ولد سعيد بن محمد بن راشد بن بشير الخروصي الغشري بلدته «ستال» وهي قرية جميلة من قرى «وادي بني خروص» المعروف بأنه من أجمل أودية عُمان وأحصنها، وأهله لهم أسبقية في العلم وهم أهل كرم ونجدة وشهامة. وفي هذه القرية توفي وقبره موجود بها ومعروف. وقد مجد الغشري قريته هذه وافتخر بها:
إني خروصي (ستال) داري
عزيزة شهية القرار
إن ضعضع الجور قوى الأمصار
وشاب ضعف العيش بالأكدار
ساكنها ماسيم بالصغار
وما رماه الدهر بالبوار
وقد قدمت مجلة نزوى في يناير عام 2008، مقالًا موسعًا بقلم الأديب الكبير أحمد الفلاحي، بعنوان "الغشري من خلال قصائد ديوانه"، ولو كان بيدنا لأوردنا المقال كله نظرًا لقيمته، وحسبي أن أقتبس منه، ومما جاء في المقال "كانت حياة الغشري في القرن الثاني عشر الهجري، ويرى الشيخ مهنا بن خلفان الخروصي أنه توفي بعد عام 1171هـ، وهو شاعر زاهد شديد التدين متعلق بالآخرة وبعزة الإسلام. وكما يبدو من شعره أنه عاصر أواخر الدولة اليعربية، حيث غلب الفرس على البلاد وتسلّطوا على أهلها وأذاقوهم مر العذاب، وحصلت مآسٍ وفضائع رهيبة أثارته ووجهت شعره وجهة الاستنهاض وتحرير البلاد.
"الغشري عبّر بصدق عن كل ما كان عليه حال مجتمعه ووطنه وعكس لنا صورة واضحة لذلك العصر المضطرب الذي عاش فيه، ولا نعلم أديبًا عمانيًا سجل الحالة التي عاشها ورآها كما فعل الغشري، ولم يكن شعره في الحقيقة تسجيلًا مجردًا لواقع الأمر وإنما كان استنهاضًا لقومه واستصراخًا لهم ليبادروا إلى تغيير الحال والانطلاق إلى محاربة الخصم وتوحيد الصفوف وأغلب شعره من هذا النوع تحس فيه الغضبة وتجد فيه الثورة والغيرة.
كانت فترة حياته فترة مضطربة مليئة بالأحداث والحروب وتسلط العدو الخارجي على البلد في ظل فرقة أهلها وانقسامهم، ونجد الشاعر يعيّرهم بهذا الضعف وهذه الذلة، ويثير نخوتهم وحميتهم الوطنية والدينية ويتفطر قلبه ألمًا للحالة التي وصلت إليها الدولة بعد الصيت العظيم الذي كانت عليه دولة اليعاربة التي أدرك هو بنفسه طرفًا من أمجادها. كما أننا نلمح من شعره محاولات للقيام والثورة ويبدو في بعض قصائده كأنه متفائل بنجاح حركته وانتصارها ولكن ما نلبث أن نراه يعود إلى التحسر والأسف.
وقد كشفت المقدمة النثرية الطويلة التي تصدرت الديوان عن هذا الهاجس الملح لديه فهي البوابة التي جعلها تستقبل القارئ لحظة دخوله لتقوده نحو أفكار الشاعر وقناعاته قبل وصوله إلى أشعاره، ها هو ذا يصرخ متألماً للحالة التي انحدرت إليها بلاده عمان في تلك الفترة فهو يرى أن مرض «الرمد» قد أصابها في عينيها وحال بينها وبين الرؤية وما ذلك إلا بسبب الطبيب الذي أفقدها الإبصار بدوائه المضر وعلاجه الخاطئ.
رمدتْ عمان فنالها
بِدَوَا الطَّبيب عَمَاءُ
آهٍ لفقدِ العدلِ إِذ
فُقِدَ الأُلَى الفُضَلاءُ
فسَدَ الرعيةُ بعد ما
فسدتْ بها الأمراءُ
حلَّت عليهم حين ما
غَلَبَتْهُمُ الأهواءُ
من ذي انتقامٍ نقمةٌ
عمَّتهُمُ دَهْيَاءُ
آهٍ لدمرٍ زانَهُ
أهلُ النُّهى العقلاءُ
والآن دهري شأنه
أهل الهوى الجهلاءُ
فاسكن أخي شمر الذرى
ما دامت الغوغاء
واعبد إلهك موقنا
رباً له النعماءُ
ويخاطب قومه داعيًا إياهم للتوحد وترك الفرقة والمشاجرة واقتفاء طريق الأجداد وهو طريق العدل والإخاء ومن ثم تولية الأمر لرجل مؤهل يستطيع قيادة الوطن والنفاذ به من هذه المحنة:
يا عصبتي من بني أزدٍ ألا تسمعوا
مني مقالاً بأن الحق منبلج
ذروا التشاجر فيما بينكم ودعوا
قول الوشاة فما قولي به عوج
لا تشمتون بنا الأعداء وانتهجوا
مناهج العدل ما آباؤكم نهجوا
ألا تعالوا لنسعى في سبيلهم
لعل يبلغ بعض ما له عرجوا
والأمر نوليه أهل الرأي ليس له
ذو قربة أبداً قد مسه عوج
يا أسعد الله ذاك اليوم يوم به
طرف الأسنة في أعدائكم يلج
ولكن ليس هناك من يسمع. وتتصاعد زفرات شاعرنا فيرسل الدموع دمًا للأمر المهول:
إبك على العدل وأيامه
ما جن ليل وبدا بدر
واسكب شآبيب دم أحمر
والحق خال ربعه قفر
فأين قوام الهدى يا فتى
أضحوا وأين السادة الغر
ماتوا فمات الحق من بعدهم
واشتد أمر وبدا العذر
ويدعو القوم إلى الحرب وإن كانت مريرة وصعبة ويقول إنها لا بد منها حامية الوطيس تطحن العدى وإن طحنت غيرهم:
فأي معيشة من بعد هذا
وأضحى الأمر أمر الجاهلينا
أقيموا للحروب رحى طحونا
ولو إني أكون بها طحينا
إلى أن يستقيم الحق جهرًا
وإن متم فأنتم مُعذرونا
فإن نصر فذلك من إلهي
وإن حتف فأنتم رابحونا
فهل من غيرة في الله تبدو
وقد ظهر اعتداء المعتدينا
يتردد النداء مرة بعد مرة نحو علماء الدين يناشدهم قيادة الناس لإظهار الدين وإقامة العدل فلا يجوز العذر أو السكوت:
فيا علماء الخير حجة خالقي
على خلقه لله قوموا وحاولوا
لإظهار دين الله في كل ساعة
وإن لام لوّام وعج العواذل
فما العذر والإعراض عن منهج الهدى
وقد حدثت بين الأنام الزلازل
إذا تجاوزنا القضية الوطنية في شعر الشاعر ودعوته إلى إقامة العدل وإزاحة الجور إلى الأغراض الأخرى التي طرقها فنجده في الغزل متكلفًا يمر به مرورًا سريعًا في مطالع قصائده وكان غزله باردًا لا حياة فيه ولا روح بل هو تقليد ومحاكاة، وهو قليل جدًا في ديوانه.
وفي الذاتيات وأحوال المجتمع وجدناه يهتم بالكثير من الحوادث والأمور التي كانت تقع على أيامه فنجده يتحدث عن الخصب الذي عم البلد في سنة من السنين وعن الأمطار والجوائح التي أثرت على الزروع والثمار. وعن بيته في الرستاق الذي يصفه ويصف موقعه الممتاز في تلك المدينة العريقة التي يحبها ويثني عليها وعلى أهلها أطيب الثناء:
إني اصطفيت من المساكن منزلاً
في جنبه الشرقي نهر جاري
بجواره لله بيت عامر
يا حبذا لك بيته من جار
وله أشعار إخوانية كثيرة. ومما يدل على اهتمامه بالكتب واعتزازه بها قصيدة طريفة عن كتابه الذي غرق في الماء فخاض وراءه مجتهداً لإنقاذه فلما لم يجده بكى عليه في حسرة وحزن:
دهتني ولا أشكو لربي مصيبة
اتتني وحلت في فؤادي وفي قلبي
كتاب ثوى من بعدما قد رفعته
على حجر في جدول دائم السكب
وقد خضت أقفو إثره لم أقف له
على خبر يؤتى ببعد ولا قرب
كتاب عليه العين تنهل عبرة
