يعد العلامة سعيد بن خلفان الخليلي في المقدمة من علماء عمان وشعرائها، ولم ينل هذه المكانة العالية إلا من خلال مواقفه الفكرية والدينية من جهة، وإنتاجه العلمي والشعري من جهة أخرى، كما أنه ينتمي إلى أسرة عريقة ذات أثر كبير في تاريخ عمان، إذ نقرأ في سلسلة نسبه عددا من الأئمة مثل الإمام الخليل بن عبدالله بن عمر بن محمد بن الإمام الخليلي بن شاذان بن الإمام الصلت بن مالك بن بلعرب، ولا شك في أن هذه السلسلة قد حملت وارثها من المسؤولية والأمانة الشيء الكثير.

وحين نقارن بينه وبين العلامة الرئيس جاعد بن خميس نجد تلك العناصر السابقة حاضرة عند الاثنين، فضلا عن التوجه الشعري، باعتبارهما رمزي الشعر السلوكي في عمان.

ولد الخليلي سنة 1226 للهجرة [أو 1236 للهجرة على خلاف] ونشأ في كنف جده لأبيه بعد وفاة والده وهو طفل صغير [كحال أبي نبهان]، ولم يلبث الطفل إلا قليلا حتى يرسله الجد إلى مسقط ليتزود من العلم ما شاء له التزود، وهناك يلتقي بطائفة من العلماء يأخذ عنهم، ويتزود منهم، غير أن واحدا من العلماء سيكون له شأن أي شأن في التأثير عليه مما لم يتهيأ لغيره، ونريد به العلامة ناصر بن أبي نبهان الخروصي، المتوفى سنة 1263 للهجرة، وقد كان ناصر من أجل العلماء، وكبار السلوكيين، كما أنه كان مجددا ناهضا بالفكرة والفكر، ولا ريب أن الطالب نهل من الجانبين معا مما ظهر جليا فيما بعد في مواقفه، وإنتاجه الفكري والشعري على حد سواء.

استشرف المعلّم قدرة تلميذه الخليلي، فكان يرعى هذا الطالب النابه، ويتوسّم فيه الخير، ويخصه ببعض النصائح والتوجيهات، ولذلك نراه يشير عليه أن يشرح منظومته في علم الصرف، فينصرف الطالب لتحقيق تلك الإشارة، وتكون ثمرة هذا الانصراف كتابه مقاليد التصريف الذي صرح في مقدمته بهذا الأمر حين يقول: «... ولما اطلع على نظمها- قصيدة مقاليد التصريف - العالم الرباني، والبحر النوراني وحيد دهره بلا ممانعة، وفريد عصره بلا ممانعة أبو محمد ناصر بن العلامة المولوي الولي أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي أمرني أن أثبت عليها شرحا لطيفا مختصرا»، وهكذا حفظ الخليلي لأستاذه أياديه البيضاء فظل يذكره مقرونا بالاحترام، وتستمر مرحلة الطلب حتى يشعر الشيخ أن زاده من العلم ما يؤهله للخروج إلى الحياة والتأليف معا.

وكما قلت عناصر الالتقاء بين شخصية أبي نبهان والخليلي كثيرة، ومنها النشأة والتوجه الشعري وكذلك العمل السياسي الفاعل، فقد كان الخليلي أحد المسارعين لإسقاط حكم سالم بن ثويني، وتولية الإمام عزان بن قيس البوسعيدي، ليصبح الأب الروحي للإمامة الجديدة، فقام الخليلي بدورين خطيرين يتمثلان في دوره السياسي «الفعّال في تحريك مجرى الأحداث باعتباره رجلا من رجال السياسة والدين في الدولة»، كما نجد دوره العلمي باعتباره منظّرا وعالما، كما توضّح أجوبته الغزيرة للكثير من المسائل الفقهية والعقائدية التي كانت ترد عليه. وكذا يتجلّى لنا -كما عرفنا مع أبي نبهان- أن النهج السلوكي العماني لم يترك أصحابه معزولين عن مجتمعهم وما يموج به من أحداث، فالخليلي لم يدع الأمور تسير على أعنتها تاركا إياها على غاربها، مؤثرا العزلة والانصراف إلى العبادة والتبتل، بل هدته عبادته وتقواه إلى تلك الموازنة المعتدلة بين الحياة والسلوك، فكانت النتيجة أن سخر علمه، وما حصله من زاد ثقافي في خدمة مجتمعه، وما يعتقد أنه نافع مفيد لذلك المجتمع، ولم يتخذ الخلاص الفردي طريقا كما فعل كثير من المتصوفة، بل كان في الصميم من الأحداث مشتركا فيها، مكتويا بنارها، وقد ذهب شهيدا نتيجة ذلك، فانتقل إلى جوار ربه سنة 1287 للهجرة، وقد بلغ من العمر سبعة وخمسين عاما.

ورغم أنه مات في سن مبكرة إلا أنه ترك بصمة خالدة في التاريخ العماني، فترك تراثا فكريا وشعريا ممتدا خارج عمره القصير ويتمثل في أمرين، أولهما أولئك الطلاب الذين درسوا عليه، وأفادوا منه، وثانيهما تلك الكتب التي تركها، وكانت زادا لمن جاء بعده، ولم يتمكن من الجلوس إليه، مثل: مظهر الخافي بنظم الكافي في علمي العروض والقوافي، ومقاليد التصريف، وسمط الجوهر الرفيع في علم البديع، والنواميس الرحمانية في تسهيل الطريق إلى العلوم النورانية وغيرها كثير، غير أن ديوانه.. يقدم الكثير للاتجاه السلوكي. [كما يرى الدكتور وليد خالص]

الحق أن المثير للدهشة هو هذه القدرة العجيبة على المزج بين التجربة السلوكية الروحية والتجربة السياسية والاجتماعية، ورغم أن التجربة السياسية والاجتماعية كانت قصيرة وانتهت باستشهاده، مع ما واكبها من أخطاء متوقعة نتيجة عدم الخبرة، فإن التجربة الروحية السلوكية تظل واحدة من أجمل ما تركه اليراع العماني، تأمل معي قوله:

عَرِّجْ عـلى بـابِ الكريـمِ الـــــــــــمفْضلِ

والثـمْ ثراهُ ســـــــــــــــــاعةً وتذلَّلِ

فلئن رُزقتَ لـدى حِمـــــــــــــــاهُ وقفةً

تَرِبَتْ يـداكَ بنـيلِ مـا لـم تأمــــــــــل

ولئِنْ نشقتَ شذى ذراهُ ســــــــــــــــاعةً

فَلَكَ الـبشـارةُ بـالـمقـامِ الأطــــــــول

ولئِنْ تـرى ذاك الجـمـالَ هـنـيـــــــــهةً

فـاسحـبْ ذيـولَ الـتـيـــــــهِ فخرًا وارفل

ولئن صددْتَ أو ابتعـدْتَ فعـــــــــــدْ إلى

إرسـالِ دمعٍ كـالعقــــــــــــــائقِ مُسبَل

والهجْ بأنــــــــــــواعِ الضراعةِ وابتهلْ

مـثلَ الغريـقِ بـلُجَّةِ الـبحـرِ الـمـلـــــي

لا يـدهشنّكَ مـا تـرى مـن هـــــــــــيبةٍ

وجلالةٍ وتعـاظـمِ العزِّ العـلــــــــــــي

فهـو الرحـيـمُ بعبـدهِ وهـو الكريــــــــ

ـمُ لـوفدهِ فـارحـلْ إلـيـــــــــــه وعجِّل

لا تَحْسبنَّ نـوالَهُ لــــــــــــــــــيصدّهُ

إنْ شـاءَ وصـفكَ وهـو خــــــــــــيرُ مُؤَمَّل

كلاّ فلـم تغلـبْ صـفـاتُكَ وصـفَهُ الْــــــــ

معـروفَ بـالكرمِ الـذي لـــــــــــم يبخل

إن الكريـم الـحقّ مـن إحســــــــــــانه

يـتـرى إلى مـن لـيس بـالـــــــــمستأْهِل

لـو كـان لا يعطـي الـذي يُخطـــــــي إذًا

هلكَ الجـمـيعُ فأيُّهـم لـم يفعـــــــــــل

فذرِ الـحَيــــــــــا واخلعْ عذاركَ وابتذلْ

ديبـاجتـيكَ ومـاءَ وجهكَ فــــــــــــابذل

وذرِ الـمُلـوكَ جـمـيعَهــــــــم واقصدْ إلى

ذي الـمـلكِ والـمـلكـوتِ مـولاكَ العـلـــي

فـاسألْ عـلى أبـوابـه مـــــــــــا شئتَهُ

فـنـوالُهُ مـا كُفَّ عـن كفِّ خلـــــــــــــي

لا تخشَ ثَمَّةَ مـن تـمـنُّعِ حـاجــــــــــــبٍ

فهـو الـذي أبـوابُهُ لـــــــــــــم تُقفَل

يعطـيكَ جـائزتـيـن للـدنـيـا وللْــــــــ

أخرى ولـم يـقتـرْ ولـــــــــــــمّا يُقْلِل

يـا مـن يشـاهدُ أو يُرجّي غــــــــــــيرَه

كـمِّلْ بصـيرتَك الـتـي لـم تَكـــــــــــمُل

إنْ كـنـتَ تعـرفُه وتـرجـو غـــــــــــيرَهُ

فلأنـتَ عـن عـرفـانهِ فــــــــــــي معزل

ولئن شهدتَ لـمـن ســـــــــــــواه تكرُّمًا

فلقـد عـدلـتَ عـن الطريـقِ الأعــــــــدل

ويقول في المعراج الأسنى:

سلوك طريق العابدين بعرفان

يلذ لأرواح غذين بإيمان

يطيب لها فيها عناها فلم تزل

مسافرة لا تستقر بأوطان

من العلم أعلام لها ودلائل

ومن همة شماء والعزم ظهران

وزاد من التقوى لتقوى بنهجها

ومن فقرها أوفى رفيق ومعوان

ومن ورع درع وسيف من الحجا

وحصن من التفويض في كل حدثان

لها مطلب سام على العرش باذخ

شريف منيف شامخ ليس بالداني

يحن إلى ذكر الحبيب وقربه

حنين الثكالى قد ضنين بأشجان

فأدمعه تجري بلوعة وجده

فيالك بحرا سال من حر نيران

فهام بحبٍ عام في بحر ذكره

ولم يدر وجدان اصطبار وسلوان

يرى أنسه فيه ألذ حياته

وموتته الكبرى علاقم هجران

ومعراجه الأسمى وجود شهوده

وإن ينأ يضح في الحضيض هو العاني

معان تجلت في مغان تجملت

بها إذ تجلت من سناها بألوان

يحققها بالذوق كشف مصدق

بعلم يقين جلّ عن جُل برهان

تمسك بمولاك القدير فإنه

لكل ضعيف عاجز واهن وان

ووجه له وجها وقلبا وقالبا

توجه مِطواع لما شاء مِذعان

وأعط له منك القياد لكل ما

أراد وقل يا هاديا كل حيران

دعوتك إذ ضاقت عليّ مذاهبي

وقلّ احتيالي يا إلهي ورحماني