ولِد عاموس عوز ابنا ليهودي أوروبي ومات عن 79 عاما وهو أبٌ للأدب العبري، أو على الأقل هكذا شيَّعته صحيفة الجارديان البريطانية من المهد إلى اللحد، في مقالة كتبتها جوليا باسكال ليلةَ رحيله في 28 ديسمبر 2018. يستحق هذا التأبين الملحمي أن نتوقف عنده طويلا لنتساءل عن معنى أن تكون أبا أدبيا في لغة ظلت طيلة قرون لغةً «بلا أرض ولا شعب»؛ أجل بالضبط، هكذا يمكننا أن نقلب العبارة الصهيونية المسمومة حين نبحث عن ماضي هذه اللغة فلا نجد أنها ازدهرت في يومٍ من التاريخ كلغة أدبٍ أو لغة حياة، إلى أن جاءت الحركة الصهيونية فبَعثتها أواخر القرن التاسع عشر «من النطاق الذي عاشت فيه لقرون طويلة كلغة دين تقليدية، لتُجبَر بوسائل مختلفة على لعب دور اللغة القومية» كما يقول غسان كنفاني في دراسته المهمة عن الأدب الصهيوني، وهو ما تكلل بالنجاح بعد قيام «دولة إسرائيل».
في هذه الساعات الوحشية من التاريخ قررت أن أقرأ السيرة الروائية للكتاب الإسرائيلي عاموس عوز «قصة عن الحب والظلام» التي ترجمها جميل غانم إلى العربية. من بين أشياء كثيرة فإن أهمية عوز تكمن بالنسبة لي كقارئ عربي في نقطة الالتقاء الخطرة تلك بين الخطاب الأدبي والخطاب السياسي، حيث استطاع عوز أن يتبوأ سلطةً ثقافية لم تُتح لغيره من المثقفين الإسرائيليين، فتحوَّل بها من مجرد موهبة أدبية فريدة إلى هِبة إسرائيلية عامة، هبة أنجبتها لغة أوشكت على الانقراض ودفعتها إلى الصدارة لتزود السردية الصهيونية بما ينقصها من شرعية أخلاقية وجمالية في أكثر اللحظات التي بدت فيها إسرائيل «بحاجة إلى أصوات تتحدث إلى العالم الخارجي لتقدم وجها أكثر إنسانية من وجه آرييل شارون» كما تقول جوليا باسكال، في إشارة للاضطراب الذي لحق بصورة إسرائيل في الغرب خلال اجتياح لبنان عام 1982، وخاصة في أعقاب الصدمة المروعة التي أحدثتها مجزرة صبرا وشتيلا.
حتى وهو يحل ضيفا على لغة معادية خارج قلعته العبرية، يستحق عوز الاعتراف والإعجاب بقدرته الساحرة على نسج حبائل السرد بخفة، والتلاعب بمكائد البلاغة، والمشي على رؤوس الأصابع بين التاريخ والخرافة. لكنه في المقابل يستحق الشفقة لعجزه المريع عن تجاوز الذات اليهودية في الظاهر، الصهيونية في العمق. يكتب سيرته محاصرا بالمرايا التي لا يرى فيها سوى نفسه، يدمن النظر إلى حياته من مختلف الزوايا بوصفه ناجيا ينحدر من سلالة ناجية. عقدة النجاة لديه تضاعف من إحساس «اليهودي الجديد» بالمظلومية والاستحقاق في الوقت نفسه؛ لأن الكره الذي لاحق اليهود لم يكن، كما يزعم، سوى تعبير عنيف ووحشي عن حسد «العالم الكبير» على الامتيازات الفطرية التي تمتعوا بها: «لا يحبون اليهود لأنهم فطِنون، متوقدو الذهن ومتفوقون، وإلى جانب ذلك ضوضائيون يقفزون دائما في المقدمة».
حتى اللغة العبرية كانت بالنسبة إليه لوح نجاة من المنافي اليهودية بين لغات أوروبا وعواصمها، على الرغم من أنها لم تكن لغةً طبيعية في البداية، ولم تتمتع بما يكفي من الحميمية في الأحاديث المنزلية ولا الألفة في النقاشات العامة: «كانوا يتكلمون العبرية وهم يرهبون الوقوع في الخطأ، يتراجعون أحيانا كثيرة ويصوغون من جديد ما قالوه لتوهم: ربما هكذا يشعر سائق قصير النظر وهو يتحسس طريقه في الليل، في شبكة الطرقات الضيقة لمدينة غريبة، في سيارة لم يسقها من قبل». وهكذا عاش طفولته في القدس بين أبوين متعددي اللغات، هما اللذان أصرا على ألا يتحدثا إليه سوى بالعبرية، أراداه أن يعبر عن نفسه بالعبرية دائما لكي يكبر إسرائيليا خالصا في إسرائيل. لم يتحدثا معه بأي لغة أوروبية مما يتقنان حتى لا يصيبه الحنين الخبيث إلى العالم الغربي، ذلك الحنين الذي بدأت أعراضه تشيع كوباء سري بين الإسرائيليين الأوائل.
لطالما فكرت بأقوى الصور العاطفية التي يمكن للقارئ الغربي أن يستقبل بها الرواية الإسرائيلية، وأستطيع أن أجزم الآن بأن عاموس عوز يمثل التجويد الأبلغ للبكائيات الإسرائيلية التي وإن لم تقنع أحدا فإن وظيفتها الأهم هي استدرار المزيد من دموع أصنام الحرية وتماثيلها الاعتذارية في الغرب: «هناك في العالم جميع الحيطان كانت مغطاة بالكتابات المعادية: (أيها اليهودي الحقير اذهب إلى فلسطين) وها قد ذهبنا إلى فلسطين والآن كل العالم يصرخ علينا: (أيها اليهودي الحقير، اخرج من فلسطين)». إن سطرا كهذا ليكفي بحق أن يمنح عوز رتبة الأبوة في الأدب العبري.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
في هذه الساعات الوحشية من التاريخ قررت أن أقرأ السيرة الروائية للكتاب الإسرائيلي عاموس عوز «قصة عن الحب والظلام» التي ترجمها جميل غانم إلى العربية. من بين أشياء كثيرة فإن أهمية عوز تكمن بالنسبة لي كقارئ عربي في نقطة الالتقاء الخطرة تلك بين الخطاب الأدبي والخطاب السياسي، حيث استطاع عوز أن يتبوأ سلطةً ثقافية لم تُتح لغيره من المثقفين الإسرائيليين، فتحوَّل بها من مجرد موهبة أدبية فريدة إلى هِبة إسرائيلية عامة، هبة أنجبتها لغة أوشكت على الانقراض ودفعتها إلى الصدارة لتزود السردية الصهيونية بما ينقصها من شرعية أخلاقية وجمالية في أكثر اللحظات التي بدت فيها إسرائيل «بحاجة إلى أصوات تتحدث إلى العالم الخارجي لتقدم وجها أكثر إنسانية من وجه آرييل شارون» كما تقول جوليا باسكال، في إشارة للاضطراب الذي لحق بصورة إسرائيل في الغرب خلال اجتياح لبنان عام 1982، وخاصة في أعقاب الصدمة المروعة التي أحدثتها مجزرة صبرا وشتيلا.
حتى وهو يحل ضيفا على لغة معادية خارج قلعته العبرية، يستحق عوز الاعتراف والإعجاب بقدرته الساحرة على نسج حبائل السرد بخفة، والتلاعب بمكائد البلاغة، والمشي على رؤوس الأصابع بين التاريخ والخرافة. لكنه في المقابل يستحق الشفقة لعجزه المريع عن تجاوز الذات اليهودية في الظاهر، الصهيونية في العمق. يكتب سيرته محاصرا بالمرايا التي لا يرى فيها سوى نفسه، يدمن النظر إلى حياته من مختلف الزوايا بوصفه ناجيا ينحدر من سلالة ناجية. عقدة النجاة لديه تضاعف من إحساس «اليهودي الجديد» بالمظلومية والاستحقاق في الوقت نفسه؛ لأن الكره الذي لاحق اليهود لم يكن، كما يزعم، سوى تعبير عنيف ووحشي عن حسد «العالم الكبير» على الامتيازات الفطرية التي تمتعوا بها: «لا يحبون اليهود لأنهم فطِنون، متوقدو الذهن ومتفوقون، وإلى جانب ذلك ضوضائيون يقفزون دائما في المقدمة».
حتى اللغة العبرية كانت بالنسبة إليه لوح نجاة من المنافي اليهودية بين لغات أوروبا وعواصمها، على الرغم من أنها لم تكن لغةً طبيعية في البداية، ولم تتمتع بما يكفي من الحميمية في الأحاديث المنزلية ولا الألفة في النقاشات العامة: «كانوا يتكلمون العبرية وهم يرهبون الوقوع في الخطأ، يتراجعون أحيانا كثيرة ويصوغون من جديد ما قالوه لتوهم: ربما هكذا يشعر سائق قصير النظر وهو يتحسس طريقه في الليل، في شبكة الطرقات الضيقة لمدينة غريبة، في سيارة لم يسقها من قبل». وهكذا عاش طفولته في القدس بين أبوين متعددي اللغات، هما اللذان أصرا على ألا يتحدثا إليه سوى بالعبرية، أراداه أن يعبر عن نفسه بالعبرية دائما لكي يكبر إسرائيليا خالصا في إسرائيل. لم يتحدثا معه بأي لغة أوروبية مما يتقنان حتى لا يصيبه الحنين الخبيث إلى العالم الغربي، ذلك الحنين الذي بدأت أعراضه تشيع كوباء سري بين الإسرائيليين الأوائل.
لطالما فكرت بأقوى الصور العاطفية التي يمكن للقارئ الغربي أن يستقبل بها الرواية الإسرائيلية، وأستطيع أن أجزم الآن بأن عاموس عوز يمثل التجويد الأبلغ للبكائيات الإسرائيلية التي وإن لم تقنع أحدا فإن وظيفتها الأهم هي استدرار المزيد من دموع أصنام الحرية وتماثيلها الاعتذارية في الغرب: «هناك في العالم جميع الحيطان كانت مغطاة بالكتابات المعادية: (أيها اليهودي الحقير اذهب إلى فلسطين) وها قد ذهبنا إلى فلسطين والآن كل العالم يصرخ علينا: (أيها اليهودي الحقير، اخرج من فلسطين)». إن سطرا كهذا ليكفي بحق أن يمنح عوز رتبة الأبوة في الأدب العبري.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني