إذا ما قارنت نفسي مع الأصدقاء الذين يمتهنون مهنتي (أعني الكتابة هنا)، أُفاجأ كل مرة أن العمل لديهم متوقف على الوقت المتوفر. يقولون مثلا: لدي ساعتان لأنجز هذه المهمة، ثم يجلسون إلى حواسيبهم، منكبين على العمل، ليسلموا بنهاية الساعتين ما طُلب منهم. فيما تبدو كل مهمة ذهنية (ليس الكتابة وحدها) كولادة عسيرة بالنسبة لي. ضاعَف هذا بالطبع الحرب على غزة. إذ يكاد الواحد منا يشعر بشلل يُعجزه عن ممارسة أي نشاط.

لا أُريد أن أتغنى بعلاقة الأعمال الإبداعية، بهذا الشيء الذي نعجز عن الإحاطة به، ونُسميه تجاوزا للإلهام. رغم أننا نُصدق -مع تشكينا وتشككنا- أن انتظار الإلهام -لا الاستجداء- هو ما يُنتج الأعمال ذات الجودة العالية. وهذا طبعا ما تؤكده لنا كل مرة التجارب التي نمتلك فيها من الوقت ما يجعلنا نعمل على راحتنا. لكن يُدحض أيضا -وفق تجارب أخرى- إذ تؤدي وفرة الوقت لشعورنا بعدم التحفيز.

منذ بداية الحرب، وأنا أُفكر أن هذه المهنة وما شاكلها أسوأ ما يُمكن أن يمتهنه أي منا. فبينما تقوم المبرمجة -مثلا- بالاشتغال على أكوادها، والطبيبة مع مرضاها، والخباز مع عجينته، يشتبك المنخرطون في المهن الثقافية مع أقسى سؤال: كيف يُمكن تبرير كل هذا الظلم؟ وما جدوى ممارسة أي عمل يخون غايته الأولى والأهم: أن يفتح أبوابا جديدة، أن يضع الرأي بإقدام، أن يمس، ويؤثر، ويحشد؟

دفعتنا هذه الحرب لإعادة رسم حدود المقاطعة، نوسعها شوية شوية، نُعيد الحسابات، نزن الحسنات والسيئات، ونتراجع عن بعض المبادرات مقابل أخرى. فمن جهة يدعو البعض إلى المقاطعة الثقافية والأكاديمية. بالطبع لا يتجاوز هذا -في معظم الحالات- دور تسجيل الموقف، ويأمل أملا -مستحيل التحقق تقريبا- في أن يُضعف توليد وتلقي منتجات الثقافة والمعرفة التي تستديم السرديات الجاحدة لحقوق المُستعمَرين، المهاجرين، وضحايا التمييز والعنف والإبادة. كالتي تُساهم في إنكار الحق الفلسطيني، تُعطّل نيله، أو تفرض استخدام لغة «بيضاء»، جامدة، مفرغة من العواطف، صحيحة، مراعية لمشاعر الآخرين - عند معالجة القضية. شروط تُستخدم لترهيب المناهضين للظلم، لغة لا يُمكن أن ينتج عنها ما إن توافي هذه الشروط، سوى انحياز للقوي، وتمييع للمواقف. بينما يؤكد آخرون (وأنا ميّالة لهذا طبعا) أنه لا بأس من استغلال صناديق التمويل الأوروبية، لدعم وتمويل المشاريع الثقافية. خصوصا أن مثل هذه التجارب أنتجت لنا أفضل منصات الإعلام البديل في العالم العربي، وأقوى مِنح الإنتاج الإبداعي والثقافي.

رغم صعوبة الأمر، فأنا لم أتخلف عن الوفاء بالتزاماتي. شيء لا يُصدق! الحياة تمضي فعلا، مدفوعة بحاجاتنا الأساسية، وخوفنا الذي نجحوا في توطينه. منذ بداية الحرب وأنا -وغيري- نُفكر، ونعمل جديا حتى لا نكون في اشتباك مُباشر مع ما يحدث، لأنه غالبا ما يأتي مع دفق من الخزي، وشعور بالتواطؤ حتى، كلما ألزم الكُتّاب/الكاتبات أنفسهم باللغة والخطوط الحمراء التي يرسمها لهم المُحرِرون (والتي تختلف من منصة إلى أخرى، من بلد إلى آخر).

وصل بي الأمر -وهذه قصة جيدة، يبدو أن من المناسب مُشاركتها اليوم- أقول: وصل بي الأمر إلى التقدم لوظيفة بائعة في أكشاك الشارع الذي أقطن فيه في مدينة هانوفر. لا توظف الأكشاك في شارعنا أحدا بشكل رسمي وقانوني حتى لا تضطر لأن تدفع الحد الأدنى للأجور مقابل ساعة العمل، دعك من عرض أي امتيازات أخرى. المهم أنني قدمت مع استعداد لأن يُدفع لي -تقريبا- نصف الحد الأدنى في الساعة الواحدة. ما لم أقبل به هو اشتراطهم أن أعمل لبضعة أيام دون مقابل في فترة تدريبي على رأس العمل، فعلى المرء -كما يبدو- أن لا يأخذ الموضوع -موضوع حفظ أسماء أوراق اللف، أسعار الحلويات، وأنواع التبغ- بخفة. فتح هذا عيني على درجة الجشع التي تُدار بها الأمور، فغادرت المكان مُدركة أن هذه الاشتراطات قادمة من يقينهم أن ثمة من يُجبرهم عدم توفر البدائل للقبول بشروطهم المُجحفة شرطا شرطا. ليس هذا فحسب، فما إن تُشغل هذه الوظيفة، سيأتي من لا ينجح حتى في دخول دورة الاستغلال هذه.

يُوصّفُ أشيل مبيمبي -الفيلسوف والعالم السياسي الكاميروني- هذا الوضع على نحو رائع، في كتابه «نقد العقل الزنجي»، حين يقول: «لم يعد يُوجد عمال على هذا النحو إنما الموجود هم عمال رحل. فبعدما كانت مصيبة الذات بالأمس تتمثل في استغلال رأس المال لها، أصبحت المأساة بالنسبة لعدد غفير منهم تتمثل في عدم قدرتهم ولوج دائرة الاستغلال بتاتا، وهم بذلك عرضة للاستبعاد في «إنسانية غير ضرورية»، «مهملة» لا يحتاج إليها رأس المال في نشاطه.»

أقرأ مبيمبي هذه الأيام لأمرين: أولا، في سياق مقاطعة منتجات المعرفة الأوروأمريكية، والالتفات أكثر لنتاج الجنوب العالمي. ثانيا، (واعتبروا هذه تشويقة) استعدادًا لترجمة ورقة تتناول أحد أفكاره المهمة، ذات العلاقة المباشرة بما يحصل اليوم في غزة. أعني، وضعه الهولوكوست ضمن النقاش ما بعد الاستعماري، ونقد فكرة فرادته، التي لطالما استُغلت لإنكار الحق الفلسطيني، وترهيب داعميه.

نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم