ثمة إغراء في الكتابة عن كتاب يبدأ بالحب. يبدأ من الحب ومعه وبه. بداية مغوية وغامضة؛ كذلك هو الحب أيضًا كلّه غامض. نظن أننا ندرك ماهيته وكيفيته ومداه، إلا أننا - في واقع الحال - لا ندرك إلا نتائجه؛ ما يفعله فينا ولو بعد حين، بل لعل أعظم ما في الحب، وأعظم تجلّيات الحب، ما يفعله فينا بعد وقت طويل. نتلمّسه كما نتلمّس الندوب؛ يتلاشى الألم وتبقى الذاكرة بحلوها ومرّها. الحب ذاكرة بمعنى ما، وكلّ كتابة عن الحب هي كتابة عن الذاكرة، عمّا يفعله فينا، وعمّا تفعله.
ما من تصنيف واضح لكتاب الروائي والناقد الفني الإنجليزي جون بيرجر «تِنْدا بولونيا الحمراء» The Red Tenda of Bologna(صدر في طبعته الأولى عام 2007، وأُعيد طبعه عام 2018 في سلسلة «كلاسيكيات حديثة» من منشورات بنجوين Penguin)، إذ يجمع اليوميات بالتأملات بتداعي الذكريات الحر، مع قليل من السيرة الذاتية والنقد الفني. شذرات مكثّفة عن الناس والشوارع والعمارة والرسم والنحت، تبدأ بالحب ولا تنتهي به، تنطلق من الشخصي إلى العمومي، ومن الماضي إلى الحاضر. كتبه بيرجر وقد تجاوز الثمانين، حيث بات للحب مذاق مُعتَّق مُركَّز مُكثَّف آسر وموجع في آن. حب الولد لعمّه، بعد أن كبر الولد ليصبح عجوزًا ومات العم منذ عقود. يكتب بيرجر ذاكرته وهو ابن الثمانين، ويكتب ذاكرة عمه إدغار كما نطقها العم تارة وكما تخيّلها ابن الأخ تارة؛ يكتب ذاكرة الشيخوخة والمراهقة، وذاكرة تمزج الأزمنة والأمكنة، تمزج رحلات العم في بلاد عديدة، برحلات ابن الأخ، برحلة أخيرة التقى بها بيرجر بطيف عمه وذكرياته (الحقيقية والمختلقة) في بولونيا الإيطالية من بين جميع المدن الكثيرة التي زارها العم وابن الأخ.
لا حضور للزمن بمعناه السائد في الكتاب، لأن السرد مثل الذاكرة، مثل الحب، مثل التأملات، مثل الفن، خارج نطاق الأمكنة والأزمنة وإن انطلق من مكان واحد أو زمان واحد. كان بيرجر المراهق يرى عمه «خارج نطاق الزمن»، لا بمعنى السنّ وحده، بل لأنه عجز عن تثبيته في زمن واحد، فهو ليس ابن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ولذا أحبّه بوصفه مساويًا له، مكافئًا؛ فخيال المراهقة والطفولة لا زمن له أيضًا، وكذلك هو سرد الكتاب الذي يبدو مبعثرًا وإنْ بإيقاعٍ خفيّ؛ سرد من زماننا كما ندرك أبعاده، وليس من زماننا في الوقت ذاته، إذ برغم جِدّة الكتاب، لا نجد أثرًا للقرن الحادي والعشرين بصخبه وفوضويته وسطوة آلاته وشاشاته وسرعته. يكاد الكتاب يبدو أحيانًا وكأنه عمارة أخرى من عمارات بولونيا في القرون الوسطى، بحيث ما من معنى لإيراد تاريخ صدوره، فالكتاب ابن القرون الوسطى بقدر ما هو ابن الحاضر، بل قد يكون كذلك أقدم حتى من زمن بولونيا وعمارتها وناسها وشوارعها.
يكبح بيرجر نزقه ليكتب كما لو كان الكاتب هو عمه، حيث السكينة تتقاطع مع تفاؤل شفيف، ليسبحا معًا في مياه حزن ساحر جليل مثل سماء خريفية. يحاول بيرجر توصيف علاقته بعمه، حبه لعمه، الذي لم يكن القرب فيه حميميًا بقدر ما كان مغلّفًا بالفن وبالكلمات والصمت والهمس. ليست حميمية العناق أو التواصل الجسدي، بل تواصل روحين وعقلين، بالخيال وبهدايا اتّفقا على أن تكون بسيطة ومميزة في آن، بحيث تشبعان شغف كلٍّ منهما: قد تكون خريطة لآيسلندا، أو علبة من رمال مصر، أو سيرة ذاتية لتشارلز دكنز، ولا بد حتمًا من رسائل، فهي شغف العم الذي أورثه لابن أخيه. كان الاثنان يشيّدان عالمًا خاصًا بهما من الكلمة واللوحة والمنحوتة والبوح. يبوح لنا بيرجر أن غرفة العم الصغيرة المنمنمة التي تعجّ بالكراكيب كانت سماء وأفقًا واسعًا لا حد له، لا بداية له ولا نهاية، حيث «يمكن للكلمات المطبوعة أن تختزل حضورًا ماديًا»، حيث يُشيَّد عالم بأكمله من الحروف، أكانت مطبوعة أو منطوقة أو صامتة تُتَناقَل بالنظرات وحدها.
في الغرفة المنمنمة تلك، سمع بيرجر للمرة الأولى بمدينة بولونيا، وبحُمرتها التي لا مثيل لها؛ حُمرة التندا، أي الستائر الحمراء التي تُظلّل شبابيك عماراتها القديمة التي كانت محض ذاكرة يحكيها العم فيتخيّلها ابن الأخ قبل أن تمسي حقيقة ملموسة يبصرها ابن الأخ بعد عقود حين سافر إلى المدينة، بعد أن مات صاحب الذاكرة وترك صاحب الخيال ليتلمّس خياله وقد أمسى واقعًا، قبل أن يبوح به لنا ليصبح الواقع ذاكرة لدى بيرجر، وخيالًا لنا نحن الذين لم نر تلك الحُمرة إلا في الصور. وكما كانت الكلمات في تلك الغرفة البعيدة بذرة لعالم بأسره، غدت حُمرة تندا بولونيا اختزالًا لبولونيا كلها، بل اختزالًا لعالم آخر بأسره لا يقتصر على عنوان الكتاب وحده، بل باتت عنوانًا للذاكرة وللخيال وللأحلام، ذاكرة بيرجر وخياله وأحلامه، وذاكرتنا وخيالنا وأحلامنا، وذاكرة وخيال وأحلام سكان بولونيا أيضًا، من بسطائها إلى فنانيها إلى عماراتها إلى جامعاتها. تلك الحُمرة الطاغية «نسخ عجوزة وشابة من اللون ذاته»، غير أن تلك التدرّجات اللونية هي ما تفرّق وتجمّع، هي ما تُميّز وتُماثِل، هي ما ترسم وتكتب حروف هذا الكتاب وحروف المدينة بكاملها.
المدينة هي المدينة، وسماؤها هي سماؤها، وطقسها هو طقسها، إلا أن لكلٍّ مدينته وسماؤه وطقسه، حيث تمسي لغة تخص المرء وحده، تبوح له بماضيه وحاضره ومستقبله، وتُكوِّن علاقات البشر الذين يختلفون بقدر ما يتفقون. يتجادلون حيال طقس الغد، وحيال المسافة التي تمثّل طول الأروقة المُقنطَرة التي تميّز المدينة وشوارعها، وكأنما السماء مدينة أخرى، أو شارع آخر يدرك فيه المرء مستقبله حين يقطعه في حاضره، وكأنما اختلاف امتداد المقنطرات انعكاس لقدرة كل امرئ على المشي وعدد خطواته، حيث يمسي الحاضر وخطواته ذاكرة أخرى تنبع من الحاضر وترتدّ إلى الماضي. المدينة والمقنطرات والشوارع خارج نطاق الأزمنة أيضًا، مثلها مثل العم إدغار، ومثل الأحلام والذكريات. المدينة، كما ينطق بيرجر بتوصيف ساحر: «مدينة عصية على الوجود، كأنها مدينة تمشيها بعد موتك»، مدينة تنزلق من الحواس ومن المعاني، فهي المدينة التي ضمت أول جامعة علمانية كما ينقل لنا التاريخ، غير أنها مدينة روحانية أيضًا نجد فيها تجلّيات لاهوتية صريحة حينًا، كما في منحوتة نيكولو ديلّاركا «التفجّع على جسد المسيح» Compianto sul Cristo morto، ومُضمرة حينًا كما في لوحات الطبيعة الصامتة لجورجيو موراندي. مدينة تتلاقى فيها الأجساد والأرواح بين الكنائس والمقنطرات والأروقة والشوارع والحانات والشبابيك بستائرها الحمراء.
مدينة تكسر كل التوصيفات والتعريفات السائدة حيث لا نرى نزق الإيطاليين وصخبهم، بل لغة ساكنة رائقة مثل حُمرة التندا التي يدرك بيرجر أنها اللغة الوحيدة التي لا بد من إتقانها كي تنفتح أسرار المدينة أمامه. يخطر له شراء قطعة من التندا، كمن يتلمّس أحرف لغة جديدة، تبدأ بالتلعثم قبل أن تتكشّف شيئًا فشيئًا. لغة أعين فقط، إذ نكاد لا نسمع أي كلمات منطوقة على طول الكتاب، إلا في اللقاء الأخير بين بيرجر وإدغار، ولكن حتى هذا اللقاء غير منطوق، بل يكاد يكون أشبه بالتخاطر كي لا يكسر سكينة التندا ومدينتها. ينتقي بيرجر قطعة التندا فيسأله البائع بعينيه كي يتأكد قبل أن يقصّها، إذ لا مجال ولا مكان لأي خطأ هنا. ليست التندا محض قماش تقتطعه، بل هو ذاكرة تخصّك وحدك، ولا سبيل إلى إعادتها بعد أن تُقتطَع، فحتى لو أخذها غيرك لن تعود هي على حالها بل ستمسي ذاكرته لا ذاكرتك، حُمرته لا حُمرتك، ستارته لا ستارتك، مدينته لا مدينتك.
وحالما اقتُطعت التندا بدأ اللقاء المنتظر بين بيرجر وإدغار. كان لا بد للقاء أن يتم عبر «الصرخة الهامسة»، وهو أحد أسرار بولونيا في الساحة العامة (بياتسا ماجّوريPiazza Maggiore )، حيث تُحلّق الأسرار بين طرفي الحوار فقط، حين يبوحان يما يودّان النطق به إلى الأعمدة المقنطرة في مسار قُطريّ، بحيث يتبادلان الأسرار في العلن من دون أن يسمعهما أحد، ولو كانوا بجوارك، وكأن السماء والأعمدة والمقنطرات قد تواطأت في هذه الساحة الحُلُميّة لتعيد خلق عالم جديد يُختزَل في غرفة الماضي البعيد تلك التي لم تكن تضم أحدًا سواهما. ما كان للقاء أن يدور عن الأسئلة المكرورة عن الصحة وما فعلته سنوات الغياب، بل بدا منطقيًا أن يبدأ حيث انتهى اللقاء الأخير في غرفة المشفى التي شهدت آخر لحظات حياة إدغار. بدا منطقيًا لأن المنطق في هذا العالم الحُلُمي لا يشبه منطق الواقع، لأن علاقتهما ما كانت علاقة منطق وواقع أصلًا. لا معنى لمرور السنوات هنا، فالعم هو العم وابن الأخ هو ابن الأخ، ولم يختلف إلا تحوّل تلك الغرفة المنمنمة إلى ساحة مزدحمة ولكنها لا تضمّ أحدًا سواهما في الوقت ذاته. تعطّلت باقي الأصوات وبقي صوتاهما فقط، تخاطرهما الذي يقلّب في معاني التندا وحُمرتها، ويقفز من اللوحات إلى المنحوتات إلى الدّرجات الحجرية في ذلك الرواق إلى أسماء شهداء المناضلين ضد الفاشية، أسمائهم المُدوّنة مع صورهم على جدار في الشوارع القديمة. تلك الأسماء وتلك الصور تشبه كلّ ما في المدينة من مفارقات، إذ تبدو هي أيضًا خارج نطاق الزمن. هم شهداء منتصف القرن العشرين، إلا أن الزمن لا معنى له هنا، إذ هم شهداء هذا الزمن أيضًا وكل زمن. ينبّهه إدغار إلى أن الشهداء لا ينتمون إلى قصور الساسة وكلماتهم بل إلى صمت الناس العاديين وتخاطر أعينهم، حيث يغدو الأسى حزمًا، كما هو أسى مريم المجدلية في منحوتة ديلاركا. ليس تفجّعًا كما ينبغي للمنطق أن يكون، بل يستحيل حزمًا يحبس الأسى في الداخل، كما تفعل التندا في بيوت الناس، وكما ينبغي لنا أن نفعل في حضرة الشهداء حين ننزعهم من القصور وأهلها، ونعيدهم إلى الشوارع وإلى الناس، في الكنائس والحانات والدكاكين والبيوت والغرف المنمنمة بكراكيبها البسيطة.
تغدو حُمرة التندا كل شيء، بحيث يكيّفها كل امرئ على هواه. هي حُمرة الدماء، وحُمرة السماء، وحُمرة الوجوه، وحُمرة الأكفّ وهي تحمل الأكياس، وحُمرة الأقدام بعد تجوالها في الشوارع، وحُمرة ذاكرة بيرجر الذي فتح عينيه بعد أن أنهى التخاطر مع إدغار، وشرع يتأمل السماء وهو مستلقٍ على الدرجات الحجرية تحت تلك المقنطرات وسحر ظواهرها الصوتية. عادت أذناه تلتقط أصوات المدينة الآن بعد أن رحل العم للمرة الثانية، تلك الأصوات التي بدا وكأن أذنيه قد كبحتها حين كانت مستغرقة في رحلة الحلم والذاكرة والخيال والتأمل والفن مع إدغار، وكأن أذنيه باتتا تندا حبست أصوات المدينة في الخارج، وحبست الأسى والحزم في الداخل، ولم ينسلّ منها إلا بضع خيوط من ذاكرة الهمس في رسالة أخيرة إلى إدغار وإلينا في منمنمات صغيرة مثل غرفته القديمة أو مثل غرف ذاكراتنا التي ستخلق تندا تخصنا وحدنا نبوح بأسرارها لمن نهوى.
يزن الحاج كاتب ومترجم سوري
ما من تصنيف واضح لكتاب الروائي والناقد الفني الإنجليزي جون بيرجر «تِنْدا بولونيا الحمراء» The Red Tenda of Bologna(صدر في طبعته الأولى عام 2007، وأُعيد طبعه عام 2018 في سلسلة «كلاسيكيات حديثة» من منشورات بنجوين Penguin)، إذ يجمع اليوميات بالتأملات بتداعي الذكريات الحر، مع قليل من السيرة الذاتية والنقد الفني. شذرات مكثّفة عن الناس والشوارع والعمارة والرسم والنحت، تبدأ بالحب ولا تنتهي به، تنطلق من الشخصي إلى العمومي، ومن الماضي إلى الحاضر. كتبه بيرجر وقد تجاوز الثمانين، حيث بات للحب مذاق مُعتَّق مُركَّز مُكثَّف آسر وموجع في آن. حب الولد لعمّه، بعد أن كبر الولد ليصبح عجوزًا ومات العم منذ عقود. يكتب بيرجر ذاكرته وهو ابن الثمانين، ويكتب ذاكرة عمه إدغار كما نطقها العم تارة وكما تخيّلها ابن الأخ تارة؛ يكتب ذاكرة الشيخوخة والمراهقة، وذاكرة تمزج الأزمنة والأمكنة، تمزج رحلات العم في بلاد عديدة، برحلات ابن الأخ، برحلة أخيرة التقى بها بيرجر بطيف عمه وذكرياته (الحقيقية والمختلقة) في بولونيا الإيطالية من بين جميع المدن الكثيرة التي زارها العم وابن الأخ.
لا حضور للزمن بمعناه السائد في الكتاب، لأن السرد مثل الذاكرة، مثل الحب، مثل التأملات، مثل الفن، خارج نطاق الأمكنة والأزمنة وإن انطلق من مكان واحد أو زمان واحد. كان بيرجر المراهق يرى عمه «خارج نطاق الزمن»، لا بمعنى السنّ وحده، بل لأنه عجز عن تثبيته في زمن واحد، فهو ليس ابن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ولذا أحبّه بوصفه مساويًا له، مكافئًا؛ فخيال المراهقة والطفولة لا زمن له أيضًا، وكذلك هو سرد الكتاب الذي يبدو مبعثرًا وإنْ بإيقاعٍ خفيّ؛ سرد من زماننا كما ندرك أبعاده، وليس من زماننا في الوقت ذاته، إذ برغم جِدّة الكتاب، لا نجد أثرًا للقرن الحادي والعشرين بصخبه وفوضويته وسطوة آلاته وشاشاته وسرعته. يكاد الكتاب يبدو أحيانًا وكأنه عمارة أخرى من عمارات بولونيا في القرون الوسطى، بحيث ما من معنى لإيراد تاريخ صدوره، فالكتاب ابن القرون الوسطى بقدر ما هو ابن الحاضر، بل قد يكون كذلك أقدم حتى من زمن بولونيا وعمارتها وناسها وشوارعها.
يكبح بيرجر نزقه ليكتب كما لو كان الكاتب هو عمه، حيث السكينة تتقاطع مع تفاؤل شفيف، ليسبحا معًا في مياه حزن ساحر جليل مثل سماء خريفية. يحاول بيرجر توصيف علاقته بعمه، حبه لعمه، الذي لم يكن القرب فيه حميميًا بقدر ما كان مغلّفًا بالفن وبالكلمات والصمت والهمس. ليست حميمية العناق أو التواصل الجسدي، بل تواصل روحين وعقلين، بالخيال وبهدايا اتّفقا على أن تكون بسيطة ومميزة في آن، بحيث تشبعان شغف كلٍّ منهما: قد تكون خريطة لآيسلندا، أو علبة من رمال مصر، أو سيرة ذاتية لتشارلز دكنز، ولا بد حتمًا من رسائل، فهي شغف العم الذي أورثه لابن أخيه. كان الاثنان يشيّدان عالمًا خاصًا بهما من الكلمة واللوحة والمنحوتة والبوح. يبوح لنا بيرجر أن غرفة العم الصغيرة المنمنمة التي تعجّ بالكراكيب كانت سماء وأفقًا واسعًا لا حد له، لا بداية له ولا نهاية، حيث «يمكن للكلمات المطبوعة أن تختزل حضورًا ماديًا»، حيث يُشيَّد عالم بأكمله من الحروف، أكانت مطبوعة أو منطوقة أو صامتة تُتَناقَل بالنظرات وحدها.
في الغرفة المنمنمة تلك، سمع بيرجر للمرة الأولى بمدينة بولونيا، وبحُمرتها التي لا مثيل لها؛ حُمرة التندا، أي الستائر الحمراء التي تُظلّل شبابيك عماراتها القديمة التي كانت محض ذاكرة يحكيها العم فيتخيّلها ابن الأخ قبل أن تمسي حقيقة ملموسة يبصرها ابن الأخ بعد عقود حين سافر إلى المدينة، بعد أن مات صاحب الذاكرة وترك صاحب الخيال ليتلمّس خياله وقد أمسى واقعًا، قبل أن يبوح به لنا ليصبح الواقع ذاكرة لدى بيرجر، وخيالًا لنا نحن الذين لم نر تلك الحُمرة إلا في الصور. وكما كانت الكلمات في تلك الغرفة البعيدة بذرة لعالم بأسره، غدت حُمرة تندا بولونيا اختزالًا لبولونيا كلها، بل اختزالًا لعالم آخر بأسره لا يقتصر على عنوان الكتاب وحده، بل باتت عنوانًا للذاكرة وللخيال وللأحلام، ذاكرة بيرجر وخياله وأحلامه، وذاكرتنا وخيالنا وأحلامنا، وذاكرة وخيال وأحلام سكان بولونيا أيضًا، من بسطائها إلى فنانيها إلى عماراتها إلى جامعاتها. تلك الحُمرة الطاغية «نسخ عجوزة وشابة من اللون ذاته»، غير أن تلك التدرّجات اللونية هي ما تفرّق وتجمّع، هي ما تُميّز وتُماثِل، هي ما ترسم وتكتب حروف هذا الكتاب وحروف المدينة بكاملها.
المدينة هي المدينة، وسماؤها هي سماؤها، وطقسها هو طقسها، إلا أن لكلٍّ مدينته وسماؤه وطقسه، حيث تمسي لغة تخص المرء وحده، تبوح له بماضيه وحاضره ومستقبله، وتُكوِّن علاقات البشر الذين يختلفون بقدر ما يتفقون. يتجادلون حيال طقس الغد، وحيال المسافة التي تمثّل طول الأروقة المُقنطَرة التي تميّز المدينة وشوارعها، وكأنما السماء مدينة أخرى، أو شارع آخر يدرك فيه المرء مستقبله حين يقطعه في حاضره، وكأنما اختلاف امتداد المقنطرات انعكاس لقدرة كل امرئ على المشي وعدد خطواته، حيث يمسي الحاضر وخطواته ذاكرة أخرى تنبع من الحاضر وترتدّ إلى الماضي. المدينة والمقنطرات والشوارع خارج نطاق الأزمنة أيضًا، مثلها مثل العم إدغار، ومثل الأحلام والذكريات. المدينة، كما ينطق بيرجر بتوصيف ساحر: «مدينة عصية على الوجود، كأنها مدينة تمشيها بعد موتك»، مدينة تنزلق من الحواس ومن المعاني، فهي المدينة التي ضمت أول جامعة علمانية كما ينقل لنا التاريخ، غير أنها مدينة روحانية أيضًا نجد فيها تجلّيات لاهوتية صريحة حينًا، كما في منحوتة نيكولو ديلّاركا «التفجّع على جسد المسيح» Compianto sul Cristo morto، ومُضمرة حينًا كما في لوحات الطبيعة الصامتة لجورجيو موراندي. مدينة تتلاقى فيها الأجساد والأرواح بين الكنائس والمقنطرات والأروقة والشوارع والحانات والشبابيك بستائرها الحمراء.
مدينة تكسر كل التوصيفات والتعريفات السائدة حيث لا نرى نزق الإيطاليين وصخبهم، بل لغة ساكنة رائقة مثل حُمرة التندا التي يدرك بيرجر أنها اللغة الوحيدة التي لا بد من إتقانها كي تنفتح أسرار المدينة أمامه. يخطر له شراء قطعة من التندا، كمن يتلمّس أحرف لغة جديدة، تبدأ بالتلعثم قبل أن تتكشّف شيئًا فشيئًا. لغة أعين فقط، إذ نكاد لا نسمع أي كلمات منطوقة على طول الكتاب، إلا في اللقاء الأخير بين بيرجر وإدغار، ولكن حتى هذا اللقاء غير منطوق، بل يكاد يكون أشبه بالتخاطر كي لا يكسر سكينة التندا ومدينتها. ينتقي بيرجر قطعة التندا فيسأله البائع بعينيه كي يتأكد قبل أن يقصّها، إذ لا مجال ولا مكان لأي خطأ هنا. ليست التندا محض قماش تقتطعه، بل هو ذاكرة تخصّك وحدك، ولا سبيل إلى إعادتها بعد أن تُقتطَع، فحتى لو أخذها غيرك لن تعود هي على حالها بل ستمسي ذاكرته لا ذاكرتك، حُمرته لا حُمرتك، ستارته لا ستارتك، مدينته لا مدينتك.
وحالما اقتُطعت التندا بدأ اللقاء المنتظر بين بيرجر وإدغار. كان لا بد للقاء أن يتم عبر «الصرخة الهامسة»، وهو أحد أسرار بولونيا في الساحة العامة (بياتسا ماجّوريPiazza Maggiore )، حيث تُحلّق الأسرار بين طرفي الحوار فقط، حين يبوحان يما يودّان النطق به إلى الأعمدة المقنطرة في مسار قُطريّ، بحيث يتبادلان الأسرار في العلن من دون أن يسمعهما أحد، ولو كانوا بجوارك، وكأن السماء والأعمدة والمقنطرات قد تواطأت في هذه الساحة الحُلُميّة لتعيد خلق عالم جديد يُختزَل في غرفة الماضي البعيد تلك التي لم تكن تضم أحدًا سواهما. ما كان للقاء أن يدور عن الأسئلة المكرورة عن الصحة وما فعلته سنوات الغياب، بل بدا منطقيًا أن يبدأ حيث انتهى اللقاء الأخير في غرفة المشفى التي شهدت آخر لحظات حياة إدغار. بدا منطقيًا لأن المنطق في هذا العالم الحُلُمي لا يشبه منطق الواقع، لأن علاقتهما ما كانت علاقة منطق وواقع أصلًا. لا معنى لمرور السنوات هنا، فالعم هو العم وابن الأخ هو ابن الأخ، ولم يختلف إلا تحوّل تلك الغرفة المنمنمة إلى ساحة مزدحمة ولكنها لا تضمّ أحدًا سواهما في الوقت ذاته. تعطّلت باقي الأصوات وبقي صوتاهما فقط، تخاطرهما الذي يقلّب في معاني التندا وحُمرتها، ويقفز من اللوحات إلى المنحوتات إلى الدّرجات الحجرية في ذلك الرواق إلى أسماء شهداء المناضلين ضد الفاشية، أسمائهم المُدوّنة مع صورهم على جدار في الشوارع القديمة. تلك الأسماء وتلك الصور تشبه كلّ ما في المدينة من مفارقات، إذ تبدو هي أيضًا خارج نطاق الزمن. هم شهداء منتصف القرن العشرين، إلا أن الزمن لا معنى له هنا، إذ هم شهداء هذا الزمن أيضًا وكل زمن. ينبّهه إدغار إلى أن الشهداء لا ينتمون إلى قصور الساسة وكلماتهم بل إلى صمت الناس العاديين وتخاطر أعينهم، حيث يغدو الأسى حزمًا، كما هو أسى مريم المجدلية في منحوتة ديلاركا. ليس تفجّعًا كما ينبغي للمنطق أن يكون، بل يستحيل حزمًا يحبس الأسى في الداخل، كما تفعل التندا في بيوت الناس، وكما ينبغي لنا أن نفعل في حضرة الشهداء حين ننزعهم من القصور وأهلها، ونعيدهم إلى الشوارع وإلى الناس، في الكنائس والحانات والدكاكين والبيوت والغرف المنمنمة بكراكيبها البسيطة.
تغدو حُمرة التندا كل شيء، بحيث يكيّفها كل امرئ على هواه. هي حُمرة الدماء، وحُمرة السماء، وحُمرة الوجوه، وحُمرة الأكفّ وهي تحمل الأكياس، وحُمرة الأقدام بعد تجوالها في الشوارع، وحُمرة ذاكرة بيرجر الذي فتح عينيه بعد أن أنهى التخاطر مع إدغار، وشرع يتأمل السماء وهو مستلقٍ على الدرجات الحجرية تحت تلك المقنطرات وسحر ظواهرها الصوتية. عادت أذناه تلتقط أصوات المدينة الآن بعد أن رحل العم للمرة الثانية، تلك الأصوات التي بدا وكأن أذنيه قد كبحتها حين كانت مستغرقة في رحلة الحلم والذاكرة والخيال والتأمل والفن مع إدغار، وكأن أذنيه باتتا تندا حبست أصوات المدينة في الخارج، وحبست الأسى والحزم في الداخل، ولم ينسلّ منها إلا بضع خيوط من ذاكرة الهمس في رسالة أخيرة إلى إدغار وإلينا في منمنمات صغيرة مثل غرفته القديمة أو مثل غرف ذاكراتنا التي ستخلق تندا تخصنا وحدنا نبوح بأسرارها لمن نهوى.
يزن الحاج كاتب ومترجم سوري