دُعيتُ قبل عدّة أشهر إلى حضور ملتقى هندسي تنظّمه شركة تنمية نفط عُمان، وعُرضتْ في هذا الملتقى مجموعة من الدراسات التي تهتم بالشأن الهندسي والصناعي من حيث التحديات والحلول، وجذب انتباهي نقاش عن الطاقة الخضراء وحلول الذكاء الاصطناعي في تحسين عمليات الإنتاج والتشغيل في هذا النوع من الطاقة الذي يراد به الطاقة المتجددة منعدمة -أو قليلة- الانبعاثات الكربونية الضارة بالبيئة، وأحد أنواع هذه الطاقة ما تُعرف بالهيدروجين الأخضر الذي نحتاج إلى تفسير آلية إنتاجه واستعماله والتحديات التي تواجه عمليات إنتاجه وتشغيله والحلول التي تشمل الحلول الرقمية الذكية مثل الذكاء الاصطناعي. نتطرق أولا إلى عرض بعض أهم استعمالات الهيدروجين الأخضر في حياتنا منها: في مجال النقل؛ حيث يمكن استعماله وقودا للسيارات والشاحنات والقطارات والسفن وحتى الطائرات التي تعمل بخلايا الوقود الهيدروجينية، كما يُستعمل كذلك في قطاع الصناعة مثل عمليات تكرير النفط، وإنتاج الأمونيا للأسمدة، ويُعتبر مادة خاما في صناعة الكيماويات، كما يمكن استعمال الهيدروجين وسيلةً لتخزين الطاقة خصوصا من مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والشمس، وفي محطات توليد الكهرباء سواء أكان بشكل مباشر أم دعما للوقود الأحفوري وإنتاجه.

بجانب معرفتنا بالاستعمالات العامة للهيدروجين، نحتاج إلى لفت الانتباه إلى ما يخص أنواع الهيدروجين المتعلق بالطاقة؛ فهناك الهيدروجين الأخضر والأزرق والرمادي، والاختلاف فيما بين هذه الأنواع يكمن في آلية الإنتاج ومستوى التأثيرات البيئية. نأتي أولا إلى تفسير الهيدروجين الأخضر الذي يُنتج بطريقة صديقة للبيئة عبر استعمال مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح عن طريق تحليل الماء (H2O) إلى هيدروجين (H2) وأكسجين (O2) بواسطة عملية تسمى التحليل الكهربائي، وهذا ما يجعل الهيدروجين الأخضر مختلفا عن آليات إنتاج الهيدروجين التقليدية التي تعتمد على الوقود الأحفوري التي تنتج الغازات الضارة، ويكون حينها الهدف من استعمال الهيدروجين الأخضر هو المساهمة في حماية البيئة، وتقليل الانبعاثات الضارة. أما الهيدروجين الأزرق فيمكن تعريفه بأنه نوع من الهيدروجين يُنتج عبر وسائل مرتبطة بمصادر الوقود الأحفوري مثل الغاز الطبيعي باستعمال تقنية استقبال ثاني أكسيد الكربون وتخزينه «Carbon Capture and Storage Systems» (CCS) لتقليل الانبعاثات الضارة التي لا يمكن التخلص منها بشكل كامل مثلما يحدث مع الهيدروجين الأخضر؛ فتشمل عملية الإنتاج إعادة تكوين البخار المحفز (Steam Methane Reforming - SMR)؛ حيث يتفاعل الغاز الطبيعي مع البخار الساخن لإنتاج الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون؛ إذ يُستقبل ثاني أكسيد الكربون الناتج ويُخزّن بدلاً من إطلاقه في الجو والتخلص منه؛ مما يقلل من التأثير البيئي الذي يمكن أن تحدثه هذه الغازات المنبعثة، بهذه الطريقة، يُعدّ الهيدروجين الأزرق خيارًا أكثر استدامة مقارنة بالهيدروجين الرمادي الذي يُنتج من الوقود الأحفوري دون تقنيات (CCS)، لكنه يظل أقل صداقة للبيئة من الهيدروجين الأخضر الذي يُنتج من مصادر الطاقة المتجددة. النوع الثالث هو ما يُعرف بالهيدروجين الرمادي الذي يمكن إنتاجه من الوقود الأحفوري وخصوصا من الغاز الطبيعي عبر عملية تسمى إعادة تكوين البخار المحفز (SMR)؛ ففي هذه العملية، يتفاعل الغاز الطبيعي مع البخار تحت درجات حرارة عالية لإنتاج الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون.

ما يُميّزالهيدروجين الرمادي -المَيزة من حيث تكلفة الإنتاج- هو أنه لا يحتاج إلى عمليات استقبال لثاني أكسيد الكربون الناتج وتخزينه مثلما يحدث في إنتاج الهيدروجين الأزرق؛ مما يؤدي إلى انبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون؛ فيجعله أقل استدامة في الجانب البيئي مقارنة بالهيدروجين الأخضر -الذي يُنتج من مصادر الطاقة المتجددة- أو الهيدروجين الأزرق -الذي يشمل عملية استقبال ثاني أكسيد الكربون وتخزينه-؛ ويعتبر حينها الهيدروجين الرمادي الأكثر شيوعا بسبب انخفاض تكلفة إنتاجه، لكنه يُعدُّ الأقل فائدة بسبب التأثير البيئي بسبب الانبعاثات الغازية الضارة المرتبطة بإنتاجه. ويمكن أن نستنتج عبر هذه المقارنة المختصرة للأنواع الثلاثة أن الهيدروجين الأخضر يُمَثِّلُ الخيارَ الأفضل للطاقة من حيث فوائده للبيئة؛ إلا أن تكلفة إنتاجه العالية تجعل منه خيارا منبوذا من قبل المستثمرين في قطاع الطاقة، ويأتي الهيدروجين الأزرق بعد الأخضر من حيثُ فوائده للبيئة بسبب أساليب الإنتاج التي تحاول تقليل الانبعاثات الضارة، وتكلفة إنتاجه أقل قليلا عن النوع الأخضر، في حين يكون الهيدروجين الرمادي أسوأ الخيارات بسبب عملية إنتاجه المرتبطة بالانبعاثات الضارة بالبيئة، في حين أن تكلفة إنتاجه الأقل من الأنواع الأخرى تجعله خيارا مفضلا عند منتجي الطاقة ومشغليها، ويُعدّ حينها أكثر الأنواع إنتاجا حتى وقتنا؛ فوفقا لدراسة نشرتها مجلة «Process Safety and Environmental Protection» عام 2023م ذكرت أن تكلفة 1 كيلو جرام من الهيدروجين المُنتج بواسطة الطاقة المتجددة تصل إلى قرب 23 دولارًا -وفقا لمصادر أخرى أن التكلفة تبدأ من 5 دولار للكيلو جرام التي تُعدّ أيضا مكلفة مقارنة بالأنواع الأخرى-، بينما يكلّف الهيدروجين المنتج بواسطة الوقود الأحفوري أقل من 2 دولار.

