أول امرأة أعجبت بها في طفولتي وتمنيت أن أصبح مثلها كانت امرأةً أجنبيةً عثرت عليها بين طيات كتاب غنمه أخي في نزال مع أحد أشقياء الشارع ثم رماه على الدرج ونساه.
منذ اللحظة التي قرأت فيها قصتها استوطنت عقلي وذهني. كانت جالسة بالجنب مرتدية ثيابًا سوداء طويلة، تنظر للكاميرا التي التقطت وجهها الحزين ويدها على خدها، كان شعرها مثل شعري مربوط إلى الخلف ويستعد للإقلاع من الأمام.
شيء ما شدني إليها، حتى وددت أن تكون أمي وحلمت بذلك قبل النوم تحت البطانية المزدانة بصور الحيوانات.
كان فحوى الحلم أن هذه المرأة آتية من عالم مختلف جدًا عن عالمي فليتها كانت أمي حقًا؛ لكي تضعني في ذلك العالم، إلا أن الديناصور الموجود على البطانية قاطعني في نصف الحلم قائلا لي:
- لا يجب أن يكون للإنسان سوى أم واحدة يختارها له الله، وأنتِ قد اختار لكِ المرأة التي اختارها جدكِ لوالدكِ.
- وهل لجدي علاقة بالله ؟ سألت الديناصور.
- إن الفيلم يحتاجه !
قال الديناصور ثم غاب في الظلام دون أن يعترض على أحلامي الطفولية أو ينسفها، لكأنما علم بأن الواقع كفيل بتدميرها فيما بعد فلم يستعجل تسجيل الخراب برسمه واسمه، تركني أحلم أحلام يقظتي باستمتاع وذهب لينقرض بسكينة.
قلت لنفسي: حين أكبر مثل شقيقتي وأصل المرحلة الإعدادية سأتمكن من دخول معمل العلوم في مدرسة البنات الإعدادية، وسأجري التجارب مثل مدام كوري واكتشف أشياءً من تحت المجهر، واستخرج أشياءً مثل الراديوم من أبخرة الدوارق والسحاحات والبواتق تفيد العالم.
لكن ما هو الراديوم الذي اكتشفته تلك المرأة العظيمة، كما يقول الكتاب الذي وصلني عبر معركة؟
حاولت استشفاف الإجابة من أخي الأكبر صاحب الكتاب الذي قرأ بعض الصفحات ثم أجابني:
- لقد اخترعت الراديو.
فاعترضت على إجابته قائلة: كلا، مكتوب هنا الراديوم وليس الراديو.
فقال: خطأ مطبعي، هناك حرف زائد اندلق منهم في المطبعة، لقد اكتشفت الراديو، مثل ذاك الذي يصدح فيه (نوري كمال) عند نافذة المطبخ:
ذوقي الشوق واحتاري شويه
وهل يشع الراديو أو يسهم في تخفيف آلام الجنود والمرضى كما يقول الكتاب عن اكتشاف مدام كوري؟
ذهب أخي لنزال الشوارع ولم يكترث بالسؤال الذي تدلى في رأسي مثل عقدة صغيرة.
لابد أن أصدق كلامه واتبعه فهو أخي الأكبر واحترامه واجب !
وعلي التفاهم مع رأسي وعقدته المتدلية كعنقود العنب بإيجاد طريقة ما تقنعني أن الراديو الذي لا يكف عن بث الشكوى والأنين طيلة اليوم من خلال الأغاني التي يبثها ونشرات الإخبار المفزعة، إنما يبث إشعاعًا يؤثر على الأنسجة الحية ويلعب دورًا في تخفيف الآلام.
تلك اللفة الذهنية الطويلة صنعها امتثالي للأخ الأكبر وإعجابي بمدام كوري التي اختارت حياة لا تشبه حياتنا نحن الذين لا فرق بين حياتنا وحياة الأغنام في المراعي الشحيحة، ولتعيش مدام كوري إلى جوار الديناصورات في عقلي الباطن، بعيدة عن الموت كالديناصورات وفقًا لما سمعته عنها
كائنات عظيمة لم تنتحر، ولم تقتل ولم يفنها الصيد الجائر.
كائنات استطاعت الاختفاء عن الأنظار بمحض إرادتها.
سأقلد بعد ذلك ما عثرت عليه قابلا للتقليد في مدام كوري محاولةً جذب واقعها القصي إلى واقعي، واضعة أمامي طاولة خشبية محملة ببعض الأباريق والملاعق وقوارير الماء وأشياء البيت التي لا تحتاجها أمي حتى أسس مختبري الخاص، ويغدو لجردل الغسيل وظيفة تختلف عن وظيفته المنزلية ولهاون المطبخ والمغارف الطويلة استعمالات جديدة وللذيل القصير الذي اقتطعته خلسة من خرطوم الساقية وظيفة النفخ في الماء وإصدار تلك البقبقة والخرخرة التي تدل على أن شيئا ما يحدث، وبنثر شيء من مسحوق الصابون تطير الفقاعات في الهواء وتطمئنني بأنني في مختبر حقيقي سيولد منه اختراع ما في يوم من الأيام يضاهي راديوم مدام كوري.
في منتصف الطاولة تربعت الطاسة السحرية العجيبة المسماة بطاسة الفجعة، وهي اختراع أسطوري يأتي به الحجاج عند رجوعهم من الحج ويقدمونه كهدية معتبرة تستخدم في علاج الناس من الأرق والقلق والمخاوف وخبطات الجن والأمراض التي لا أعراض لها سوى شعور المريض بأنه حزين.
كانت أمي تعير طاستها العجيبة للجيران فتبقى خارج المنزل فترات طويلة، تدور من بيت لبيت قبل أن تعود لطاولة تجاربي من جديد ثم تعود للاختفاء بعد ذلك في مهمة علاجية جديدة لأحدهم أو إحداهن من صدمة ما.
ثم ما الفرق بين أثر الراديوم وأثر طاسة الفجعة؟ أوليست جميعها وسائل تهدف إلى تحسين جودة الحياة وتخفيف أعبائها على العالمين؟
إن الله لا يمكن أن يوجد شيئًا ليس له وظيفة، حتى الذباب الذي قيل لنا في حصة العلوم بأنه ضار وناقل للجراثيم والأمراض، وقيل لنا في حصة الدين أن له وظيفة طبية فذة إذا ما سقط في الطعام الذي نتناوله واعدنا غمسه فيه!
حتى وإن بدا الكلام متناقضًا بين الحصتين في رأسي إلا إن عليّ التوفيق بين العقل والنقل كما فعلت طاولتي العجيبة في جمع المتفرقات والمتناقضات فكانت المبخرة إلى جانب النونية والمطرقة إلى جانب ملعقة الخشب.
وبينما طاولة مدام كوري تغوص بأقدامها في قلبي ووقتي، ظهرت في حياتي امرأة أخرى غريبة النمط، كان لها صوت ملائكي، ووجه لا يعرف التبسم على الإطلاق. كانت تشدو بأعذب الأغاني على حافة روشن مطبخنا من الراديو نفسه الذي قال عنه أخي بأنه اكتشاف مدام كوري .
يأتي صوتها مع موسيقى ساحرة وكلمات بديعة عوضت قاموسي الشحيح للعبارات الندية، وفتحت مخيلتي على عالم ملائكي سبحت فيه وسط النور والغابات والثلوج والأمطار والطرقات العتيقة بلا حدود، عالم ربما هو العالم الذي اختاره الديناصور لينقرض فيه.
كان اسمها فيروز وكانت تغني موضوعات لا وجود لها في مسقط رأسي الذي هو مسقط رأس العجاج في العالم كله.
صنعت لي فيروز بصوتها العذب ريفًا عوض الحفرة التي فتحت عيني فيها وأبدلتني بلدتي خشنة الملامح بقرية يونانية جميلة وأطلقت مخيلتي لتصور الكلمات التي تغنيها بلا حدود.
كان الشعر يندف على نافذة مطبخنا، والمفردات تنسل من الراديو إلى قلبي، كما ينسل المطر إلى الأرض العطشى.
وأنا اسمع لفيروز وأواصل اختراعاتي على طاولة مدام كوري، رغم غياب بعض الأدوات منها في مهام طارئة ومختبرات أخرى، منها الطبخ والاستشفاء والتنظيف، إلا أنني وظفت ما وجدته منها في خدمة أحلامي الصغيرة وكنت سعيدة بلحظاتي تلك مع نفسي في اكتشاف ما رأيته ضروريًا لواقعنا مثل:
مرشة البعوض والذباب التي دمجت فيها اختراعين اثنين من أهم اختراعات حياتنا هما مروحة سعف النخيل و مبيد الحشرات معا.
ناهيك عن الأشياء التي سكبت أو تبددت خلال دمجها الآن أخوتي، وهم يلعبون بالقرب مني ارتطموا بطاولة الاختراعات فدلقوها إلى الأرض بما احتوت أو تعاركوا فاستل أحدهم شيئًا مما على الطاولة ليهزم به الآخر.
في نهاية الأمر كنتُ وطاولتي تلك الأيام إما مشاركين في صناعة سلام وإما متورطين في قتال، وذلك نتاج المزج ما بين الفيزياء والفن في بيتنا الرحيب.
منذ اللحظة التي قرأت فيها قصتها استوطنت عقلي وذهني. كانت جالسة بالجنب مرتدية ثيابًا سوداء طويلة، تنظر للكاميرا التي التقطت وجهها الحزين ويدها على خدها، كان شعرها مثل شعري مربوط إلى الخلف ويستعد للإقلاع من الأمام.
شيء ما شدني إليها، حتى وددت أن تكون أمي وحلمت بذلك قبل النوم تحت البطانية المزدانة بصور الحيوانات.
كان فحوى الحلم أن هذه المرأة آتية من عالم مختلف جدًا عن عالمي فليتها كانت أمي حقًا؛ لكي تضعني في ذلك العالم، إلا أن الديناصور الموجود على البطانية قاطعني في نصف الحلم قائلا لي:
- لا يجب أن يكون للإنسان سوى أم واحدة يختارها له الله، وأنتِ قد اختار لكِ المرأة التي اختارها جدكِ لوالدكِ.
- وهل لجدي علاقة بالله ؟ سألت الديناصور.
- إن الفيلم يحتاجه !
قال الديناصور ثم غاب في الظلام دون أن يعترض على أحلامي الطفولية أو ينسفها، لكأنما علم بأن الواقع كفيل بتدميرها فيما بعد فلم يستعجل تسجيل الخراب برسمه واسمه، تركني أحلم أحلام يقظتي باستمتاع وذهب لينقرض بسكينة.
قلت لنفسي: حين أكبر مثل شقيقتي وأصل المرحلة الإعدادية سأتمكن من دخول معمل العلوم في مدرسة البنات الإعدادية، وسأجري التجارب مثل مدام كوري واكتشف أشياءً من تحت المجهر، واستخرج أشياءً مثل الراديوم من أبخرة الدوارق والسحاحات والبواتق تفيد العالم.
لكن ما هو الراديوم الذي اكتشفته تلك المرأة العظيمة، كما يقول الكتاب الذي وصلني عبر معركة؟
حاولت استشفاف الإجابة من أخي الأكبر صاحب الكتاب الذي قرأ بعض الصفحات ثم أجابني:
- لقد اخترعت الراديو.
فاعترضت على إجابته قائلة: كلا، مكتوب هنا الراديوم وليس الراديو.
فقال: خطأ مطبعي، هناك حرف زائد اندلق منهم في المطبعة، لقد اكتشفت الراديو، مثل ذاك الذي يصدح فيه (نوري كمال) عند نافذة المطبخ:
ذوقي الشوق واحتاري شويه
وهل يشع الراديو أو يسهم في تخفيف آلام الجنود والمرضى كما يقول الكتاب عن اكتشاف مدام كوري؟
ذهب أخي لنزال الشوارع ولم يكترث بالسؤال الذي تدلى في رأسي مثل عقدة صغيرة.
لابد أن أصدق كلامه واتبعه فهو أخي الأكبر واحترامه واجب !
وعلي التفاهم مع رأسي وعقدته المتدلية كعنقود العنب بإيجاد طريقة ما تقنعني أن الراديو الذي لا يكف عن بث الشكوى والأنين طيلة اليوم من خلال الأغاني التي يبثها ونشرات الإخبار المفزعة، إنما يبث إشعاعًا يؤثر على الأنسجة الحية ويلعب دورًا في تخفيف الآلام.
تلك اللفة الذهنية الطويلة صنعها امتثالي للأخ الأكبر وإعجابي بمدام كوري التي اختارت حياة لا تشبه حياتنا نحن الذين لا فرق بين حياتنا وحياة الأغنام في المراعي الشحيحة، ولتعيش مدام كوري إلى جوار الديناصورات في عقلي الباطن، بعيدة عن الموت كالديناصورات وفقًا لما سمعته عنها
كائنات عظيمة لم تنتحر، ولم تقتل ولم يفنها الصيد الجائر.
كائنات استطاعت الاختفاء عن الأنظار بمحض إرادتها.
سأقلد بعد ذلك ما عثرت عليه قابلا للتقليد في مدام كوري محاولةً جذب واقعها القصي إلى واقعي، واضعة أمامي طاولة خشبية محملة ببعض الأباريق والملاعق وقوارير الماء وأشياء البيت التي لا تحتاجها أمي حتى أسس مختبري الخاص، ويغدو لجردل الغسيل وظيفة تختلف عن وظيفته المنزلية ولهاون المطبخ والمغارف الطويلة استعمالات جديدة وللذيل القصير الذي اقتطعته خلسة من خرطوم الساقية وظيفة النفخ في الماء وإصدار تلك البقبقة والخرخرة التي تدل على أن شيئا ما يحدث، وبنثر شيء من مسحوق الصابون تطير الفقاعات في الهواء وتطمئنني بأنني في مختبر حقيقي سيولد منه اختراع ما في يوم من الأيام يضاهي راديوم مدام كوري.
في منتصف الطاولة تربعت الطاسة السحرية العجيبة المسماة بطاسة الفجعة، وهي اختراع أسطوري يأتي به الحجاج عند رجوعهم من الحج ويقدمونه كهدية معتبرة تستخدم في علاج الناس من الأرق والقلق والمخاوف وخبطات الجن والأمراض التي لا أعراض لها سوى شعور المريض بأنه حزين.
كانت أمي تعير طاستها العجيبة للجيران فتبقى خارج المنزل فترات طويلة، تدور من بيت لبيت قبل أن تعود لطاولة تجاربي من جديد ثم تعود للاختفاء بعد ذلك في مهمة علاجية جديدة لأحدهم أو إحداهن من صدمة ما.
ثم ما الفرق بين أثر الراديوم وأثر طاسة الفجعة؟ أوليست جميعها وسائل تهدف إلى تحسين جودة الحياة وتخفيف أعبائها على العالمين؟
إن الله لا يمكن أن يوجد شيئًا ليس له وظيفة، حتى الذباب الذي قيل لنا في حصة العلوم بأنه ضار وناقل للجراثيم والأمراض، وقيل لنا في حصة الدين أن له وظيفة طبية فذة إذا ما سقط في الطعام الذي نتناوله واعدنا غمسه فيه!
حتى وإن بدا الكلام متناقضًا بين الحصتين في رأسي إلا إن عليّ التوفيق بين العقل والنقل كما فعلت طاولتي العجيبة في جمع المتفرقات والمتناقضات فكانت المبخرة إلى جانب النونية والمطرقة إلى جانب ملعقة الخشب.
وبينما طاولة مدام كوري تغوص بأقدامها في قلبي ووقتي، ظهرت في حياتي امرأة أخرى غريبة النمط، كان لها صوت ملائكي، ووجه لا يعرف التبسم على الإطلاق. كانت تشدو بأعذب الأغاني على حافة روشن مطبخنا من الراديو نفسه الذي قال عنه أخي بأنه اكتشاف مدام كوري .
يأتي صوتها مع موسيقى ساحرة وكلمات بديعة عوضت قاموسي الشحيح للعبارات الندية، وفتحت مخيلتي على عالم ملائكي سبحت فيه وسط النور والغابات والثلوج والأمطار والطرقات العتيقة بلا حدود، عالم ربما هو العالم الذي اختاره الديناصور لينقرض فيه.
كان اسمها فيروز وكانت تغني موضوعات لا وجود لها في مسقط رأسي الذي هو مسقط رأس العجاج في العالم كله.
صنعت لي فيروز بصوتها العذب ريفًا عوض الحفرة التي فتحت عيني فيها وأبدلتني بلدتي خشنة الملامح بقرية يونانية جميلة وأطلقت مخيلتي لتصور الكلمات التي تغنيها بلا حدود.
كان الشعر يندف على نافذة مطبخنا، والمفردات تنسل من الراديو إلى قلبي، كما ينسل المطر إلى الأرض العطشى.
وأنا اسمع لفيروز وأواصل اختراعاتي على طاولة مدام كوري، رغم غياب بعض الأدوات منها في مهام طارئة ومختبرات أخرى، منها الطبخ والاستشفاء والتنظيف، إلا أنني وظفت ما وجدته منها في خدمة أحلامي الصغيرة وكنت سعيدة بلحظاتي تلك مع نفسي في اكتشاف ما رأيته ضروريًا لواقعنا مثل:
مرشة البعوض والذباب التي دمجت فيها اختراعين اثنين من أهم اختراعات حياتنا هما مروحة سعف النخيل و مبيد الحشرات معا.
ناهيك عن الأشياء التي سكبت أو تبددت خلال دمجها الآن أخوتي، وهم يلعبون بالقرب مني ارتطموا بطاولة الاختراعات فدلقوها إلى الأرض بما احتوت أو تعاركوا فاستل أحدهم شيئًا مما على الطاولة ليهزم به الآخر.
في نهاية الأمر كنتُ وطاولتي تلك الأيام إما مشاركين في صناعة سلام وإما متورطين في قتال، وذلك نتاج المزج ما بين الفيزياء والفن في بيتنا الرحيب.