة» حول امرأة تعود إلى حَي سَكني استعدادًا لكي ترحل عن المكان نهائيًا.
ها هي القصة:
نانسي براون ستكون في المدينة
نانسي براون ستكون في المدينة. ستكون في المدينة لكي تبيع أشياءها. نانسي براون سوف تنتقل لمكان بعيد. تريد أن تبيع مَرتبتها بحجم الملكة(3).
هل نريد مرتبتها بحجم الملكة؟ هل نريد مُتَّكـأها العثماني(4)؟ هل نريد أدوات استحمامها؟
حان الوقت لكي نقول وداعًا لنانسي براون.
تمتعنا بصداقتها. تمتعنا بدورسها في التِنِس.
قبلَ أن أُريكم الإيميل الذي ألهمني هذه القصة، فكّرتُ أنه قد يكون ممتعًا أن أستشهد بنسخةٍ أقدم وأن أشرح كيف حررتُها.
نانسي براون
نانسي براون ستكون في المدينة. قيلَ لنا إنَّ نانسي براون ستكون في المدينة. قيل لنا إنَّ نانسي براون تريد أن تبيعَ مَرتبتها. هل نريد أن نشتري مرتبة نانسي براون بحجم الملكة؟ هل نريد متَّكأها العثماني؟ هل نريد أدوات استحمامها؟ ما دامت ستكون في المدينة، فلماذا تبيع أشياءها؟ آه، إنها لم تعد للمدينة إلَّا لتبيع أشياءها. وقريبًا ستغادر مدينتنا من جديد. بلا رجعة. حان الوقت لكي نقول وداعًا لنانسي براون. تمتعنا بدروسها في التِنس. تمتعنا بصداقتها.
أولًا، العنوان: «نانسي براون» لا بأس به. أحببت الاسم، لكن «نانسي براون ستكون في المدينة» ألطف كثيرًا، ولا أجد مشكلة في تكرار العنوان في السطر الأول – ما يحدث كثيرًا في القصائد، وقليلًا للغاية ما يحدث في النثر.
لعلَّك تستطيع أن تلحظ أن النسخة الأسبق أكثر إطنابًا في العموم. بل أكثر إطنابًا ممَّا يلزم. كان عدد كلماتها 106 كلمة (5) (تشمل العنوان) في مقابل 72 كلمة في النسخة النهائية. أنا أحب التكرار، لكنَّ النسخة الأسبق ضمَّت تكرارات لم تدفع القِطعة للأمام كثيرًا. كما ضمَّت أسئلة وأجوبة تأمّلية أمكن تشذيبها في الفقرة الأولى الصغيرة.
كما أنني أزلتُ «الوسيط» الضِمني عندما حذفتُ «قيل لنا...»
الآن، التعديل الأخير هو الأكثر إثارة للاهتمام، بالنسبة إليَّ: غيَّرت – أو فِعليًا، عَكستُ – ترتيب آخر جملتين. فبدلًا مِن « تمتعنا بدرسها في التِنِس. تمتعنا بصداقتها.» صار لديَّ الآن: «تمتعنا بصداقتها. تمتعنا بدورسها في التِنِس.» كان الترتيب الأوّل أكثر «عقلانية» أو تقليدية. من الصحيح غالبًا أنَّ أفكارنا الأولى تنحو منحى تقليديًا، كما لو كان هذا مَيلًا تلقائيًا، ثم مِن بعد ذلك ربما تتخذُ أفكارنا منحى أكثر مغامرة وابتكارًا. في الترتيب الأوَّل المنطقي، وضعتُ الشيءَ الأقل أهمية والأكثر خصوصية «دروس التِنس» أولًا؛ ثم الشيء الأهم والأكثر عمومية «الصداقة» ثانيًا – كما لو كانت الحركة باتجاه الخارج من المُحَدَّد والخاص لأنتهي بملاحظة عامة كما ينبغي. ومع ذلك فالترتيب المعكوس كان أشد إثارة للاهتمام بالنسبة إليَّ حقًا: أولًا الأكثر حميمية والمتوقّع «الصداقة»؛ ثم من بعده الشيء المفاجئ، بل العبثي «دروس التِنس»، بحيث إنَّ القطعة، وهي تتسم بشيءٍ مِن العَبَثية على كل حال، تنتهي بملاحظة عَبثية.
أمَّا عن الإيميل الأصلي، فقد كان سطر الموضوع، بالتأكيد، هو ما استولى على انتباهي: «نانسي براون ستكون في المدينة...» ربما كان المرسِل واعيًا، أو غير واعٍ، بالبلاغة المتحققة عَرضًا مِن الجناس بين اسم براون وكلمة مدينة (town) وما في ذلك مِن سِحْر وجاذبية. ثم بعد ذلك متن الإيميل نفسه:
إلى هؤلاء منكم الذين تمتعوا بدروس تِنِس نانسي براون، وبحصص التمرينات الرياضية، أو بصداقتها، ستكون في المدينة مع نهاية هذا الأسبوع، وستبقى لنحو أسبوع ونصف. وسوف يسعدها أن تراكم وتتواصل معكم.
كما أنها سوف تتخلص من بعض الأغراض التي كانت قد خزّنتها:
مَرتبة بحجم الملكة
فِراش فَرداني بصندوق للمرتبة ونوابض
مائدة على شكل لوح ركوب الأمواج
مقعد مبطّن ومتكّأ عثماني للقدمين
صناديق مطبخ وأدوات استحمام
إلخ.
ما أتاحَ لي أن أرى في هذا الإيميل قطعة كتابة ممكنة، وعبثية قليلًا، كان على الأرجح، أولَّا، سِحر سَطر موضوع الإيميل والإحساس الشِعري الغنائي الذي فيه: “Nancy Brown will be in town” – وثانيًا الطبيعة المُباغِتة للإيميل، بما أنني لم أعرف المدعوَّة نانسي براون. إنني لا أعرف نانسي براون، ومع ذلك فقد جُررتُ هكذا فجأة، بدرجة حميمية، إلى داخل عالَم نانسي براون. ومن جديد، أشياء كثيرة تعتمد على السياق. هُنا، وبما أنني لم أكن أعرفها، كان رد فعلي – كما لو كان هذا الإيميل موجهًا لي بصفة شخصية – أن سألتُ نفسي: لماذا عليَّ أنا أن أكترث إن كانت نانسي براون ستنتقل من مكان إلى آخر، ولماذا قد أريد أنا مرتبة بحجم الملكة تخص نانسي براون؟ قرأت قائمة ممتلكاتها بندًا بعد بند، ولم أجد نفسي مهتمة – ككاتبة – بالفراش الفرداني ذي صندوق المرتبة والنوابض، لكن بعدئذٍ اندهشت وفُتنتُ أمام «العُثماني». أحببت كلمةَ عثماني – التي تذكّرني بالإمبراطورية العثمانية ولها وقعٌ سامقٌ وسامٍ للغاية بالنسبة لقطعة أثاث. لذلك أردتُ الاحتفاظ بها في قصتي. ثم وصلنا إلى أدوات الاستحمام – لكن لماذا قد أريدُ امتلاك أدوات استحمام هذه الغريبة؟
وربما أكون اندهشتُ وفُتنتُ أيضًا بأنَّ المرسِل جمعَ ثلاثة أشياء معًا في جملته الأولى كما لو كانت ذات قيمة متكافئة: « إلى هؤلاء منكم الذين تمتعوا بدروس تِنِس نانسي براون، وبدروس التمرينات الرياضية، أو بصداقتها» – سبب آخَر لأن أعكسَ الترتيب في السطر الأخير من قطعتي، بحيث لا تبدو «الصداقة» نقطة ذورة أو محصلة نهائية. كما أنني غيّرت الاسم الأول الحقيقي للسيدة براون، والذي راقَ لي، فجعلته نانسي، فقط لأمنح المرأة الحقيقية شيئًا من الحماية، بالرغم من أنّ اسمها الحقيقي كان شائعًا بما فيه الكفاية. علاوة على أنَّ اسم نانسي براون كان أيضًا اسم امرأة عرفتها وأنا مراهقة – والتي عند نقطة ما، بالمصادفة البحتة، غيرت أيضًا اسمها إلى آخَر أكثر غرابة وأقل شيوعًا.
****
(1) العنوان في النص الأصلي هو Swann’s Way، وآثرتُ الاستعانة بالعنوان كما ترجمه للعربية الأستاذ إلياس بديوي، دار شرقيات سنة 1994، كما استعنتُ بترجمته للفقرة الواردة من الكتاب في هذا الموضوع.
(2) الفقرة بترجمة الأستاذة آية نبيه. القصة النُزهة (the Walk)، من بين القصص المتَرجَمة في كتاب تنويعات الانزعاج، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز العدد 146.
(3) أحد أحجام حشايا الفراش أكبر من المزدوج وأصغر من المَلكي، غالبًا (152 سم عرضًا، و203 سم طولًا).
(4) قطعة أثاث، تُسمَّى العثمانية، عبارة عن مقعد منخفض بلا مساند ولا ظهر، يستخدم غالبًا مِسنَد قدمٍ ويُوضع أمام المقاعد أو الآرائك، وأحيانًا يكون مجوّف وتخزن فيه الملاءات والمفارش.
(5) أبقيتُ على عدد كلمات النسختين كما هو في النص الإنجليزي.
*وُلدَت الكاتبة ليديا ديفيس في ماساتشوستس عام 1947 وتقيم في نيويورك. وهي أستاذة جامعية للكتابة الإبداعية في جامعة ألباني وصدر لها سبع مجموعات قصصية، اشتهر بعضها بالإيجاز الشديد. كما أنها ترجمَت عددًا من الأعمال الكلاسيكية الفرنسية، مثل مدام بوفاري لفلوبير وجانب منازل سوان لمارسيل بروست. كما كتبت رواية وحيدة بعنوان نهاية القصة (1995).
وصفها النافد جيمس وود في كتابه مواد مرحة ومقالات أخرى باعتبارها: «توماس برنارد ولكن عاصِف»، وكما كتب أيضًا مورجان تايشر عند صدور مجلد قصصها المجمّعة عام 2009: إنها «سيدة شكل أدبي من ابتكارها الخاص بدرجةٍ هائلة.»
تدورُ «النزهة» في أوكسفورد، إنجلترا، خلال وبُعَيد مؤتمر أدبي حولَ الترجمة – يشكّل هذا الموضوع مادة كتابة نموذجية ومقبولة للغاية من أجل قصة قصيرة تليق بالنشر في النيويوركر على سبيل المثال. الشخصيتان الرئيسيتان هُما مترجِمة، مُستمدّة مِن شخصيتي، وناقد، مُركَّب مِن أكثر من شخص أعرفه. معظم الأحداث قائمة على وقائع حقيقية جرت خلال مؤتمر ترجمة حقيقي في أوكسفورد، وبعض العناصر فيها خيالية تمامًا. (حدثت نقطة تحوّل في تطوري ككاتبة عندما أدركتُ أنَّ بوسعي، بكل الارتياح والرضا، أن أكتب قصصًا خيالية تروي أحداثًا حقيقية، بدرجة طفيفة للغاية من التمويه.)
الحدث الأساسي في هذه القصة هو ببساطة خروج الشخصيتين الرئيسيتين في نزهة تَمشية. الدراما المركزية – ليست درامية للغاية – هي إدراكُ الراوية بأنَّ ثمة تشابُه بين نزهتها بصحبة الناقد وفقرة من ترجمتها لكتاب [مارسيل] بروست جانب منازل سوان(1). في لحظةٍ أخرى من القصة، لكنها أشد درامية من الناحية التقليدية، تكاد الراوية أن تتسبب في انطلاق إنذار الحريق في المبنى حيث تقيم. في الواقع، تسببت الشخصية الرئيسية في الموقف الفِعلي – يعني أنا نفسي – في إطلاق إنذار الحريق. لكن لو كنتُ أعدتُ سرد هذه الواقعة كما حدثت بالفعل، مع جميع الطلاب الذي هرعوا إلى الباحة لإخلاء المبنى، وبعضهم خرج بمئزر الحمَّام مبتلَّ الشعر، إلى آخره، وأنا أبدي اعتذارًا وأسفًا عميقين، لذهبتُ بالقصة في الاتجاه الخطأ؛ لأنها كما هي، قصة تنتمي لفئة الثقافة العالية، بل النُخبوية.
كما هو الحال مع جميع القصص على الدوام تقريبًا، لم تُولَد هذه القصة من شيءٍ واحدٍ فحسب بل من عدة أشياء. أولًا، يروق لي بين آونة وأخرى، وكلما سنحت لي الفرصة، أن أعيد إنتاج القصة القصيرة التقليدية، وإن كنتُ أضيف لها غالبًا بعض تنويعاتٍ أقل تقليدية. على نحوٍ ما، كنتُ أحاكي الصوت التقليدي الذي تُروى به مثل هذه القصة، من داخل قناع/ شخصية راوٍ نموذجي مِن نوع بعينه:
تصادفَ وجود مُترجِمة وناقد معًا في مدينة جامعة أوكسفورد الكبيرة، وُجّهت إليهما دعوة في مؤتمر حول الترجمة. شَغلَ المؤتمر يوم سبتٍ كامل، إضافة إلى ذلك المساء الذي تناولا فيه العشاء معًا، وإن لم يكن ذلك بكامل اختيارهما. الآخرون ممن شاركوا في المؤتمر أو حضروه غادروا، حتّى المنظمون. لم يختر سواهما مَدّ الإقامة لليلة ثانية في الحجرتين المحجوزتين لهما في الكلية التي أقيم بها المؤتمر؛ بناية قديمة، قاعاتها مفروشة بسجادٍ متسخ، رائحة عفن في غرف الزوار، وهياكل أسرّة حديدية تُحدث صريرًا.(2)
(في الأصل لم أكن قد أعطيتُ المدينة اسمًا في أي موضع من القصة، لأنني أفضّل عدم تسمية الأماكن بوجهٍ عام، ولكن بعد ذلك، عند التفكير في بضعة أمور منها أنَّ الراوية في القصة تبحث عن البيت الذي عاشَ فيه المحرر الشهير لقاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية، أخذَ هذا يبدو لي تكتُّمًا لا لزوم له.)
ثانيًا، تأثرّت للغاية بالجَمَال المادي لأوكسفورد حينما عاينتُه، وخصوصًا في وقت المساء – جَمَال المباني ذات التصميمات الهندسية المتباينة، في نور آخِر النهار – وعلى هذا أردتُ أن أصفَ المكان. ثالثًا، تواصَلَ اهتمامي لبضع سنين بقصة مُبدِع قاموس أوكسفور للغة الإنجليزية، الذي أنجِزَ هُناك تمامًا. في كتابٍ رائع، بعنوان عالق في شبكة الكلمات، كتبته إليزابيث موراي، حفيدة جيمس موراي، محرر القاموس، تروي فيه كيف عملَ عليه؛ وقد استولت عملية إبداع القاموس على اهتمامي، ليس فقط من باب الاهتمام العام بفقه اللغة، والمراجِع، والأشخاص المهووسين باللغة، ولكن أيضًا بسبب القصة الإنسانية، وحقيقة أنَّ الرجل قد أشرك أبناءه الكثيرين معه في المشروع، مُشتغلين في بيتٍ صغير في باحة منزلهم – وليس أبناءه فقط بل أشخاصًا تبادلَ معهم المراسلات من جميع أنحاء العالَم، ومنهم مجرمون محكومون بالسِجن، كانوا جميعًا يرسلون إليه كلمات والشواهِد التي تضمّ تلك الكلمات. ورابعًا، فقد تأثرتُ إلى حد إصابتي بالإحباط بسبب ملاحظات أحد النقّاد حول ترجمتي لكتاب بروست جانب منازل سوان، وكان مِن الممتع نوعًا ما أن أعبّر عن شيءٍ من ردود أفعالي مُتنكّرة في صورة سردٍ خيالي. وخامسًا، فقد سُررتُ وتسليتُ بالحدث الفعلي للنُزهة، والتي توازَت مع النزهة الموجودة في كتاب بروست المتَرجم أو أحالت إليها، وأردتُ أن أعيد إنتاج ذلك تحديدًا في القصة. وأغلب الظن أنَّ هذه المُصادَفة كانت هي نقطة انطلاق القصة، ما أشعلَ شرارتها.
أوشكتُ أن أقول بأنَّه من البداية كانت ثمّة رغبة بتضمين عنصر لن يُسمَح بدخوله إلى قصة قصيرة تقليدية تمامًا، وكان ذلك هو اقتباس فقرة طويلة من رواية بروست وليس فقط مرة واحدة بل مرتين بترجمتين مختلفتين قد تبدوان لعين القارئ غير المدقق متطابقتين تقريبًا. لكن الحقيقة غير ذلك، فأنا لم أخطط ذلك من البداية؛ فقد حدثَ بينما كنتُ أكتب.
***
ما الذي يدفعُ بقطعةٍ من الكتابة إلى الوجود؟ تدريجيًا، وعبر السنوات، صرتُ أرى التوازي الوثيق بين الدافع للترجمة والدافع لكتابة شيءٍ أصيل: بالضبط كما أريد أن أقبضَ على شيءٍ ما خارج نَفسي في قطعة كتابة أصلية، عندما أترجم شيئًا فإني أريدُ أن أقبضَ عليه أيضًا، في هذه الحالة أن أعيدَ إنتاجه في اللغة الإنجليزية.
كانت كلير كافاناه، مُترجمةِ [الشاعرَين البولنديين] تشيسلاف ميلوش وفيسوافا شيمبورسكا، قد كتبتَ مقالًا حول الترجمة بعنوان «فن الخسارة: الشِعر البولندي والترجمة»، والذي تختمه بالإقرار التالي:
«إنَّ ترجمة الشِعر مَهمةٌ مستحيلة بكل تأكيد: مثل جميع الأشياء الرائعة. لكنَّ الدافع الذي يقود المرء لأن يحاول لا يبتعدُ كثيرًا، على ما أظن، عن تلك القوة التي تُرسلُ الشاعرَ الغنائي، مرارًا وتكرارًا، ليحاول امتلاك العالَم ببضعة أبياتٍ من الشِعر. إنك ترى شيئًا رائعًا أمامَ عينيك، فَترغب فيه. تحاول قراءته مرة بعد مرة، وتجرب حِفْظه في ذاكرتك لو استطعت، أو نَسْخه بيديك سطرًا بعد سطر. ولا شيء من ذلك يفلح؛ إذ لم يزل هناك. وهكذا إن لم يكن هذا النص موجودًا من قبل في اللغة الإنجليزية، فإنك تلجأ إلى الترجمة؛ تجرّب إعادة صُنعه في لغتك أنت، وبكلماتك أنت، يراودك الأمل الباطل بأن تحصل عليه هكذا مرةً وانتهينا، بأن تجعله أخيرًا ملكًا لك. بل إنك تشعر أحيانًا، على الأقل لفترة، ليوم أو يومين أو حتَّى بضعة أسابيع، تشعر بأنك امتلكته وانتهينا، لقد أفلح الأمر، القصيدة قصيدتك. ولكن بعد ذلك قد تلتفت وراءك نحو القصيدة نفسها عند نقطةٍ ما، فيكون عليك أن تخبطَ رأسك بالحائط ضاحكًا: إذ لم تزل هناك.»
قارن هذا بفقرة مِن جانب منازل سوان وفيها يصف بروست كيف كان يبدو الأمر مع مارسيل الشاب إذ يريد أن يأسرَ بالكتابة شيئًا ما يحرّك عاطفته:
«حينئذ، وبعيدًا عن جميع هذه الاهتمامات الأدبية بما لا يرتبط بشيء فيها، كان يستوقفني فجأة سَطحٌ ووهجُ الشمس على حجرٍ ورائحةُ طريق وذلك من جراء لذة خاصة تولدها فيَّ، ولأنها كانت تبدو إلى ذلك وكأنها تخبئ خلف حدود ما أرى شيئًا تدعوني أن أبادر إلى أخذه ولا أستطيع، على الرغم من جهودي، اكتشافه. وبما أني كنت أحس أنَّ ذلك موجود فيها كنت أمكث هنالك لا أبدي حراكًا أتطلع وأستنشق وأحاول أن أذهب بفكري إلى ما وراء الصورة أو الرائحة. فإن انبغى لي اللحاق بجدي أو متابعة طريقي كنت أحاول العودة إليها وأنا أطبق عيني؛ وكنت أسعى إلى أن أتذكر بالضبط خط السطح ولون الحجر وقد بديا لي، دون أن أتمكن من إدراك السبب، مليئين وعلى وشك أن ينشقَّا ويجودا بما كانا محض غطاءٍ له.»
وفي حقيقة الأمر، بينما أنسخُ هذه الفقرة، أرى صِلةً هُنا لم أرها عندما اخترتُ أن أستشهد بها، صِلةً بين أمثلة بروست للسَطح ووهج الشمس على حجر وبين تأثري بالجمال المادي لمدينة أوكسفورد – لأنَّ ذلك كان جزءًا مِن جَمال المدينة بالنسبة لي، كيف تهبط الشمس في السماء نحو الغروب وهي تتوهّج بالدفء، والنور باللون العَسليّ على أسطح المدينة وصخور المباني والشوارع المعبَّدة بالحجارة الصقيلة.
***
تاليًا أريدُ أن أنتقلَ مِن بروست ونوع الاستلهام الأسمى هذا إلى نوعٍ آخَر أسخف. ومع ذلك، وبرغم أنَّ مادة الموضوع أقل سُمُوًا، فإنَّ شعورنا بالدافع يبقى كما هو: هنا أيضًا مادة تطيبُ لك وتفتح شهيتك، مادة تجعلك تريدُ أن تفترسها بطريقة ما. وُلدَت هذه القصة مِن إيميل تلقّيته كان مُرسلًا لمجموعة من الناس. «نانسي براون ستكون في المدينة» حول امرأة تعود إلى حَي سَكني استعدادًا لكي ترحل عن المكان نهائيًا.
ها هي القصة:
نانسي براون ستكون في المدينة
نانسي براون ستكون في المدينة. ستكون في المدينة لكي تبيع أشياءها. نانسي براون سوف تنتقل لمكان بعيد. تريد أن تبيع مَرتبتها بحجم الملكة(3).
هل نريد مرتبتها بحجم الملكة؟ هل نريد مُتَّكـأها العثماني(4)؟ هل نريد أدوات استحمامها؟
حان الوقت لكي نقول وداعًا لنانسي براون.
تمتعنا بصداقتها. تمتعنا بدورسها في التِنِس.
قبلَ أن أُريكم الإيميل الذي ألهمني هذه القصة، فكّرتُ أنه قد يكون ممتعًا أن أستشهد بنسخةٍ أقدم وأن أشرح كيف حررتُها.
نانسي براون
نانسي براون ستكون في المدينة. قيلَ لنا إنَّ نانسي براون ستكون في المدينة. قيل لنا إنَّ نانسي براون تريد أن تبيعَ مَرتبتها. هل نريد أن نشتري مرتبة نانسي براون بحجم الملكة؟ هل نريد متَّكأها العثماني؟ هل نريد أدوات استحمامها؟ ما دامت ستكون في المدينة، فلماذا تبيع أشياءها؟ آه، إنها لم تعد للمدينة إلَّا لتبيع أشياءها. وقريبًا ستغادر مدينتنا من جديد. بلا رجعة. حان الوقت لكي نقول وداعًا لنانسي براون. تمتعنا بدروسها في التِنس. تمتعنا بصداقتها.
أولًا، العنوان: «نانسي براون» لا بأس به. أحببت الاسم، لكن «نانسي براون ستكون في المدينة» ألطف كثيرًا، ولا أجد مشكلة في تكرار العنوان في السطر الأول – ما يحدث كثيرًا في القصائد، وقليلًا للغاية ما يحدث في النثر.
لعلَّك تستطيع أن تلحظ أن النسخة الأسبق أكثر إطنابًا في العموم. بل أكثر إطنابًا ممَّا يلزم. كان عدد كلماتها 106 كلمة (5) (تشمل العنوان) في مقابل 72 كلمة في النسخة النهائية. أنا أحب التكرار، لكنَّ النسخة الأسبق ضمَّت تكرارات لم تدفع القِطعة للأمام كثيرًا. كما ضمَّت أسئلة وأجوبة تأمّلية أمكن تشذيبها في الفقرة الأولى الصغيرة.
كما أنني أزلتُ «الوسيط» الضِمني عندما حذفتُ «قيل لنا...»
الآن، التعديل الأخير هو الأكثر إثارة للاهتمام، بالنسبة إليَّ: غيَّرت – أو فِعليًا، عَكستُ – ترتيب آخر جملتين. فبدلًا مِن « تمتعنا بدرسها في التِنِس. تمتعنا بصداقتها.» صار لديَّ الآن: «تمتعنا بصداقتها. تمتعنا بدورسها في التِنِس.» كان الترتيب الأوّل أكثر «عقلانية» أو تقليدية. من الصحيح غالبًا أنَّ أفكارنا الأولى تنحو منحى تقليديًا، كما لو كان هذا مَيلًا تلقائيًا، ثم مِن بعد ذلك ربما تتخذُ أفكارنا منحى أكثر مغامرة وابتكارًا. في الترتيب الأوَّل المنطقي، وضعتُ الشيءَ الأقل أهمية والأكثر خصوصية «دروس التِنس» أولًا؛ ثم الشيء الأهم والأكثر عمومية «الصداقة» ثانيًا – كما لو كانت الحركة باتجاه الخارج من المُحَدَّد والخاص لأنتهي بملاحظة عامة كما ينبغي. ومع ذلك فالترتيب المعكوس كان أشد إثارة للاهتمام بالنسبة إليَّ حقًا: أولًا الأكثر حميمية والمتوقّع «الصداقة»؛ ثم من بعده الشيء المفاجئ، بل العبثي «دروس التِنس»، بحيث إنَّ القطعة، وهي تتسم بشيءٍ مِن العَبَثية على كل حال، تنتهي بملاحظة عَبثية.
أمَّا عن الإيميل الأصلي، فقد كان سطر الموضوع، بالتأكيد، هو ما استولى على انتباهي: «نانسي براون ستكون في المدينة...» ربما كان المرسِل واعيًا، أو غير واعٍ، بالبلاغة المتحققة عَرضًا مِن الجناس بين اسم براون وكلمة مدينة (town) وما في ذلك مِن سِحْر وجاذبية. ثم بعد ذلك متن الإيميل نفسه:
إلى هؤلاء منكم الذين تمتعوا بدروس تِنِس نانسي براون، وبحصص التمرينات الرياضية، أو بصداقتها، ستكون في المدينة مع نهاية هذا الأسبوع، وستبقى لنحو أسبوع ونصف. وسوف يسعدها أن تراكم وتتواصل معكم.
كما أنها سوف تتخلص من بعض الأغراض التي كانت قد خزّنتها:
مَرتبة بحجم الملكة
فِراش فَرداني بصندوق للمرتبة ونوابض
مائدة على شكل لوح ركوب الأمواج
مقعد مبطّن ومتكّأ عثماني للقدمين
صناديق مطبخ وأدوات استحمام
إلخ.
ما أتاحَ لي أن أرى في هذا الإيميل قطعة كتابة ممكنة، وعبثية قليلًا، كان على الأرجح، أولَّا، سِحر سَطر موضوع الإيميل والإحساس الشِعري الغنائي الذي فيه: “Nancy Brown will be in town” – وثانيًا الطبيعة المُباغِتة للإيميل، بما أنني لم أعرف المدعوَّة نانسي براون. إنني لا أعرف نانسي براون، ومع ذلك فقد جُررتُ هكذا فجأة، بدرجة حميمية، إلى داخل عالَم نانسي براون. ومن جديد، أشياء كثيرة تعتمد على السياق. هُنا، وبما أنني لم أكن أعرفها، كان رد فعلي – كما لو كان هذا الإيميل موجهًا لي بصفة شخصية – أن سألتُ نفسي: لماذا عليَّ أنا أن أكترث إن كانت نانسي براون ستنتقل من مكان إلى آخر، ولماذا قد أريد أنا مرتبة بحجم الملكة تخص نانسي براون؟ قرأت قائمة ممتلكاتها بندًا بعد بند، ولم أجد نفسي مهتمة – ككاتبة – بالفراش الفرداني ذي صندوق المرتبة والنوابض، لكن بعدئذٍ اندهشت وفُتنتُ أمام «العُثماني». أحببت كلمةَ عثماني – التي تذكّرني بالإمبراطورية العثمانية ولها وقعٌ سامقٌ وسامٍ للغاية بالنسبة لقطعة أثاث. لذلك أردتُ الاحتفاظ بها في قصتي. ثم وصلنا إلى أدوات الاستحمام – لكن لماذا قد أريدُ امتلاك أدوات استحمام هذه الغريبة؟
وربما أكون اندهشتُ وفُتنتُ أيضًا بأنَّ المرسِل جمعَ ثلاثة أشياء معًا في جملته الأولى كما لو كانت ذات قيمة متكافئة: « إلى هؤلاء منكم الذين تمتعوا بدروس تِنِس نانسي براون، وبدروس التمرينات الرياضية، أو بصداقتها» – سبب آخَر لأن أعكسَ الترتيب في السطر الأخير من قطعتي، بحيث لا تبدو «الصداقة» نقطة ذورة أو محصلة نهائية. كما أنني غيّرت الاسم الأول الحقيقي للسيدة براون، والذي راقَ لي، فجعلته نانسي، فقط لأمنح المرأة الحقيقية شيئًا من الحماية، بالرغم من أنّ اسمها الحقيقي كان شائعًا بما فيه الكفاية. علاوة على أنَّ اسم نانسي براون كان أيضًا اسم امرأة عرفتها وأنا مراهقة – والتي عند نقطة ما، بالمصادفة البحتة، غيرت أيضًا اسمها إلى آخَر أكثر غرابة وأقل شيوعًا.
****
(1) العنوان في النص الأصلي هو Swann’s Way، وآثرتُ الاستعانة بالعنوان كما ترجمه للعربية الأستاذ إلياس بديوي، دار شرقيات سنة 1994، كما استعنتُ بترجمته للفقرة الواردة من الكتاب في هذا الموضوع.
(2) الفقرة بترجمة الأستاذة آية نبيه. القصة النُزهة (the Walk)، من بين القصص المتَرجَمة في كتاب تنويعات الانزعاج، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز العدد 146.
(3) أحد أحجام حشايا الفراش أكبر من المزدوج وأصغر من المَلكي، غالبًا (152 سم عرضًا، و203 سم طولًا).
(4) قطعة أثاث، تُسمَّى العثمانية، عبارة عن مقعد منخفض بلا مساند ولا ظهر، يستخدم غالبًا مِسنَد قدمٍ ويُوضع أمام المقاعد أو الآرائك، وأحيانًا يكون مجوّف وتخزن فيه الملاءات والمفارش.
(5) أبقيتُ على عدد كلمات النسختين كما هو في النص الإنجليزي.
*وُلدَت الكاتبة ليديا ديفيس في ماساتشوستس عام 1947 وتقيم في نيويورك. وهي أستاذة جامعية للكتابة الإبداعية في جامعة ألباني وصدر لها سبع مجموعات قصصية، اشتهر بعضها بالإيجاز الشديد. كما أنها ترجمَت عددًا من الأعمال الكلاسيكية الفرنسية، مثل مدام بوفاري لفلوبير وجانب منازل سوان لمارسيل بروست. كما كتبت رواية وحيدة بعنوان نهاية القصة (1995).
وصفها النافد جيمس وود في كتابه مواد مرحة ومقالات أخرى باعتبارها: «توماس برنارد ولكن عاصِف»، وكما كتب أيضًا مورجان تايشر عند صدور مجلد قصصها المجمّعة عام 2009: إنها «سيدة شكل أدبي من ابتكارها الخاص بدرجةٍ هائلة.»