تكلفة أقل وجودة أعلى

يتضح عبر هذه المقارنة السريعة وجود التحديات الفنية التي تعيق تقليل تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر، وهناك عدد من الدراسات التي حاولت أن تجد حلولا لتقليل تكلفة إنتاج هذا النوع من الطاقة لفوائده الكبيرة ومستقبله الواعد في مواجهة الأزمة البيئية بسبب انبعاثات الطاقة الأحفورية الضارة؛ فوفقا لورقة علمية نشرتها مجلة «International Journal of Hydrogen Energy» التابعة لمجموعة «Elesvier» في عام 2021م ذكرت أن تكنولوجيا جديدة طُورت في غرب كندا تملك القدرة على جعل الهيدروجين المستخرج من الوقود الأحفوري خاليًا من الكربون، وأن هذه التكنولوجيا الجديدة لاستخراج الهيدروجين من رمال النفط -البيتومين الطبيعي- وحقول النفط التقليدية بتكلفة منخفضة وبدون انبعاثات كربونية قامت شركة (Proton Technologies Canada Inc) بتجربتها، وأُطلق مصطلح «الهيدروجين المائي» للإشارة إلى إنتاج الهيدروجين الخالي من الكربون من الطاقة الأحفورية عبر هذه التكنولوجيا الجديدة. كذلك قام فريق بحث في مركز بحوث مواد الطاقة في معهد العلوم والتكنولوجيا في كوريا الجنوبية (KIST) - نشر خبر الدراسة موقع «EurekAlert»- بتطوير عامل حفز نانوي لعمليات تحليل المياه عند درجات حرارة عالية يمكنه الحفاظ على كثافة تيار عالية تزيد عن 1 آمبير/سم2 لفترة طويلة عند درجات حرارة تزيد عن 600 درجة مئوية في حين كانت آليات تدهور المواد النانوية عند درجات حرارة عالية غامضة حتى الآن، ونجح الفريق في تحديد الأسباب الأساسية للسلوك غير العادي للمواد النانوية وحل مشكلاتها بنجاح؛ فقاد إلى تحسين أداء خلايا تحليل المياه الواقعية واستقرارها؛ فحققت المواد النانوية التي طورها هذا الفريق أداءً عاليًا واستقرارًا لتقنية تحليل المياه عند درجات حرارة عالية، مما يمكن أن تسهم في خفض تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر؛ ليجعله منافسًا اقتصاديًا مع الهيدروجين الرمادي في المستقبل.

تدخل الآلة !

هناك العديد من المقترحات العلمية التي لا يزال الكثير منها قيد الدراسة والتجارب العلمية، إلا أنه من المهم أن نضع الحلول الرقمية الذكية نصب أعيننا لقدراتها العالية في وضع حلول تقنية تتجاوز الحلول التقليدية الحالية التي من الممكن أن تتفوق عليها، وأحد الطرق هي استغلال خوارزميات الذكاء الاصطناعي في مجال تحسين إنتاج الهيدروجين الأخضر مثل تحسين عمليات التحليل المائي؛ إذ يمكن استعمال الذكاء الاصطناعي لتطوير نماذج تنبؤية دقيقة لعمليات تحليل المياه عند درجات حرارة عالية؛ حيث يمكن أن يساعد ذلك في تحسين الكفاءة وتقليل الفقد في عملية إنتاج الهيدروجين، وتحسين استعمال المواد؛ إذ تستطيع خوارزميات الذكاء الاصطناعي اختيار المواد الأفضل والأكثر كفاءة في عمليات تحليل المياه وتخزين الهيدروجين.

كذلك يمكن تطبيق الذكاء الاصطناعي لتطوير أنظمة تحكم ذكية ومراقبة دقيقة لعمليات إنتاج الهيدروجين؛ ليزيد من كفاءة العمليات ويقلل من المخاطر الرقمية مثل الهجمات السيبرانية. تملك أدوات الذكاء الاصطناعي القدرة على تطوير أنظمة فعّالة لتخزين الهيدروجين ونقله بأمان وبكفاءة، ويستطيع الذكاء الاصطناعي المساهمة أيضا في تحسين عمليات التخطيط والتكامل بين مصادر الطاقة المتجددة وإنتاج الهيدروجين الأخضر مع الشبكات الكهربائية. أرى أن الحلول المقترحة التي يمكن تفعيلها عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي تملك الفرص الأوفر في المساهمة في تحسين عملية إنتاج الهيدروجين الأخضر وتقليل تكلفة إنتاجه، وهذه الحلول المقترحة بحاجة إلى دراسات علمية جادة. أما عن دور سلطنة عُمان في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر؛ فهناك جهود كبيرة تُبذل في هذا الجانب؛ إذ وقعت سلطنة عمان عددا من الاتفاقيات لتطوير مشروعات تتعلق بإنتاج الهيدروجين الأخضر، وتتبنى رؤية «عُمان 2040» طموحات تخدم مجال الطاقة المتجددة منها إنتاج الهيدروجين الأخضر؛ فتُبذل الجهود الكبيرة في سبيل تحقق أهداف كبيرة تخدم هذا القطاع التي بدأ بعض ثمارها يؤتي أكله، وبإذن الله نرى إنجازات كبيرة تتعلق بقطاع إنتاج الهيدروجين الأخضر في قادم الأعوام.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني