تصلبُ الثقافة أمام التحولات التي يقترحها الذكاء الاصطناعي من جهة، والمخاوف العارمة من الانزلاق في وحل التسليع من جهة أخرى، وسؤال: ماذا بعد ٣٠ عاما من الثراء والانفتاح؟ وكيف يمكن لجيل مُغاير عن جيل الثمانينيات أن يجد انعكاس اهتماماته وقراءته ماثلا في المتن العام دون أن يُكلف ذلك خسارة الثقل المعرفي والدور التنويري؟ وكيف يمكننا أن نقيس التأثيرات المباشرة المرتهنة بالأرقام، أو تلك التأثيرات غير المنظورة إلا على المدى البعيد؟
كل هذه الأسئلة وغيرها رافقت في ندوة: «نزوى، ٣٠ عاما من الإنجاز الثقافي»، التي أقيمت ضمن برنامج معرض مسقط الدولي للكتاب في الدورة الثامنة والعشرين، وبحضور نخبة من المفكرين والأدباء من مختلف دول العالم، فمجلة «نزوى» التي توسلت منذُ أعدادها الأولى الانفتاح على حقولٍ شاسعةٍ من الدراسات والآداب والفنون، متمتعة برؤية ثاقبة من رئيس تحريرها الشاعر سيف الرحبي الذي خاض المغامرة في وقت كانت فيه رياح التغيير تدق نَواقيسَها في منتصف التسعينيات، لتستوعبَ تنوُّعَ الأصوات في الداخلِ، وتأتي بأنهارٍ من المعارف من الخارج، لتصب جميعها في صالح تخلُّق المشروع الصلب والرصين، باتت تقترحُ عقب عقودها الثلاثة أسئلة من نوع مُغاير لمرحلتها القادمة.
المجلات التي تصنعُ الفكر لا تموت
في الكلمات الرئيسة للندوة، قدّم معالي الدكتور عبدالله الحراصي وزير الإعلام نفسه بوصفه كاتبا ومترجما وقارئا، رافق تجربة المجلة منذ أعدادها الأولى، وأصدر عبرها كتابه: «دراسات في الاستعارة المفهومية»، وقد أكد على المخاوف التي تعتري العالم جراء ما تجلبه التكنولوجيا الآن من مقترحات، وتساءل حول سُبل التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل إنّه شاركنا تجربته في طرح الأسئلة عليه، حول إن كان في مقدوره أن يكتب قصيدة تتفوق على ما كتبه البشر، فأجابه الذكاء الاصطناعي بأنّه مُطلع على المنجز الشعري الذي كتبه البشر، وبالتالي فهو قادر على هضم هذه التجربة لخلق تجربة مُماثلة، الأمر الذي يضعنا أمام أكثر الأسئلة التي تعصف بالعالم اليوم، لكن الحراصي من جهة أخرى، قدّم مثالا دالا على مُسايرة المجلة للتغيرات الجديدة، عبر إنتاجها لثلاثة أفلام تتحدثُ عن الوجود العُماني في شرق إفريقيا بالتعاون مع شركة ديماكس الألمانية، وهو تحول وانفتاح على شكل جديد من السياقات الثقافية، وقد تأمل رئيس تحرير مجلة نزوى الشاعر سيف الرحبي، الزمن الذي انقضى سريعا ومشتبكا بسؤال المعرفة الأكثر شمولية، وأكد الرحبي على أنّ مادة المجلة هي مرآة لأفكار ورؤى من كتبوا فيها على مدى عقودها الثلاثة.
أما الأكاديمي والناقد والمترجم السعودي الدكتور معجب الزهراني، فقد كان من ضمن الذين كتبوا في الأعداد الأولى من المجلة، وقد جمعته صداقة مديدة بسيف الرحبي في باريس قبل صدور الأعداد. أخبرنا الزهراني بأنّ المجلة موجودة جوار أهم الدوريات في باريس، وأكثر ما لفته ولفت آخرين -منذ الأعداد الأولى- هو استقطاب أشكال مختلفة من الكتابة دون الارتهان إلى شكل مُحدد، كما لفتته العناية التي حاز عليها الاشتغال المغربي على وجه التحديد، ومن أهم النقاط التي طرحها الزهراني أيضا، وجهة نظره التي تقول بأنّ: المجلات الثقافية الرصينة التي تصنعُ الفكر لا يمكنها أن تموت بسهولة، ولذا فقد نسف المخاوف والتصورات بشأن اضمحلالها، بل شدد على أهمية أن تجاور المجلة أخوات قاصدا «مجلات أخرى». الباحث والأكاديمي د.محسن الكندي: أكد على دور مجلة نزوى في العناية بالجانب المحلي، فقد نشرت لعدد من الأسماء الذين ظلمهم النقاد العرب من مثل أبي مسلم البهلاني، وقد تتبع الكندي ثلاثة أجيال كتبت في المجلة: «جيل الجامعة»، والجيل الممتد من 2004 إلى 2014 وقد أطلق عليه «جيل التشكيل» وانتهى إلى «جيل التبلور».
التراث والفلسفة وتحرر النصّ
قُدمت في اليوم الأول من أعمال الندوة، قراءات في الخطاب الثقافي لمجلة نزوى شارك فيها الدكتور أحمد المديني بورقة بعنوان «تحديثُ الأصيل.. وتأصيلُ الحديث»، فقد وجد أنّ متن نزوى يتميز بقراءة جديدة للتراث بمنظار مناهج ومفاهيم حديثة لإحيائه وإعادة اكتشافه؛ وترسيخ أسس نقدية ذات حمولة ومنهجية حديثة تتحرك في حقل شاسع من النظر والفهم والتطبيق بغية تأصيلها في أفق حداثة أوسع وأعمق. بينما خصصت الدكتورة فاطمة الشيدية أرضية اشتغالها لاستقراء النصّ الشعري العُماني الجديد في ثلاثين عامًا من عمر المجلة تحت عنوان: «الشعر العُماني في مجلة نزوى، الثيمة والسمات، دراسة أسلوبية»، فقد رأت الشيدية أنّ مجلة نزوى كسرت طوق تلك العزلة الثقافية الراسخة والعميقة وفتحت الأبواب مشرعةً للنص الشعري العُماني الجديد بكل تحرره وثورته على كل المرتكزات المتوارثة، وأفسحت له المجال لتحديد منطقة وقوفه الجادة، ووضع لبنات حضوره وصناعة أفقه وأجنحته الخاصة للتحليق بموازاة ذلك الإرث والانطلاق منه لما لا يحدّ. وقد أتاحت الورقة الجانب الإحصائي للمتلقي للوقوف على الكم في المنتج الشعري العُماني في عمر المجلة الثقافي والزمني. نظر الدكتور أحمد برقاوي لمجلة «نزوى» بوصفها أرشيفا للعقل العربي في صوره المختلفة: الأدبية والنقدية والفكرية والفلسفية. والأرشيف هو ذاك الذي يمنح تاريخ العقل ملامحه. وأكد على انطواء المجلة على فلسفة الأنا والآخر، الفلسفة العربية الوسيطة والمعاصرة وفلسفة الآخر، وهذا يعني أنها عبّرت عن نمطين من الوعي، الوعي الذاتي والوعي الذاتي بالآخر. بينما قام الباحث عبدالرحمن المسكري في ورقته التي حملت عنوان: «مقاربات التراث العربي في مجلة نزوى: الشعر أنموذجا»، باستجلاء حضور مدونة التراث الأدبيّ في مجمل أعداد مجلة نزوى البالغة 117 عددًا منذ صدور عددها الأول في 1994، حتى 2024؛ تعريفًا بأهم الدراسات التي تناولت التراث الأدبيّ العربيّ في مسالكه الفكرية وطرائقه التعبيرية المختلفة. كما تضمنت دراسته الإحاطة بالدّراسات التي تناولت الشّعر العربيّ القديم، وتقديم قراءة واصفة للمقاربات النقدية التي تفاعلت معه، وسَعت إلى تقديم قراءات صادرة عن مناظيرَ حديثةٍ ومناهجَ نقديّةٍ متباينةِ المراجع والأصول.
بين الماضي الخصيب واختراق الحدود
في المداخلة التي ألقاها الشاعر عيسى مخلوف أشار إلى توقّف مجلّات شهريّة وفصليّة كثيرة عن الصدور، كان لها أثرٌ في المشهد الثقافيّ العربيّ. وكان توقُّفها مواكبًا لتحوّلات سياسية واقتصادية، ولضمور في المعنى الثقافيّ وتراجُع ليس في الكتابة النوعية وحدها، بل في القراءة النوعيّة أيضًا. وظلّت «نزوى»، رغم المصاعب، مُبحرة في مشروعها. وأكد مخلوف على أنّ المجلة: استطاعت أن تجمع حولها كوكبةً من الكتّاب والنقاد والمفكرين والفنانين والمترجمين من الجنسيات والتوجهات كافّةً. وقد تمكنت من رصد تحوّلات المشهد الثقافيّ، ومتابعة النتاجات الإبداعية شرقًا وغربًا، والانفتاح على الثقافات المختلفة انطلاقا من إيمانها بأهمّيّة التعدّد والتنوُّع. ولئن كانت تعيش الحاضر فهي تهجس بالمستقبل وتلتفت إلى الماضي. ليس الماضي المنغلق على نفسه كالقبر، وإنّما الماضي الخصيب، ذلك الذي تطلّعَ إلى آفاقٍ بلا حدود وسعى إلى اختراق المجهول. وفي الوقت الذي يُسلع فيه كل شيء يبقى الشعر حاضرًا بقوّة في هذه المجلّة، فالشعر لا يُكتَب بالكلمات فحسب، فهو يمثل رؤية خاصّة للحياة والوجود.
ربط الشاعر والمترجم الهواري غزالي شخصيَّة المجلَّة روحيًّا بشخصيَّة رئيس تحريرها الأستاذ سيف الرَّحبي، فلقد اصطبغت المجلَّة في تعدّدها وانفتاحها بالتَّعدُّدية نفسها التي يتميَّز بها سيف الرَّحبي. فلقد اجتمعت فيه سيرةُ المتنقِّل عبر الأمصار والأقطار ثمَّ انتقلت به إلى فضاء التَّعقُّل الذي أفضى إلى إنجاز مجلَّة بحجمٍ عَالَمٍ كامل، بما يفي ذلك ممَّا قالته العرب: «العلم علمُ أقدامٍ وليس علم أقلام». وليس «الاعتراف» هو القيمة الوحيدة التي حقَّقتها نزوى، فقد انتقلت من المعرفة إلى التَّعريف والتَّعارف والمعروف والعرفان والتَّعرف.
ماذا بعد 30 عاما؟
في اليوم الثاني من أعمال الندوة قدمت الدكتورة عائشة الدرمكية جلسة حوارية تحت عنوان: «مجلة نزوى وكتاب الاستشراق، التأثير والتلقي» بمشاركة عدد من الأسماء. وقد بدأت الكاتبة والمترجمة الإماراتية ظبية خميس الحديث بقولها: مجلة «نزوى» هي حصيلة جيل الثمانينيات، أولئك الذين ذهبوا للعولمة ولم تأت إليهم. غامروا صوب الآخر، عبر جيل متمرد راغب في الخروج عن المألوف وعن الثوابت التقليدية، وهكذا تأسست مدارسهم وأفكارهم من تلك الينابيع البعيدة. وأكدت ظبية على ارتباط المجلة بالشاعر سيف الرحبي فهي مرآة لتجربته في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. في وقت كانت فيه المدن الخليجية محافظة، ولم يكن من السهل أن يكون الإنسان حرا؛ فالحرية آنذاك كانت تجلبُ معها العداء الاجتماعي. كان محتوى المجلة ملائما لجيل متمرد على الأشكال الكتابية آنذاك. الرحبي المتنقل بين الإمارات ودمشق وبيروت وباريس ولندن ونيذرلاند والمغرب، ابن تلك التجربة وذلك التجوال، ولذا جاءت المجلة كحركة في الفكر واستجلاب لأفكار مغايرة، ولصنع وشائج مع العالم صبت في بوتقة نزوى. وأكدت ظبية على أنّ المجلة تأصلت مع رواد الحداثة آنذاك وقد هرموا الآن، ولذا يجب أن يكون السؤال: بعد ٣٠ سنة من الاستمرارية.. هل ستبقى على ما هي عليه؟ بعد ٣٠ عاما ما كان جديدا بات قديما، وما كنا نُناضل من أجله ليس ما تغامر من أجله الأجيال الحالية. علينا أن نعي بأن هذا الجيل ليس محمّلا بما كنا نحن محمّلين به، نحن اضطررنا لهجر أوطاننا بحثا عن منابر للنشر لم تكن متوفرة آنذاك. هذه الأجيال أقل صدامية وينبغي احتواؤها. ولذا علينا أن نفكر في تغيير المحتوى والشكل، وعلى المجلة أن تجد علاقة جديدة مع الأجيال الجديدة كيف يعبرون عن أنفسهم عبرها وما هو سقف الخطاب الذين يرغبون به؟
الحداثة ليست شططا وإنّما مشروع
يجد الكاتب والمفكر الجزائري أمين الزاوي بأنّ العمل الذي قامت به نزوى مثير للإعجاب حقا؛ لأنها انفتحت على بلاد المغرب، وعلى أولئك الذين يكتبون باللغات الأجنبية من مثل: الأديب محمد ديب، الشاعر مالك حداد وغيرهما. فالنصوص المترجمة من العربية للغات الأخرى للأسف لا تُحقق الحضور الكبير الذي يمكن أن تُحققه النصوص القادمة من اليابان والصين وكوريا الجنوبية، ويُرجع الزاوي الأمر للجوائز التي تتهاون في تقديم النصوص الجيدة. بينما عندما يكتب باللغة الأجنبية أمثال: رشيد بوجدرة، الطاهر بن جلون، ياسمينة خضراء، عبداللطيف اللعبي، فإنّها تُحدث أثرا جيدا في الغرب. ويُرجع الزاوي الأمر للإعلام الذي لا يُركز على النصوص المُدهشة والحقيقية.
ويتابع الزاوي قائلا: قوة المجلة تكمن في الاهتمام بشمال أفريقيا، تلك المحاولة لجعل أصوات العالم العربي المختلفة في مكان واحد. وقد تبدى الأمر في الاهتمام بالمفكرين من قبيل: محمد أركون، الخطيبي، عبدالوهاب مؤدب. لقد حاولت المجلة بجدية أن تكون منبرا متعددا ومفتوحا. قدمت التراث وحافظت على الكلاسيكيات، وأكدت لنا أنّ الحداثة ليست شططا وإنّما مشروع. لقد كانت مفتوحة على الاجتهاد الديني والفلسفي والفكري. وأضاف: عندما كنتُ المدير العام على المكتبة الوطنية في الجزائر، كان الناس ينتظرون المجلة بحرص شديد، وعندما كنتُ أستاذا في فرنسا كان الأمر سيان. فخلال ٣٠ سنة حققت المجلة الانتباه والاستماع، أعني أننا بتنا نستمعُ لبعضنا البعض من أقطاب شتى من العالم. أخرجتنا المجلة من «الشوفينية» إلى البعد الإنساني الكبير عبر الحداثة والانفتاح على الآخر. ترجمت المجلة لأسماء أساسية في المشهد العالمي، ونبهت الناشرين العرب لضرورة الانتباه لتلك الأسماء، فتمت ترجمتها لاحقا. على سبيل المثال: الكاتب الياباني «موراكامي»، كانت مجلة نزوى من أوائل من قدمه للقراء العرب. كما قدمت المجلة ملفا أساسيا عن آسيا جبار.. هكذا تتبدى مجلة نزوى كمنبر يتحسسُ الأسماء الأساسية لتقديمها عبر الكتابة أو الترجمة.
ما الذي ينقصنا لدخول عصر الرقمنة؟
أكد ديفيد هيرش أمين المكتبة في جامعة كاليفورنيا على حرصهم في أمريكا على الحصول على الأعداد الكاملة من المجلة، وكيف أنّها أضافت الكثير، وأدت دورا أساسيا في التعريف بعُمان وأوساطها الثقافية. وأشاد كثيرا بكتاب نزوى الذي لم يكن يكتفي بتقديم النصوص وإنّما المخطوطات العُمانية والعمارة والموسيقى ومواضيع مختلفة. وقد قال حبيب سروري أستاذ علم الكمبيوتر «اعرف الآخر تعرف نفسك»، ثمّ أكد على التغيرات التي عصفت بالعالم العربي والغربي طوال ٣٠ عاما، وكيف أنّه من الضروري أن يكون هدفنا من المجلات الثقافية خلق التغيير، والدخول بالحداثة واللحاق بالآخر، وعلى نزوى أن تؤدي هذا الدور. وأشار سروري إلى أنّ أكثر ما ميز المجلة هو قدرة الفقراء على شرائها لأنها تُباع بسعر رمزي. «المحرومون يصلون للثقافة عبرها».. وأكد على أنّه تمكن عبر المجلة من نشر ما لا يستطيع نشره في مجلات أخرى، مواد ذات طبيعة علمية. ثمّ قال: نحتاج لمد الجسور مع الآخر عبر العقل، «فلا إمام سوى العقل»، إحياءً للتراث العميق. ولكنه يأسف لأنّه ليس لدينا رؤية علمية عربيا! ودعا إلى أهمية أن يُعطى العلم المبني على البرهان الأولوية الكافية. ثم يتساءل: ما الذي ينقصنا لدخول عصر الرقمنة. مجلة نزوى مجلة طليعية ولكن ينبغي أن تُجيب على سؤال المستقبل، وعلى سؤال الحرية وهو محور جوهري فيها.
أما الأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميراميه فقد شاركنا بقوله: لقائي الأول مع مجلة نزوى كان في عام ٢٠٠٠، زرتُ عُمان آنذاك وعملتُ مقابلة مع الشاعر سيف الرحبي، كنتُ وقتها أقوم بدراسة حول النشر، لرسم خريطة النشر مرورا بمسقط. فلفتني دور الترجمة في المجلة. وجدتها آنذاك مختبرا وممارسة أنثروبولوجية تُسهم في إنشاء وتحليل المفاهيم. إذ تُقدم المجلة نطاقا واسعا للأدبيات المترجمة للغة العربية، مكانا يتسع للآداب المختلفة أذكر منها: الأدب البوسني والأدب الأذربيجاني. ولفتني أيضا تقديم الأدب اليمني في وقت الحرب. هكذا أدت المجلة دورا في إبراز الثقافات، وباستمراريّتها عززت دور مسقط، كوسيط للتعامل الثقافي بين المثقفين العرب. نقطة وصل حقيقية. أنا اعتبرها كنزا لكل الباحثين الذين يريدون تعميق النظر في المسائل المتعددة.
الارتهان لمعادلات الأرقام!
وفي الجلسة الأخيرة التي تناولت: «المجلاتُ الثقافية ودورُها الحضاري»، تلك التي رافقت التجربة العربية منذُ أواخر القرن التاسع عشر، فقامت بمهمتِها التنويرية والمعرفية في مجتمعاتٍ تموجُ فيها أطيافٌ من الردةِ الظلامية، فخصّبت أراضيها بكُتابٍ وأدباء ومفكرين، بذروا بذور السجال الأولى لخلق حالة نقدية تُحرك سطح الأفكار الساكنة، كما خلقت تدافعا حُرا لرؤى العصر ومقترحاته الجمالية. باعتبارها ذاكرة جمعية للذهنية العربية وأرشيفا حيا لتاريخ الأفكار. فكلما أعدنا استقرائها أعطينا معنىً جديدا للتحولات التي تعصف بمجتمعاتنا اليوم.
وقد تبلور السؤال الأكثر أهمية: إن كان سؤالُ الثقافة وجوهرها مستمرا، فلماذا تتوقفُ المجلاتُ الثقافية وهي صِنوُ التجدد والتبدل والتقاطع الأبدي مع العلوم والفنون التي تنمو وتزدهر؟ لماذا تتوقف بعد أن تمضي عقودا بين قرائها مُتدفقةً في معارف شتى؟ وقد شارك في هذه الجلسة الشاعر والروائي عبده وازن الذي عمل في الصحافة الثقافية، وعندما وجهنا له سؤالنا المنطلق من رؤية الدكتور معجب الزهراني، حول أنّ المجلات التي تُؤسّس للفكر والمعرفة لا يمكن أن تموت، عدّد لنا عبده وازن أسماء مجلات عريقة قُدر لها الانتهاء من الغرب أيضا، فقد تبنى وازن الرأي الذي يقول بأنّ المجلات كالبشر لها أعمار أيضا، وثمّة ظروف كثيرة قد تؤدي دورا أساسيا في انطفائها. الشاعرة البحرينية بروين حبيب أكدت أنّ الكاتب لديه قدرة على التأثير في المجتمعات، لكن للأسف واقعنا اليوم بات يقترحُ علينا صنوفا أخرى من التأثير. وقد تذكرت أثر المجلات في حياتها، وكيف أنّها في الحرب على الكويت ١٩٩١، كانت تخشى على مجلة العربي وعالم المعرفة من الانتهاء، مؤكدة أنّ المجلات الرصينة تتجذرُ في وعينا العميق. كما أشارت إلى أنّ الثقافة تلقى نصيبها من الإهمال ولا يتجسد ذلك في المجلات الثقافية، بل تراه ماثلا أيضا في البرامج الثقافية التلفزيونية التي ترتهن لمعادلات المشاهدة وأرقامها.
التأثيرات غير المباشرة للمجلات الثقافية
الروائي والصحفي اليمني أحمد زين، مدير تحرير مجلة الفيصل، أكد على أهمية أن تحمي المؤسسات الرسمية هذه المجلات وأن تدعمها ماديا، باعتبارها صمامات أمان للمجتمعات. فهي ليست مشاريع ذات مرتجع مادي مباشر. وقد أكد أحمد زين أنّ هيئات التحرير من النخب المثقفة، ليس بمقدورها في الغالب الأعم أن تحتفظ باستقلالية مجلاتها، الأمر الذي يدفعها عادة لأن تلتحق بمؤسسات حكومية لتلقى الدعم المستمر. الكاتبة والإعلامية المصرية منصورة عز الدين أكدت على أنّ تأثير المجلات الثقافية، لا يتحدد فقط بأرقام التوزيع، بل بما قدمته من مواهب جديدة وما أضافته لمشهدها الثقافي والأدبي، وما أثرت به المكتبة العربية. وضربت على ذلك مثالا: خلال فترة رئاسة يحيى حقي لتحرير مجلة «المجلة» في الفترة من 1962 حتى نهاية 1970، حوَّل حقي المجلة إلى بيت للمواهب الشابة، وفتحها للأصوات الجديدة في النقد والإبداع، فبدت كالبوتقة التي نضج فيها جيل الستينيات المصري، وتابعت قائلة: أتذكرُ أن الكاتب الراحل إبراهيم أصلان أخبرني يومًا: أن نشر يحيى حقي قصّة لكاتب في بداية طريقه كان بمثابة شهادة ميلاد له واعتراف لا يعادله اعتراف آخر. فكل قارئ قرأ الأدباء الذين قدمتهم مجلة «المجلة»، وكل قارئ ما زال يقرأهم، وكل قارئ سوف يقرأهم مستقبلًا، مدين لهذه المجلة، ويمكن اعتباره من قرائها، بشكل أو بآخر.
هكذا أكدت منصورة على التأثيرات غير المباشرة للمجلات الثقافية، والمقصود هنا المجلات ذات الدور الحقيقي الفاعل التي نجحت في إثراء واقعها الثقافي وفتحه على آفاق جديدة.
الكاتب والمخرج السينمائي بدر الحمود صاحب مؤسسة «معنى الثقافية» التي تهتم بنشر المعرفة والفنون، تحدث عن الكيفية التي يمكن لأنماط الاقتصاد الحديثة أن تتجذر في صميم التجربة العربية. وعندما تساءلنا مع بدر الحمود: هل يمكن أن يتأسس الاقتصاد على قواعد ثقافية؟ هل يمكننا أن نسن استراتيجيات تُخرج الثقافة من طابعها المُهمش إلى الصدارة مجددا وفق اشتراطات العصر الراهن؟ أشار إلى إمكانية ذلك، شريطة أن نُقدم المحتوى بما يتناسب مع الشريحة التي ننشدها، الألوان والإخراج ولغة المحتوى، وهو يؤكد على أنّهم استطاعوا تقديم الفلسفة للصغار والكبار بما يجعل هذه النسخ تنفد من أماكن بيعها في السعودية. وهو الأمر الذي أكدت الكاتبة والروائية ريم الكمالي على ضرورته، أي أن نعرف لمن نكتب، ومن هي الشريحة التي ننشدها، وماذا تنتظر منا؟
هدى حمد روائية وصحفية عمانية
كل هذه الأسئلة وغيرها رافقت في ندوة: «نزوى، ٣٠ عاما من الإنجاز الثقافي»، التي أقيمت ضمن برنامج معرض مسقط الدولي للكتاب في الدورة الثامنة والعشرين، وبحضور نخبة من المفكرين والأدباء من مختلف دول العالم، فمجلة «نزوى» التي توسلت منذُ أعدادها الأولى الانفتاح على حقولٍ شاسعةٍ من الدراسات والآداب والفنون، متمتعة برؤية ثاقبة من رئيس تحريرها الشاعر سيف الرحبي الذي خاض المغامرة في وقت كانت فيه رياح التغيير تدق نَواقيسَها في منتصف التسعينيات، لتستوعبَ تنوُّعَ الأصوات في الداخلِ، وتأتي بأنهارٍ من المعارف من الخارج، لتصب جميعها في صالح تخلُّق المشروع الصلب والرصين، باتت تقترحُ عقب عقودها الثلاثة أسئلة من نوع مُغاير لمرحلتها القادمة.
المجلات التي تصنعُ الفكر لا تموت
في الكلمات الرئيسة للندوة، قدّم معالي الدكتور عبدالله الحراصي وزير الإعلام نفسه بوصفه كاتبا ومترجما وقارئا، رافق تجربة المجلة منذ أعدادها الأولى، وأصدر عبرها كتابه: «دراسات في الاستعارة المفهومية»، وقد أكد على المخاوف التي تعتري العالم جراء ما تجلبه التكنولوجيا الآن من مقترحات، وتساءل حول سُبل التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل إنّه شاركنا تجربته في طرح الأسئلة عليه، حول إن كان في مقدوره أن يكتب قصيدة تتفوق على ما كتبه البشر، فأجابه الذكاء الاصطناعي بأنّه مُطلع على المنجز الشعري الذي كتبه البشر، وبالتالي فهو قادر على هضم هذه التجربة لخلق تجربة مُماثلة، الأمر الذي يضعنا أمام أكثر الأسئلة التي تعصف بالعالم اليوم، لكن الحراصي من جهة أخرى، قدّم مثالا دالا على مُسايرة المجلة للتغيرات الجديدة، عبر إنتاجها لثلاثة أفلام تتحدثُ عن الوجود العُماني في شرق إفريقيا بالتعاون مع شركة ديماكس الألمانية، وهو تحول وانفتاح على شكل جديد من السياقات الثقافية، وقد تأمل رئيس تحرير مجلة نزوى الشاعر سيف الرحبي، الزمن الذي انقضى سريعا ومشتبكا بسؤال المعرفة الأكثر شمولية، وأكد الرحبي على أنّ مادة المجلة هي مرآة لأفكار ورؤى من كتبوا فيها على مدى عقودها الثلاثة.
أما الأكاديمي والناقد والمترجم السعودي الدكتور معجب الزهراني، فقد كان من ضمن الذين كتبوا في الأعداد الأولى من المجلة، وقد جمعته صداقة مديدة بسيف الرحبي في باريس قبل صدور الأعداد. أخبرنا الزهراني بأنّ المجلة موجودة جوار أهم الدوريات في باريس، وأكثر ما لفته ولفت آخرين -منذ الأعداد الأولى- هو استقطاب أشكال مختلفة من الكتابة دون الارتهان إلى شكل مُحدد، كما لفتته العناية التي حاز عليها الاشتغال المغربي على وجه التحديد، ومن أهم النقاط التي طرحها الزهراني أيضا، وجهة نظره التي تقول بأنّ: المجلات الثقافية الرصينة التي تصنعُ الفكر لا يمكنها أن تموت بسهولة، ولذا فقد نسف المخاوف والتصورات بشأن اضمحلالها، بل شدد على أهمية أن تجاور المجلة أخوات قاصدا «مجلات أخرى». الباحث والأكاديمي د.محسن الكندي: أكد على دور مجلة نزوى في العناية بالجانب المحلي، فقد نشرت لعدد من الأسماء الذين ظلمهم النقاد العرب من مثل أبي مسلم البهلاني، وقد تتبع الكندي ثلاثة أجيال كتبت في المجلة: «جيل الجامعة»، والجيل الممتد من 2004 إلى 2014 وقد أطلق عليه «جيل التشكيل» وانتهى إلى «جيل التبلور».
التراث والفلسفة وتحرر النصّ
قُدمت في اليوم الأول من أعمال الندوة، قراءات في الخطاب الثقافي لمجلة نزوى شارك فيها الدكتور أحمد المديني بورقة بعنوان «تحديثُ الأصيل.. وتأصيلُ الحديث»، فقد وجد أنّ متن نزوى يتميز بقراءة جديدة للتراث بمنظار مناهج ومفاهيم حديثة لإحيائه وإعادة اكتشافه؛ وترسيخ أسس نقدية ذات حمولة ومنهجية حديثة تتحرك في حقل شاسع من النظر والفهم والتطبيق بغية تأصيلها في أفق حداثة أوسع وأعمق. بينما خصصت الدكتورة فاطمة الشيدية أرضية اشتغالها لاستقراء النصّ الشعري العُماني الجديد في ثلاثين عامًا من عمر المجلة تحت عنوان: «الشعر العُماني في مجلة نزوى، الثيمة والسمات، دراسة أسلوبية»، فقد رأت الشيدية أنّ مجلة نزوى كسرت طوق تلك العزلة الثقافية الراسخة والعميقة وفتحت الأبواب مشرعةً للنص الشعري العُماني الجديد بكل تحرره وثورته على كل المرتكزات المتوارثة، وأفسحت له المجال لتحديد منطقة وقوفه الجادة، ووضع لبنات حضوره وصناعة أفقه وأجنحته الخاصة للتحليق بموازاة ذلك الإرث والانطلاق منه لما لا يحدّ. وقد أتاحت الورقة الجانب الإحصائي للمتلقي للوقوف على الكم في المنتج الشعري العُماني في عمر المجلة الثقافي والزمني. نظر الدكتور أحمد برقاوي لمجلة «نزوى» بوصفها أرشيفا للعقل العربي في صوره المختلفة: الأدبية والنقدية والفكرية والفلسفية. والأرشيف هو ذاك الذي يمنح تاريخ العقل ملامحه. وأكد على انطواء المجلة على فلسفة الأنا والآخر، الفلسفة العربية الوسيطة والمعاصرة وفلسفة الآخر، وهذا يعني أنها عبّرت عن نمطين من الوعي، الوعي الذاتي والوعي الذاتي بالآخر. بينما قام الباحث عبدالرحمن المسكري في ورقته التي حملت عنوان: «مقاربات التراث العربي في مجلة نزوى: الشعر أنموذجا»، باستجلاء حضور مدونة التراث الأدبيّ في مجمل أعداد مجلة نزوى البالغة 117 عددًا منذ صدور عددها الأول في 1994، حتى 2024؛ تعريفًا بأهم الدراسات التي تناولت التراث الأدبيّ العربيّ في مسالكه الفكرية وطرائقه التعبيرية المختلفة. كما تضمنت دراسته الإحاطة بالدّراسات التي تناولت الشّعر العربيّ القديم، وتقديم قراءة واصفة للمقاربات النقدية التي تفاعلت معه، وسَعت إلى تقديم قراءات صادرة عن مناظيرَ حديثةٍ ومناهجَ نقديّةٍ متباينةِ المراجع والأصول.
بين الماضي الخصيب واختراق الحدود
في المداخلة التي ألقاها الشاعر عيسى مخلوف أشار إلى توقّف مجلّات شهريّة وفصليّة كثيرة عن الصدور، كان لها أثرٌ في المشهد الثقافيّ العربيّ. وكان توقُّفها مواكبًا لتحوّلات سياسية واقتصادية، ولضمور في المعنى الثقافيّ وتراجُع ليس في الكتابة النوعية وحدها، بل في القراءة النوعيّة أيضًا. وظلّت «نزوى»، رغم المصاعب، مُبحرة في مشروعها. وأكد مخلوف على أنّ المجلة: استطاعت أن تجمع حولها كوكبةً من الكتّاب والنقاد والمفكرين والفنانين والمترجمين من الجنسيات والتوجهات كافّةً. وقد تمكنت من رصد تحوّلات المشهد الثقافيّ، ومتابعة النتاجات الإبداعية شرقًا وغربًا، والانفتاح على الثقافات المختلفة انطلاقا من إيمانها بأهمّيّة التعدّد والتنوُّع. ولئن كانت تعيش الحاضر فهي تهجس بالمستقبل وتلتفت إلى الماضي. ليس الماضي المنغلق على نفسه كالقبر، وإنّما الماضي الخصيب، ذلك الذي تطلّعَ إلى آفاقٍ بلا حدود وسعى إلى اختراق المجهول. وفي الوقت الذي يُسلع فيه كل شيء يبقى الشعر حاضرًا بقوّة في هذه المجلّة، فالشعر لا يُكتَب بالكلمات فحسب، فهو يمثل رؤية خاصّة للحياة والوجود.
ربط الشاعر والمترجم الهواري غزالي شخصيَّة المجلَّة روحيًّا بشخصيَّة رئيس تحريرها الأستاذ سيف الرَّحبي، فلقد اصطبغت المجلَّة في تعدّدها وانفتاحها بالتَّعدُّدية نفسها التي يتميَّز بها سيف الرَّحبي. فلقد اجتمعت فيه سيرةُ المتنقِّل عبر الأمصار والأقطار ثمَّ انتقلت به إلى فضاء التَّعقُّل الذي أفضى إلى إنجاز مجلَّة بحجمٍ عَالَمٍ كامل، بما يفي ذلك ممَّا قالته العرب: «العلم علمُ أقدامٍ وليس علم أقلام». وليس «الاعتراف» هو القيمة الوحيدة التي حقَّقتها نزوى، فقد انتقلت من المعرفة إلى التَّعريف والتَّعارف والمعروف والعرفان والتَّعرف.
ماذا بعد 30 عاما؟
في اليوم الثاني من أعمال الندوة قدمت الدكتورة عائشة الدرمكية جلسة حوارية تحت عنوان: «مجلة نزوى وكتاب الاستشراق، التأثير والتلقي» بمشاركة عدد من الأسماء. وقد بدأت الكاتبة والمترجمة الإماراتية ظبية خميس الحديث بقولها: مجلة «نزوى» هي حصيلة جيل الثمانينيات، أولئك الذين ذهبوا للعولمة ولم تأت إليهم. غامروا صوب الآخر، عبر جيل متمرد راغب في الخروج عن المألوف وعن الثوابت التقليدية، وهكذا تأسست مدارسهم وأفكارهم من تلك الينابيع البعيدة. وأكدت ظبية على ارتباط المجلة بالشاعر سيف الرحبي فهي مرآة لتجربته في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. في وقت كانت فيه المدن الخليجية محافظة، ولم يكن من السهل أن يكون الإنسان حرا؛ فالحرية آنذاك كانت تجلبُ معها العداء الاجتماعي. كان محتوى المجلة ملائما لجيل متمرد على الأشكال الكتابية آنذاك. الرحبي المتنقل بين الإمارات ودمشق وبيروت وباريس ولندن ونيذرلاند والمغرب، ابن تلك التجربة وذلك التجوال، ولذا جاءت المجلة كحركة في الفكر واستجلاب لأفكار مغايرة، ولصنع وشائج مع العالم صبت في بوتقة نزوى. وأكدت ظبية على أنّ المجلة تأصلت مع رواد الحداثة آنذاك وقد هرموا الآن، ولذا يجب أن يكون السؤال: بعد ٣٠ سنة من الاستمرارية.. هل ستبقى على ما هي عليه؟ بعد ٣٠ عاما ما كان جديدا بات قديما، وما كنا نُناضل من أجله ليس ما تغامر من أجله الأجيال الحالية. علينا أن نعي بأن هذا الجيل ليس محمّلا بما كنا نحن محمّلين به، نحن اضطررنا لهجر أوطاننا بحثا عن منابر للنشر لم تكن متوفرة آنذاك. هذه الأجيال أقل صدامية وينبغي احتواؤها. ولذا علينا أن نفكر في تغيير المحتوى والشكل، وعلى المجلة أن تجد علاقة جديدة مع الأجيال الجديدة كيف يعبرون عن أنفسهم عبرها وما هو سقف الخطاب الذين يرغبون به؟
الحداثة ليست شططا وإنّما مشروع
يجد الكاتب والمفكر الجزائري أمين الزاوي بأنّ العمل الذي قامت به نزوى مثير للإعجاب حقا؛ لأنها انفتحت على بلاد المغرب، وعلى أولئك الذين يكتبون باللغات الأجنبية من مثل: الأديب محمد ديب، الشاعر مالك حداد وغيرهما. فالنصوص المترجمة من العربية للغات الأخرى للأسف لا تُحقق الحضور الكبير الذي يمكن أن تُحققه النصوص القادمة من اليابان والصين وكوريا الجنوبية، ويُرجع الزاوي الأمر للجوائز التي تتهاون في تقديم النصوص الجيدة. بينما عندما يكتب باللغة الأجنبية أمثال: رشيد بوجدرة، الطاهر بن جلون، ياسمينة خضراء، عبداللطيف اللعبي، فإنّها تُحدث أثرا جيدا في الغرب. ويُرجع الزاوي الأمر للإعلام الذي لا يُركز على النصوص المُدهشة والحقيقية.
ويتابع الزاوي قائلا: قوة المجلة تكمن في الاهتمام بشمال أفريقيا، تلك المحاولة لجعل أصوات العالم العربي المختلفة في مكان واحد. وقد تبدى الأمر في الاهتمام بالمفكرين من قبيل: محمد أركون، الخطيبي، عبدالوهاب مؤدب. لقد حاولت المجلة بجدية أن تكون منبرا متعددا ومفتوحا. قدمت التراث وحافظت على الكلاسيكيات، وأكدت لنا أنّ الحداثة ليست شططا وإنّما مشروع. لقد كانت مفتوحة على الاجتهاد الديني والفلسفي والفكري. وأضاف: عندما كنتُ المدير العام على المكتبة الوطنية في الجزائر، كان الناس ينتظرون المجلة بحرص شديد، وعندما كنتُ أستاذا في فرنسا كان الأمر سيان. فخلال ٣٠ سنة حققت المجلة الانتباه والاستماع، أعني أننا بتنا نستمعُ لبعضنا البعض من أقطاب شتى من العالم. أخرجتنا المجلة من «الشوفينية» إلى البعد الإنساني الكبير عبر الحداثة والانفتاح على الآخر. ترجمت المجلة لأسماء أساسية في المشهد العالمي، ونبهت الناشرين العرب لضرورة الانتباه لتلك الأسماء، فتمت ترجمتها لاحقا. على سبيل المثال: الكاتب الياباني «موراكامي»، كانت مجلة نزوى من أوائل من قدمه للقراء العرب. كما قدمت المجلة ملفا أساسيا عن آسيا جبار.. هكذا تتبدى مجلة نزوى كمنبر يتحسسُ الأسماء الأساسية لتقديمها عبر الكتابة أو الترجمة.
ما الذي ينقصنا لدخول عصر الرقمنة؟
أكد ديفيد هيرش أمين المكتبة في جامعة كاليفورنيا على حرصهم في أمريكا على الحصول على الأعداد الكاملة من المجلة، وكيف أنّها أضافت الكثير، وأدت دورا أساسيا في التعريف بعُمان وأوساطها الثقافية. وأشاد كثيرا بكتاب نزوى الذي لم يكن يكتفي بتقديم النصوص وإنّما المخطوطات العُمانية والعمارة والموسيقى ومواضيع مختلفة. وقد قال حبيب سروري أستاذ علم الكمبيوتر «اعرف الآخر تعرف نفسك»، ثمّ أكد على التغيرات التي عصفت بالعالم العربي والغربي طوال ٣٠ عاما، وكيف أنّه من الضروري أن يكون هدفنا من المجلات الثقافية خلق التغيير، والدخول بالحداثة واللحاق بالآخر، وعلى نزوى أن تؤدي هذا الدور. وأشار سروري إلى أنّ أكثر ما ميز المجلة هو قدرة الفقراء على شرائها لأنها تُباع بسعر رمزي. «المحرومون يصلون للثقافة عبرها».. وأكد على أنّه تمكن عبر المجلة من نشر ما لا يستطيع نشره في مجلات أخرى، مواد ذات طبيعة علمية. ثمّ قال: نحتاج لمد الجسور مع الآخر عبر العقل، «فلا إمام سوى العقل»، إحياءً للتراث العميق. ولكنه يأسف لأنّه ليس لدينا رؤية علمية عربيا! ودعا إلى أهمية أن يُعطى العلم المبني على البرهان الأولوية الكافية. ثم يتساءل: ما الذي ينقصنا لدخول عصر الرقمنة. مجلة نزوى مجلة طليعية ولكن ينبغي أن تُجيب على سؤال المستقبل، وعلى سؤال الحرية وهو محور جوهري فيها.
أما الأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميراميه فقد شاركنا بقوله: لقائي الأول مع مجلة نزوى كان في عام ٢٠٠٠، زرتُ عُمان آنذاك وعملتُ مقابلة مع الشاعر سيف الرحبي، كنتُ وقتها أقوم بدراسة حول النشر، لرسم خريطة النشر مرورا بمسقط. فلفتني دور الترجمة في المجلة. وجدتها آنذاك مختبرا وممارسة أنثروبولوجية تُسهم في إنشاء وتحليل المفاهيم. إذ تُقدم المجلة نطاقا واسعا للأدبيات المترجمة للغة العربية، مكانا يتسع للآداب المختلفة أذكر منها: الأدب البوسني والأدب الأذربيجاني. ولفتني أيضا تقديم الأدب اليمني في وقت الحرب. هكذا أدت المجلة دورا في إبراز الثقافات، وباستمراريّتها عززت دور مسقط، كوسيط للتعامل الثقافي بين المثقفين العرب. نقطة وصل حقيقية. أنا اعتبرها كنزا لكل الباحثين الذين يريدون تعميق النظر في المسائل المتعددة.
الارتهان لمعادلات الأرقام!
وفي الجلسة الأخيرة التي تناولت: «المجلاتُ الثقافية ودورُها الحضاري»، تلك التي رافقت التجربة العربية منذُ أواخر القرن التاسع عشر، فقامت بمهمتِها التنويرية والمعرفية في مجتمعاتٍ تموجُ فيها أطيافٌ من الردةِ الظلامية، فخصّبت أراضيها بكُتابٍ وأدباء ومفكرين، بذروا بذور السجال الأولى لخلق حالة نقدية تُحرك سطح الأفكار الساكنة، كما خلقت تدافعا حُرا لرؤى العصر ومقترحاته الجمالية. باعتبارها ذاكرة جمعية للذهنية العربية وأرشيفا حيا لتاريخ الأفكار. فكلما أعدنا استقرائها أعطينا معنىً جديدا للتحولات التي تعصف بمجتمعاتنا اليوم.
وقد تبلور السؤال الأكثر أهمية: إن كان سؤالُ الثقافة وجوهرها مستمرا، فلماذا تتوقفُ المجلاتُ الثقافية وهي صِنوُ التجدد والتبدل والتقاطع الأبدي مع العلوم والفنون التي تنمو وتزدهر؟ لماذا تتوقف بعد أن تمضي عقودا بين قرائها مُتدفقةً في معارف شتى؟ وقد شارك في هذه الجلسة الشاعر والروائي عبده وازن الذي عمل في الصحافة الثقافية، وعندما وجهنا له سؤالنا المنطلق من رؤية الدكتور معجب الزهراني، حول أنّ المجلات التي تُؤسّس للفكر والمعرفة لا يمكن أن تموت، عدّد لنا عبده وازن أسماء مجلات عريقة قُدر لها الانتهاء من الغرب أيضا، فقد تبنى وازن الرأي الذي يقول بأنّ المجلات كالبشر لها أعمار أيضا، وثمّة ظروف كثيرة قد تؤدي دورا أساسيا في انطفائها. الشاعرة البحرينية بروين حبيب أكدت أنّ الكاتب لديه قدرة على التأثير في المجتمعات، لكن للأسف واقعنا اليوم بات يقترحُ علينا صنوفا أخرى من التأثير. وقد تذكرت أثر المجلات في حياتها، وكيف أنّها في الحرب على الكويت ١٩٩١، كانت تخشى على مجلة العربي وعالم المعرفة من الانتهاء، مؤكدة أنّ المجلات الرصينة تتجذرُ في وعينا العميق. كما أشارت إلى أنّ الثقافة تلقى نصيبها من الإهمال ولا يتجسد ذلك في المجلات الثقافية، بل تراه ماثلا أيضا في البرامج الثقافية التلفزيونية التي ترتهن لمعادلات المشاهدة وأرقامها.
التأثيرات غير المباشرة للمجلات الثقافية
الروائي والصحفي اليمني أحمد زين، مدير تحرير مجلة الفيصل، أكد على أهمية أن تحمي المؤسسات الرسمية هذه المجلات وأن تدعمها ماديا، باعتبارها صمامات أمان للمجتمعات. فهي ليست مشاريع ذات مرتجع مادي مباشر. وقد أكد أحمد زين أنّ هيئات التحرير من النخب المثقفة، ليس بمقدورها في الغالب الأعم أن تحتفظ باستقلالية مجلاتها، الأمر الذي يدفعها عادة لأن تلتحق بمؤسسات حكومية لتلقى الدعم المستمر. الكاتبة والإعلامية المصرية منصورة عز الدين أكدت على أنّ تأثير المجلات الثقافية، لا يتحدد فقط بأرقام التوزيع، بل بما قدمته من مواهب جديدة وما أضافته لمشهدها الثقافي والأدبي، وما أثرت به المكتبة العربية. وضربت على ذلك مثالا: خلال فترة رئاسة يحيى حقي لتحرير مجلة «المجلة» في الفترة من 1962 حتى نهاية 1970، حوَّل حقي المجلة إلى بيت للمواهب الشابة، وفتحها للأصوات الجديدة في النقد والإبداع، فبدت كالبوتقة التي نضج فيها جيل الستينيات المصري، وتابعت قائلة: أتذكرُ أن الكاتب الراحل إبراهيم أصلان أخبرني يومًا: أن نشر يحيى حقي قصّة لكاتب في بداية طريقه كان بمثابة شهادة ميلاد له واعتراف لا يعادله اعتراف آخر. فكل قارئ قرأ الأدباء الذين قدمتهم مجلة «المجلة»، وكل قارئ ما زال يقرأهم، وكل قارئ سوف يقرأهم مستقبلًا، مدين لهذه المجلة، ويمكن اعتباره من قرائها، بشكل أو بآخر.
هكذا أكدت منصورة على التأثيرات غير المباشرة للمجلات الثقافية، والمقصود هنا المجلات ذات الدور الحقيقي الفاعل التي نجحت في إثراء واقعها الثقافي وفتحه على آفاق جديدة.
الكاتب والمخرج السينمائي بدر الحمود صاحب مؤسسة «معنى الثقافية» التي تهتم بنشر المعرفة والفنون، تحدث عن الكيفية التي يمكن لأنماط الاقتصاد الحديثة أن تتجذر في صميم التجربة العربية. وعندما تساءلنا مع بدر الحمود: هل يمكن أن يتأسس الاقتصاد على قواعد ثقافية؟ هل يمكننا أن نسن استراتيجيات تُخرج الثقافة من طابعها المُهمش إلى الصدارة مجددا وفق اشتراطات العصر الراهن؟ أشار إلى إمكانية ذلك، شريطة أن نُقدم المحتوى بما يتناسب مع الشريحة التي ننشدها، الألوان والإخراج ولغة المحتوى، وهو يؤكد على أنّهم استطاعوا تقديم الفلسفة للصغار والكبار بما يجعل هذه النسخ تنفد من أماكن بيعها في السعودية. وهو الأمر الذي أكدت الكاتبة والروائية ريم الكمالي على ضرورته، أي أن نعرف لمن نكتب، ومن هي الشريحة التي ننشدها، وماذا تنتظر منا؟
هدى حمد روائية وصحفية عمانية