فلا عوض لي فيه عن سائر الكتب
والغشري يأنف من السؤال ومدح الملوك والأمراء مستجديًا إحسانهم وعطاياهم كشأن الشعراء الآخرين:
فشعري ليس استجدي
به الأمراء والوزرا
ولكن كله حكم
إذا بين الورى نثرا
هكذا الغشري في عزة نفسه وسمو شخصيته يأبى التذلل والتمدح للحكام سعيًا لنيل الهبات والجوائز ترفعًا بنفسه عن مثل تلك المواقف وأنفة عن الوقوف بالأبواب ومد اليدين بالسؤال فهو لا يسأل إلا الله ولا يتضرع إلا إليه ولا يلتمس العطاء إلا منه. وله نصائح للإمام سلطان بن مرشد اليعربي وهو آخر أئمة اليعاربة وللإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي مؤسس الدولة البوسعيدية، وهي نصائح صادقة فيها التوجيه والإرشاد والدعوة إلى الاستقامة والعدل. فيقول للإمام سلطان بن مرشد:
إليك إمام المسلمين نصيحة
ونصحي يبدو لا يجافي مقالتي
فكن خاشعا ذا عفةٍ متواضعًا
صبورًا شكورًا زاهدًا ذا إنابة
ومستعملًا أهل الأمانة راغبًا
لدار سوى دنياك دار المقامة
وفي قصيدته للإمام أحمد بن سعيد يقول:
قل للإمام بلغت المجد غايته
بوركت من سيدٍ في العالم البشري
كفاك فخرًا غداة الفرس قادمة
تسعى بجيش كمثل الليل معتكر
كادت عمان يد الأعداء تأسرها
لولا عزائمه جاءت على قدر
قل للإمام بأن قد سرت منتكبًا
أمرًا جليلًا وفيه غاية الخطر
اسلك طريقة أهل العدل من سلف
كالصاحبين أبي بكر كذا عمر
واحرس بلادك ممن ظل مرتقبًا
لفترة منك واحذر غاية الحذر
وفي الأمور استشر يومًا إذا ظهرت
لكل علَّامةٍ نطسٍ وكل دري
هكذا هي نصائحه للحكام صادقة خالصة، دعوة إلى العدل وإظهار الحق وإلى الأخذ بالسياسة الحكيمة وعدم الاستبداد بالرأي واقامة الحكم على الشورى.
والغشري إنسان تفيض إنسانيته بالتأثر حينما يداهم الموت أولئك الذين يعزهم ويحبهم من أهله وأقاربه وذوي مودته وخاصة من العلماء والصلحاء وأهل الدين والتقوى ومن ذلك رثاؤه للعالمة الشيخة عائشة بنت راشد الريامية البهلوية:
لقد غيض بحر العلم وانهد طوده
وأضحى لواء الدين ملقى الدعائم
لسيدة من آل قحطان غودرت
ببطن الثرى مثوى العظام الرمائم
أعزّي إمام المسلمين بموتها
كذلك كل المسلمين الأكارم
وما جمعها إلا كتاب ومصحف
كذا يبتغي من جمعه كل عالم
وتبذل نفسًا في الإله عزيزة
لإنصاف مظلوم وتهوين ظالم
هي امرأة شماء لكن بفضلها
توازن ألفًا من أسود ضراغم
ولا تختشي في الحق صولة صائل
ولم تثنها في الله لومة لائم
جدير بأن تبكي عمان وأهلها
عليها بدمع من عيون سواجم
ويقول في رثاء أمه، قصيدة تصوّر آهاته وأحزانه على والدته التي قضى الموت بفراقهما وتلك هي صفاتها الرائعة الطيبة.
عشية واراها التراب تكاثفتْ
علي الرزايا الهمّ والحزن والفقدُ
فلا بعدها في العالمين مشافق
عليّ ولا خدن نصيح ولا ودُّ
فأم ولا برت ولود بابنها
كما هي برت بي فإحسانها يبدو
فلست أؤدي عشر معشار حقها
عليّ لها من بعد مولى الورى الحمد
تبيتُ تجافي جنبها عن مهادها
قيامًا لمولاها وقرآنه ورد
من الراكعات الساجدات لربها
بها شيمة من زهدها الجد والجهد
وكانت غياثًا للأرامل إن عدا
زمان وللأيتام والضعفا مهد
سلام على الأم الشفيقة حينما
جرت فرقة من ربّنا ما لها بدُّ
سلام وريحان وروح ورحمة
عليها من الرحمن ما سبح الرعد
ويلمس المتلقي المباشرة وضعف الصور البيانية، رغم أن العاطفة صادقة ولكن التصوير لم يستطع أن يقدمها بصورة مؤثرة.
د. سالم البوسعيدي/ شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارا
إني خروصي (ستال) داري
عزيزة شهية القرار
إن ضعضع الجور قوى الأمصار
وشاب ضعف العيش بالأكدار
ساكنها ماسيم بالصغار
وما رماه الدهر بالبوار
وقد قدمت مجلة نزوى في يناير عام 2008، مقالًا موسعًا بقلم الأديب الكبير أحمد الفلاحي، بعنوان "الغشري من خلال قصائد ديوانه"، ولو كان بيدنا لأوردنا المقال كله نظرًا لقيمته، وحسبي أن أقتبس منه، ومما جاء في المقال "كانت حياة الغشري في القرن الثاني عشر الهجري، ويرى الشيخ مهنا بن خلفان الخروصي أنه توفي بعد عام 1171هـ، وهو شاعر زاهد شديد التدين متعلق بالآخرة وبعزة الإسلام. وكما يبدو من شعره أنه عاصر أواخر الدولة اليعربية، حيث غلب الفرس على البلاد وتسلّطوا على أهلها وأذاقوهم مر العذاب، وحصلت مآسٍ وفضائع رهيبة أثارته ووجهت شعره وجهة الاستنهاض وتحرير البلاد.
"الغشري عبّر بصدق عن كل ما كان عليه حال مجتمعه ووطنه وعكس لنا صورة واضحة لذلك العصر المضطرب الذي عاش فيه، ولا نعلم أديبًا عمانيًا سجل الحالة التي عاشها ورآها كما فعل الغشري، ولم يكن شعره في الحقيقة تسجيلًا مجردًا لواقع الأمر وإنما كان استنهاضًا لقومه واستصراخًا لهم ليبادروا إلى تغيير الحال والانطلاق إلى محاربة الخصم وتوحيد الصفوف وأغلب شعره من هذا النوع تحس فيه الغضبة وتجد فيه الثورة والغيرة.
كانت فترة حياته فترة مضطربة مليئة بالأحداث والحروب وتسلط العدو الخارجي على البلد في ظل فرقة أهلها وانقسامهم، ونجد الشاعر يعيّرهم بهذا الضعف وهذه الذلة، ويثير نخوتهم وحميتهم الوطنية والدينية ويتفطر قلبه ألمًا للحالة التي وصلت إليها الدولة بعد الصيت العظيم الذي كانت عليه دولة اليعاربة التي أدرك هو بنفسه طرفًا من أمجادها. كما أننا نلمح من شعره محاولات للقيام والثورة ويبدو في بعض قصائده كأنه متفائل بنجاح حركته وانتصارها ولكن ما نلبث أن نراه يعود إلى التحسر والأسف.
وقد كشفت المقدمة النثرية الطويلة التي تصدرت الديوان عن هذا الهاجس الملح لديه فهي البوابة التي جعلها تستقبل القارئ لحظة دخوله لتقوده نحو أفكار الشاعر وقناعاته قبل وصوله إلى أشعاره، ها هو ذا يصرخ متألماً للحالة التي انحدرت إليها بلاده عمان في تلك الفترة فهو يرى أن مرض «الرمد» قد أصابها في عينيها وحال بينها وبين الرؤية وما ذلك إلا بسبب الطبيب الذي أفقدها الإبصار بدوائه المضر وعلاجه الخاطئ.
رمدتْ عمان فنالها
بِدَوَا الطَّبيب عَمَاءُ
آهٍ لفقدِ العدلِ إِذ
فُقِدَ الأُلَى الفُضَلاءُ
فسَدَ الرعيةُ بعد ما
فسدتْ بها الأمراءُ
حلَّت عليهم حين ما
غَلَبَتْهُمُ الأهواءُ
من ذي انتقامٍ نقمةٌ
عمَّتهُمُ دَهْيَاءُ
آهٍ لدمرٍ زانَهُ
أهلُ النُّهى العقلاءُ
والآن دهري شأنه
أهل الهوى الجهلاءُ
فاسكن أخي شمر الذرى
ما دامت الغوغاء
واعبد إلهك موقنا
رباً له النعماءُ
ويخاطب قومه داعيًا إياهم للتوحد وترك الفرقة والمشاجرة واقتفاء طريق الأجداد وهو طريق العدل والإخاء ومن ثم تولية الأمر لرجل مؤهل يستطيع قيادة الوطن والنفاذ به من هذه المحنة:
يا عصبتي من بني أزدٍ ألا تسمعوا
مني مقالاً بأن الحق منبلج
ذروا التشاجر فيما بينكم ودعوا
قول الوشاة فما قولي به عوج
لا تشمتون بنا الأعداء وانتهجوا
مناهج العدل ما آباؤكم نهجوا
ألا تعالوا لنسعى في سبيلهم
لعل يبلغ بعض ما له عرجوا
والأمر نوليه أهل الرأي ليس له
ذو قربة أبداً قد مسه عوج
يا أسعد الله ذاك اليوم يوم به
طرف الأسنة في أعدائكم يلج
ولكن ليس هناك من يسمع. وتتصاعد زفرات شاعرنا فيرسل الدموع دمًا للأمر المهول:
إبك على العدل وأيامه
ما جن ليل وبدا بدر
واسكب شآبيب دم أحمر
والحق خال ربعه قفر
فأين قوام الهدى يا فتى
أضحوا وأين السادة الغر
ماتوا فمات الحق من بعدهم
واشتد أمر وبدا العذر
ويدعو القوم إلى الحرب وإن كانت مريرة وصعبة ويقول إنها لا بد منها حامية الوطيس تطحن العدى وإن طحنت غيرهم:
فأي معيشة من بعد هذا
وأضحى الأمر أمر الجاهلينا
أقيموا للحروب رحى طحونا
ولو إني أكون بها طحينا
إلى أن يستقيم الحق جهرًا
وإن متم فأنتم مُعذرونا
فإن نصر فذلك من إلهي
وإن حتف فأنتم رابحونا
فهل من غيرة في الله تبدو
وقد ظهر اعتداء المعتدينا
يتردد النداء مرة بعد مرة نحو علماء الدين يناشدهم قيادة الناس لإظهار الدين وإقامة العدل فلا يجوز العذر أو السكوت:
فيا علماء الخير حجة خالقي
على خلقه لله قوموا وحاولوا
لإظهار دين الله في كل ساعة
وإن لام لوّام وعج العواذل
فما العذر والإعراض عن منهج الهدى
وقد حدثت بين الأنام الزلازل
إذا تجاوزنا القضية الوطنية في شعر الشاعر ودعوته إلى إقامة العدل وإزاحة الجور إلى الأغراض الأخرى التي طرقها فنجده في الغزل متكلفًا يمر به مرورًا سريعًا في مطالع قصائده وكان غزله باردًا لا حياة فيه ولا روح بل هو تقليد ومحاكاة، وهو قليل جدًا في ديوانه.
وفي الذاتيات وأحوال المجتمع وجدناه يهتم بالكثير من الحوادث والأمور التي كانت تقع على أيامه فنجده يتحدث عن الخصب الذي عم البلد في سنة من السنين وعن الأمطار والجوائح التي أثرت على الزروع والثمار. وعن بيته في الرستاق الذي يصفه ويصف موقعه الممتاز في تلك المدينة العريقة التي يحبها ويثني عليها وعلى أهلها أطيب الثناء:
إني اصطفيت من المساكن منزلاً
في جنبه الشرقي نهر جاري
بجواره لله بيت عامر
يا حبذا لك بيته من جار
وله أشعار إخوانية كثيرة. ومما يدل على اهتمامه بالكتب واعتزازه بها قصيدة طريفة عن كتابه الذي غرق في الماء فخاض وراءه مجتهداً لإنقاذه فلما لم يجده بكى عليه في حسرة وحزن:
دهتني ولا أشكو لربي مصيبة
اتتني وحلت في فؤادي وفي قلبي
كتاب ثوى من بعدما قد رفعته
على حجر في جدول دائم السكب
وقد خضت أقفو إثره لم أقف له
على خبر يؤتى ببعد ولا قرب
كتاب عليه العين تنهل عبرة
فلا عوض لي فيه عن سائر الكتب
