تعرفت على الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر ( ١٩٨٢-١٩٩٦)، منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وكنت شابا في مقتبل العمر، ولم يكن لي سابق معرفة به، فقد كنت مدرسا بقسم التاريخ في ذات الجامعة التي تقع تحت إشراف شيخ الأزهر (جامعة الأزهر)، عندما تلقيت دعوة للقائه في اليوم التالي، وأنا في الطريق إليه رحت أتساءل عن السبب في هذه الدعوة المفاجئة، وبمجرد وصولي دخلت مكتبه وقد استقبلني بحفاوة كبيرة، رغم أنني لم أكن قد تشرفت بمعرفته من قبل، بل كنت أراه في التلفاز شخصا تبدو الصرامة على وجهه، وهو ما لم يكن يريحني، إلا أنني فوجئت بعد أن رحب بي قائلا: زميلك (...) مدرس التاريخ الإسلامي قد انحرف عن مهامه كمدرس للتاريخ الإسلامي، وراح يطرق موضوعات تمس العقيدة، فضلا عن كونها خارجة عن دائرة تخصصه، فهو يدرس للطلاب كتابا من تأليفه في أحد مقررات التاريخ الإسلامي ويشكك في أمور حظيت بإجماع علماء المسلمين من قبيل شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وعصمته، ثم زاد من تطاوله حينما راح يشكك في الأحاديث النبوية. ومضى الشيخ قائلا: لقد اخترتك لتذهب إليه في منزله مساء اليوم وتتحدث معه، فأنا مشفق عليه رغم كل شيء، فقد تحدد له موعد مجلس التأديب غدا، وإذا ما مثل أمام المجلس وثبت عليه هذا القول في كتابه فسوف يفصل من وظيفته، أما لو أجاب بالقول بأنه اجتهد ولم يوفق في اجتهاده فقد يكون ذلك مخرجا للعدول عن فصله.
سألت الشيخ لماذا حضرتك اخترتني لهذه المهمة وفي القسم أساتذة كبار من بينهم الشيخ الطيب النجار، وهو الذي أشرف على رسالته للدكتوراه، وكان موضوعها (التصوف في العصر العباسي الثاني)، أجابني الشيخ قائلا: يا ابني لقد سألت عنك، وزملاؤك وأساتذتك شهدوا لك بكلام طيب، شجعني على قيامك بهذه المهمة. شكرت الشيخ على ثقته، وخرجت من مكتبه ورحت أخاطب نفسي، إنها مهمة صعبة، فزميلنا (...) معتد بمعرفته وبقراءاته العميقة في كتب التراث، ولديه قدرة فائقة على الجدل، وكثيرا ما كنت أتحدث معه في الموضوعات التي كان يثيرها، لكنني في كل مرة لم أكن أخرج منه بنتيجة، فكرت في الاستعانة بأقرب صديق مشترك لنا الدكتور حسين الهنيدي، وفي المساء كنا في بيت هذا الصديق دون موعد سابق، وكان يسكن بأحد الأحياء الشعبية في شقة صغيرة بالطابق الأرضي، ولأنه كان قد تزوج مبكرا فقد لاحظت وجود ثلاثة أطفال لم يتجاوز عمر أكبرهم خمسة أعوام.
رحت أنظر إليهم بإشفاق شديد، فسوف يدفعون ثمن تمرد والدهم، وسوف يكون العقاب قاسيا، غدا إذا ما تمسك زميلنا برأيه، فالقانون يقضي في هذه الحالة بفصله من الجامعة، بل من أية وظيفة حكومية أخرى. فتح الحوار صديقنا المشترك الدكتور الهنيدي، وأطال في الشرح وتطرق إلى صميم الموضوع، قائلا له: احتفظ برأيك لنفسك أو بين الخاصة من أصدقائك، أما أن تكون هذه الموضوعات في صلب المقرر الدراسي «تاريخ الدولة العباسية» فهو خروج عن سياق المنهج وإقحام قضايا تبتعد كثيرا عن المقرر الدراسي، ثم رحت أتحدث عن مستقبله الذي يوشك أن يضيع وسألته: وماذا بعد قرار فصلك من الجامعة إن حدث غدا؟! وما مصير هؤلاء الأطفال يا صديقي؟ نظر إلي وبعد صمت طويل قال: اسمع يا صديقي، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما عدلت أبدا عن رأيي. استمر الحوار مجهدا حتى مطلع الفجر، انصرفنا بعدها، وفي اليوم التالي كان صديقنا ماثلا أمام مجلس التأديب الذي استمر لأكثر من عشر ساعات، قضى المجلس بعدها بفصله من الجامعة، والتوصية بعدم إلحاقه بأي عمل آخر في الدولة.
بعدها بشهور قُبض على صديقنا لاتهامه بتكوين ما يسمى بجماعة القرآنيين، مكث في السجن عدة أشهر، إلا أن النيابة لم تحل القضية إلى القضاء باعتبارها قضية رأي، وانتشرت قضية الرجل كالنار في الهشيم إلى أن وصلت إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وراحت تتناقلها وسائل الإعلام في العالم، وقد وجد زميلنا مناصرين له في كثير من بلدان العالم، سافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية محاضرا في كثير من جامعاتها، وانتشر اسمه انتشارا كبيرا، لدرجة انه راح يتنقل بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، متحدثا ومحاضرا في أرقى الجامعات.
ليس هذا هو موضوع المقال، وإنما أردته مدخلا للحديث عن شيخ الأزهر (جاد الحق)، الذي انقطعت علاقتي به بعد هذا اللقاء ١٩٨٣، وحتى عام ١٩٨٨ - على ما أعتقد - حينما دُعي الشيخ إلى حضور مؤتمر عقد في جامعة السلطان قابوس، وكان موضوعه (التقارب بين المذاهب الإسلامية)، وكنت وقتئذ عضو هيئة التدريس بالجامعة ذاتها، منذ بداية افتتاحها ١٩٨٦، وقد فوجئت بوجود شيخ الأزهر في أول جلسة للمؤتمر، وقد اقتربت منه بعد الانتهاء من الجلسة الأولى، وقد أبدى سعادة بوجودي في هذه الجامعة الفتية، كما أبدى سعادة غامرة بزيارة سلطنة عمان لأول مرة، وقد قال لي: حرصت على الحضور لأن آفة المسلمين في هذا العصر هي المعارك الدائرة بين المذاهب الإسلامية، في ظل تعصب ممقوت أبعدنا كثيرا عن وظيفتنا في المساهمة ببناء حضارة حديثة يمكنها التواصل مع العالم، كان الرجل متواضعا للغاية، رقيقا في قوة، صلبا في مواقفه، مخلصا في مهمته، عارفا قدر المنصب الذي يشغله. وفي حديث طويل دار بيننا حينما زرته في مقر إقامته مساءً، وقد قال لي: لقد أشاع البعض كلاما عن المذهب الإباضي لا يتفق مع رسالته، التي صمدت كل هذه القرون، وراحت تشيع قدرا كبيرا من الفهم والحرص على الشريعة ومقاصدها، وأهالوا عليه التراب، والله يا ابني إنهم أقرب إلى الإسلام الحقيقي الذي ظلمه بنوه، بل هو أقرب المذاهب إلى مقاصد الشريعة.
في اليوم الثاني للمؤتمر أسر إليّ شيخ الأزهر بأنه قد تلقى دعوة من السلطان قابوس - طيب الله ثراه - حيث كان يقيم في صلالة، وسألني ما رأيك؟ أجبته: هي دعوة مستحقة يا شيخنا وقبولها أمر واجب، أجاب قائلا: لم أعتد زيارة الملوك والرؤساء، وإنما أسافر إلى البلاد المسلمة الفقيرة في آسيا وإفريقيا للوقوف على مشاكل المسلمين، وخصوصا في ظل موجة عاتية من التعصب الذي يُموَّل من بعض بلادنا العربية في محاولة للانتصار لمذهب إسلامي بعينه. حسم الشيخ الأمر وسافر في اليوم الثالث إلى صلالة على طائرة خاصة، رافقه فيها أحد المستشارين الكبار للسلطان قابوس - طيب الله ثراه -، وقد حظي باهتمام كبير من جلالته الذي يرحب دائما بكبار العلماء، وكان يكن تقديرا خاصا للأزهر وشيوخه. كان من المفترض أن يعود الشيخ إلى مسقط في مساء اليوم نفسه لكي يلحق بالطائرة المتجهة إلى القاهرة، إلا أن جلالته حين علم بذلك خصص له طائرة أقلته إلى القاهرة بصحبة مستشار جلالته.
في الطائرة إلى القاهرة هم المستشار بتقديم مظروف فتحه الشيخ، فإذا هو مكرمة من جلالته، عبارة عن شيك مقبول الدفع باسم الشيخ على البنك العماني في القاهرة، ووفقا لشهادة المستشار المرافق للشيخ والذي روى لي الواقعة أصر الشيخ على الرفض قائلا: شيخ الأزهر لا يتلقى هدايا حتى لو كانت من السلطان قابوس. وقد أجابه المستشار: هدية السلطان لا ترد يا شيخنا. اضطر الشيخ إلى أخذ الظرف. لم أكن أعرف شيئا عن هذا الموضوع، إلى أن كنت في زيارة إلى سلطنة عمان، بعد أن تركت العمل في جامعتها، والتقيت بالصديق مستشار السلطان قابوس - طيب الله ثراه - وروى لي نهاية الموضوع، حينما تلقى القصر السلطاني رسالة عبر السفير المصري في مسقط، يشكر فيها شيخ الأزهر جلالة السلطان على مكرمته، وقد أرفق بها إيصال بإيداع المبلغ المالي في حساب الدعوة بالأزهر، وهي معلومة لا يعرفها الكثيرون ولم يسبق أن تطرق إليها الشيخ جاد الحق.
عقب عودتي من سلطنة عمان ١٩٩٢، وقد توثقت علاقتي بالشيخ، وتبين لي أن الصرامة البادية على وجه الرجل لا تعبر عن حقيقته، وإنما كان ودودا وكان فقيها بالمعنى الحقيقي، معتدا بنفسه وبمنصبه، ولم يهادن على أية قضية يرى أنها تمسّ العقيدة، لعل من أهمها موقفه الصارم، حينما عُقد مؤتمر دولي للسكان في القاهرة ١٩٩٤، وكان من بين القضايا المطروحة في المؤتمر موضوع يتعلق بالمثليين، وقد أرادت بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة أن تقحم هذا الموضوع لكي تضفي عليه نوعا من الشرعية، وكان الشيخ متابعا وصارما فلم يهادن ولم يتردد، وأصدر بيانا قويا ضد هذا الموضوع، مما أثار عليه غضب البعض.
لقد رأيت هذا الرجل الرقيق الهادئ، لكنه كان قويا وصارما في كل ما يتعلق بقضايا الإسلام، عاش حياته متواضعا في شقة صغيرة بأحد أحياء القاهرة، في الطابق الرابع، لم يغادرها حتى وفاته في مارس ١٩٩٦، -رحمه الله وتقبله بفيض رحمته-.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).
سألت الشيخ لماذا حضرتك اخترتني لهذه المهمة وفي القسم أساتذة كبار من بينهم الشيخ الطيب النجار، وهو الذي أشرف على رسالته للدكتوراه، وكان موضوعها (التصوف في العصر العباسي الثاني)، أجابني الشيخ قائلا: يا ابني لقد سألت عنك، وزملاؤك وأساتذتك شهدوا لك بكلام طيب، شجعني على قيامك بهذه المهمة. شكرت الشيخ على ثقته، وخرجت من مكتبه ورحت أخاطب نفسي، إنها مهمة صعبة، فزميلنا (...) معتد بمعرفته وبقراءاته العميقة في كتب التراث، ولديه قدرة فائقة على الجدل، وكثيرا ما كنت أتحدث معه في الموضوعات التي كان يثيرها، لكنني في كل مرة لم أكن أخرج منه بنتيجة، فكرت في الاستعانة بأقرب صديق مشترك لنا الدكتور حسين الهنيدي، وفي المساء كنا في بيت هذا الصديق دون موعد سابق، وكان يسكن بأحد الأحياء الشعبية في شقة صغيرة بالطابق الأرضي، ولأنه كان قد تزوج مبكرا فقد لاحظت وجود ثلاثة أطفال لم يتجاوز عمر أكبرهم خمسة أعوام.
رحت أنظر إليهم بإشفاق شديد، فسوف يدفعون ثمن تمرد والدهم، وسوف يكون العقاب قاسيا، غدا إذا ما تمسك زميلنا برأيه، فالقانون يقضي في هذه الحالة بفصله من الجامعة، بل من أية وظيفة حكومية أخرى. فتح الحوار صديقنا المشترك الدكتور الهنيدي، وأطال في الشرح وتطرق إلى صميم الموضوع، قائلا له: احتفظ برأيك لنفسك أو بين الخاصة من أصدقائك، أما أن تكون هذه الموضوعات في صلب المقرر الدراسي «تاريخ الدولة العباسية» فهو خروج عن سياق المنهج وإقحام قضايا تبتعد كثيرا عن المقرر الدراسي، ثم رحت أتحدث عن مستقبله الذي يوشك أن يضيع وسألته: وماذا بعد قرار فصلك من الجامعة إن حدث غدا؟! وما مصير هؤلاء الأطفال يا صديقي؟ نظر إلي وبعد صمت طويل قال: اسمع يا صديقي، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما عدلت أبدا عن رأيي. استمر الحوار مجهدا حتى مطلع الفجر، انصرفنا بعدها، وفي اليوم التالي كان صديقنا ماثلا أمام مجلس التأديب الذي استمر لأكثر من عشر ساعات، قضى المجلس بعدها بفصله من الجامعة، والتوصية بعدم إلحاقه بأي عمل آخر في الدولة.
بعدها بشهور قُبض على صديقنا لاتهامه بتكوين ما يسمى بجماعة القرآنيين، مكث في السجن عدة أشهر، إلا أن النيابة لم تحل القضية إلى القضاء باعتبارها قضية رأي، وانتشرت قضية الرجل كالنار في الهشيم إلى أن وصلت إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وراحت تتناقلها وسائل الإعلام في العالم، وقد وجد زميلنا مناصرين له في كثير من بلدان العالم، سافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية محاضرا في كثير من جامعاتها، وانتشر اسمه انتشارا كبيرا، لدرجة انه راح يتنقل بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، متحدثا ومحاضرا في أرقى الجامعات.
ليس هذا هو موضوع المقال، وإنما أردته مدخلا للحديث عن شيخ الأزهر (جاد الحق)، الذي انقطعت علاقتي به بعد هذا اللقاء ١٩٨٣، وحتى عام ١٩٨٨ - على ما أعتقد - حينما دُعي الشيخ إلى حضور مؤتمر عقد في جامعة السلطان قابوس، وكان موضوعه (التقارب بين المذاهب الإسلامية)، وكنت وقتئذ عضو هيئة التدريس بالجامعة ذاتها، منذ بداية افتتاحها ١٩٨٦، وقد فوجئت بوجود شيخ الأزهر في أول جلسة للمؤتمر، وقد اقتربت منه بعد الانتهاء من الجلسة الأولى، وقد أبدى سعادة بوجودي في هذه الجامعة الفتية، كما أبدى سعادة غامرة بزيارة سلطنة عمان لأول مرة، وقد قال لي: حرصت على الحضور لأن آفة المسلمين في هذا العصر هي المعارك الدائرة بين المذاهب الإسلامية، في ظل تعصب ممقوت أبعدنا كثيرا عن وظيفتنا في المساهمة ببناء حضارة حديثة يمكنها التواصل مع العالم، كان الرجل متواضعا للغاية، رقيقا في قوة، صلبا في مواقفه، مخلصا في مهمته، عارفا قدر المنصب الذي يشغله. وفي حديث طويل دار بيننا حينما زرته في مقر إقامته مساءً، وقد قال لي: لقد أشاع البعض كلاما عن المذهب الإباضي لا يتفق مع رسالته، التي صمدت كل هذه القرون، وراحت تشيع قدرا كبيرا من الفهم والحرص على الشريعة ومقاصدها، وأهالوا عليه التراب، والله يا ابني إنهم أقرب إلى الإسلام الحقيقي الذي ظلمه بنوه، بل هو أقرب المذاهب إلى مقاصد الشريعة.
في اليوم الثاني للمؤتمر أسر إليّ شيخ الأزهر بأنه قد تلقى دعوة من السلطان قابوس - طيب الله ثراه - حيث كان يقيم في صلالة، وسألني ما رأيك؟ أجبته: هي دعوة مستحقة يا شيخنا وقبولها أمر واجب، أجاب قائلا: لم أعتد زيارة الملوك والرؤساء، وإنما أسافر إلى البلاد المسلمة الفقيرة في آسيا وإفريقيا للوقوف على مشاكل المسلمين، وخصوصا في ظل موجة عاتية من التعصب الذي يُموَّل من بعض بلادنا العربية في محاولة للانتصار لمذهب إسلامي بعينه. حسم الشيخ الأمر وسافر في اليوم الثالث إلى صلالة على طائرة خاصة، رافقه فيها أحد المستشارين الكبار للسلطان قابوس - طيب الله ثراه -، وقد حظي باهتمام كبير من جلالته الذي يرحب دائما بكبار العلماء، وكان يكن تقديرا خاصا للأزهر وشيوخه. كان من المفترض أن يعود الشيخ إلى مسقط في مساء اليوم نفسه لكي يلحق بالطائرة المتجهة إلى القاهرة، إلا أن جلالته حين علم بذلك خصص له طائرة أقلته إلى القاهرة بصحبة مستشار جلالته.
في الطائرة إلى القاهرة هم المستشار بتقديم مظروف فتحه الشيخ، فإذا هو مكرمة من جلالته، عبارة عن شيك مقبول الدفع باسم الشيخ على البنك العماني في القاهرة، ووفقا لشهادة المستشار المرافق للشيخ والذي روى لي الواقعة أصر الشيخ على الرفض قائلا: شيخ الأزهر لا يتلقى هدايا حتى لو كانت من السلطان قابوس. وقد أجابه المستشار: هدية السلطان لا ترد يا شيخنا. اضطر الشيخ إلى أخذ الظرف. لم أكن أعرف شيئا عن هذا الموضوع، إلى أن كنت في زيارة إلى سلطنة عمان، بعد أن تركت العمل في جامعتها، والتقيت بالصديق مستشار السلطان قابوس - طيب الله ثراه - وروى لي نهاية الموضوع، حينما تلقى القصر السلطاني رسالة عبر السفير المصري في مسقط، يشكر فيها شيخ الأزهر جلالة السلطان على مكرمته، وقد أرفق بها إيصال بإيداع المبلغ المالي في حساب الدعوة بالأزهر، وهي معلومة لا يعرفها الكثيرون ولم يسبق أن تطرق إليها الشيخ جاد الحق.
عقب عودتي من سلطنة عمان ١٩٩٢، وقد توثقت علاقتي بالشيخ، وتبين لي أن الصرامة البادية على وجه الرجل لا تعبر عن حقيقته، وإنما كان ودودا وكان فقيها بالمعنى الحقيقي، معتدا بنفسه وبمنصبه، ولم يهادن على أية قضية يرى أنها تمسّ العقيدة، لعل من أهمها موقفه الصارم، حينما عُقد مؤتمر دولي للسكان في القاهرة ١٩٩٤، وكان من بين القضايا المطروحة في المؤتمر موضوع يتعلق بالمثليين، وقد أرادت بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة أن تقحم هذا الموضوع لكي تضفي عليه نوعا من الشرعية، وكان الشيخ متابعا وصارما فلم يهادن ولم يتردد، وأصدر بيانا قويا ضد هذا الموضوع، مما أثار عليه غضب البعض.
لقد رأيت هذا الرجل الرقيق الهادئ، لكنه كان قويا وصارما في كل ما يتعلق بقضايا الإسلام، عاش حياته متواضعا في شقة صغيرة بأحد أحياء القاهرة، في الطابق الرابع، لم يغادرها حتى وفاته في مارس ١٩٩٦، -رحمه الله وتقبله بفيض رحمته-.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).