والغشري يأنف من السؤال ومدح الملوك والأمراء مستجديًا إحسانهم وعطاياهم كشأن الشعراء الآخرين:
فشعري ليس استجدي
به الأمراء والوزرا
ولكن كله حكم
إذا بين الورى نثرا
هكذا الغشري في عزة نفسه وسمو شخصيته يأبى التذلل والتمدح للحكام سعيًا لنيل الهبات والجوائز ترفعًا بنفسه عن مثل تلك المواقف وأنفة عن الوقوف بالأبواب ومد اليدين بالسؤال فهو لا يسأل إلا الله ولا يتضرع إلا إليه ولا يلتمس العطاء إلا منه. وله نصائح للإمام سلطان بن مرشد اليعربي وهو آخر أئمة اليعاربة وللإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي مؤسس الدولة البوسعيدية، وهي نصائح صادقة فيها التوجيه والإرشاد والدعوة إلى الاستقامة والعدل. فيقول للإمام سلطان بن مرشد:
إليك إمام المسلمين نصيحة
ونصحي يبدو لا يجافي مقالتي
فكن خاشعا ذا عفةٍ متواضعًا
صبورًا شكورًا زاهدًا ذا إنابة
ومستعملًا أهل الأمانة راغبًا
لدار سوى دنياك دار المقامة
وفي قصيدته للإمام أحمد بن سعيد يقول:
قل للإمام بلغت المجد غايته
بوركت من سيدٍ في العالم البشري
كفاك فخرًا غداة الفرس قادمة
تسعى بجيش كمثل الليل معتكر
كادت عمان يد الأعداء تأسرها
لولا عزائمه جاءت على قدر
قل للإمام بأن قد سرت منتكبًا
أمرًا جليلًا وفيه غاية الخطر
اسلك طريقة أهل العدل من سلف
كالصاحبين أبي بكر كذا عمر
واحرس بلادك ممن ظل مرتقبًا
لفترة منك واحذر غاية الحذر
وفي الأمور استشر يومًا إذا ظهرت
لكل علَّامةٍ نطسٍ وكل دري
هكذا هي نصائحه للحكام صادقة خالصة، دعوة إلى العدل وإظهار الحق وإلى الأخذ بالسياسة الحكيمة وعدم الاستبداد بالرأي واقامة الحكم على الشورى.
والغشري إنسان تفيض إنسانيته بالتأثر حينما يداهم الموت أولئك الذين يعزهم ويحبهم من أهله وأقاربه وذوي مودته وخاصة من العلماء والصلحاء وأهل الدين والتقوى ومن ذلك رثاؤه للعالمة الشيخة عائشة بنت راشد الريامية البهلوية:
لقد غيض بحر العلم وانهد طوده
وأضحى لواء الدين ملقى الدعائم
لسيدة من آل قحطان غودرت
ببطن الثرى مثوى العظام الرمائم
أعزّي إمام المسلمين بموتها
كذلك كل المسلمين الأكارم
وما جمعها إلا كتاب ومصحف
كذا يبتغي من جمعه كل عالم
وتبذل نفسًا في الإله عزيزة
لإنصاف مظلوم وتهوين ظالم
هي امرأة شماء لكن بفضلها
توازن ألفًا من أسود ضراغم
ولا تختشي في الحق صولة صائل
ولم تثنها في الله لومة لائم
جدير بأن تبكي عمان وأهلها
عليها بدمع من عيون سواجم
ويقول في رثاء أمه، قصيدة تصوّر آهاته وأحزانه على والدته التي قضى الموت بفراقهما وتلك هي صفاتها الرائعة الطيبة.
عشية واراها التراب تكاثفتْ
علي الرزايا الهمّ والحزن والفقدُ
فلا بعدها في العالمين مشافق
عليّ ولا خدن نصيح ولا ودُّ
فأم ولا برت ولود بابنها
كما هي برت بي فإحسانها يبدو
فلست أؤدي عشر معشار حقها
عليّ لها من بعد مولى الورى الحمد
تبيتُ تجافي جنبها عن مهادها
قيامًا لمولاها وقرآنه ورد
من الراكعات الساجدات لربها
بها شيمة من زهدها الجد والجهد
وكانت غياثًا للأرامل إن عدا
زمان وللأيتام والضعفا مهد
سلام على الأم الشفيقة حينما
جرت فرقة من ربّنا ما لها بدُّ
سلام وريحان وروح ورحمة
عليها من الرحمن ما سبح الرعد
ويلمس المتلقي المباشرة وضعف الصور البيانية، رغم أن العاطفة صادقة ولكن التصوير لم يستطع أن يقدمها بصورة مؤثرة.
د. سالم البوسعيدي/ شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارا