تمثل الحرب الهمجية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة بدعم سياسي وعسكري من بعض الدول والأنظمة الغربية منطقة ثرية لقراءة الحدث من زوايا كثيرة منها السياسي والاستراتيجي والثقافي والأيديولوجي.. وأيضا الفلسفي، والزاوية الفلسفية تستطيع أن تكشف الكثير عن الجوانب الأخلاقية والقيمية والديمقراطية وحقوق الإنسان وهي كلها مبادئ ومرتكزات تقوم عليها نظرية النظام العالمي الجديد الذي وضع الغرب قواعدها وهي «الديمقراطية الليبرالية».

وتقدم هذه الحرب فرصة ليس، فقط، لاستكشاف نظريات العدالة والأخلاق والسلطة وحقوق الإنسان بالنسبة للكيان الصهيوني الإسرائيلي ولكن أيضا يمكن أن تستكشف الغرب الداعم له الذي بدا أنه سقط سقوطا مدويا أمام أسئلة النظريات الفلسفية الغربية.

إن مفهوم العدالة في الحرب كما نفهمها من أدبيات نظرية «الحرب العادلة» التي تحدث عنها الكثير من الفلاسفة الغربيين من أيام الفيلسوف/ القديس أوغسطين وتطورت على يد فلاسفة ومفكرين معاصرين لا يسوغ أي حرب إلا في ظروف معينة، بما في ذلك أن تشن الحرب من قبل سلطة عادلة ولسبب عادل وبنيّة سليمة وأن تكون هي الحل أو الملاذ الأخير الذي لا خيار بعده. وهذه الأسباب لا يمكن توفرها في أي ركن من أركان هذه الحرب، فلا يمكن أن تكون أي سلطة احتلال في الدنيا عادلة للشعب الذي تحتله، وهذه ليست رؤية نظرية ولكنها تنطلق من منطق ما يحدث أمام مرأى ومسمع العالم كله منذ أن بدأ الاحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين وأقرت به جميع منظمات المجتمع الدولي بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ورئيس وزراء دولة الاحتلال مطارد بقضايا فساد في «دولته» المحتلة ولذلك من باب أولى لن يكون عادلا ومنصفا للشعب الذي يحتله!

وفي جميع الأحوال لم تكن هذه الحرب التي أسست دولة الاحتلال لأسبابها المنطقية عندما حولت غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم وقطعت عن الفلسطينيين كل آفاق المستقبل وحاولت أن توقف حركة التاريخ التي لا يمكن إيقافها ما دام الإنسان الحر تدب في جسمه الحياة.

لقد مارست دولة الاحتلال الإسرائيلي كل أشكال جبروت السلطة والعنف الهيكلي في تاريخ احتلالها الجائر لفلسطين، وباتت غزة أحد أكبر الأمثلة التي يمكن أن تقرأ في ضوئها نظرية العنف الهيكلي التي تشير إلى منع السكان من الحصول على احتياجاتهم الأساسية.. وفي الحقيقة كان هذا المنع أحد أهم أسباب تفجر الأحداث في غزة في أكتوبر الماضي. حيث لا تستطيع اللغة وحدها وصف طبيعة الحصار الخانق والحرمان الاقتصادي الذي مارسته سلطة الاحتلال على قطاع غزة لأكثر من عقد ونصف من الزمن؛ ما يعني أن تفاقم الصراع كان نتيجة حتمية للعنف الهيكلي الذي مارسته سلطة الاحتلال على قطاع غزة فيما كان يمكن بكل سهولة تجنب تلك القيود وترك الناس هناك يعيشون حياة طبيعية تشعرهم أنهم بشر مثلهم مثل غيرهم.

وفي مسار آخر من مسارات الرؤية الفلسفية للحرب التي يشنها الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة يمكن استعادة الرؤية الفلسفية الغربية التي تؤكد على المسؤولية الأخلاقية تجاه «الآخر»، وأولوية العلاقات الإنسانية. وفي هذا المسار تسقط إسرائيل وتسقط معها الثقافة الغربية التي لا تستطيع أن ترى «الآخر» أو تعترف بوجوده الذي يكتسب حقوقا مشابهة لحقوق «الأنا»، ويزيد طغيان هذه النظرة عندما يكون الآخر ضعيفا؛ لذلك فإن فكرة حقوق الإنسان التي تقوم عليها «الليبرالية» الغربية هي حق من حقوق الغرب وحدهم وليس «الآخر» إلا إذا استُخدمت في سياق الابتزاز السياسي أو الاقتصادي وإلا فإن الغرب لا يطبق حقوق الإنسان إلا على مواطنيه أما «الآخر» فإنه ما زال يتساءل أصلا في حقيقة وجودهم وإنسانيتهم!

وليست حقوق الإنسان وحدها التي تسقط في التطبيق العملي للغرب مع الآخر ولكن أيضا كذلك تسقط قيم الحوار والسلام إلا بالقدر الذي يستطيع الغرب تحقيق أهدافه به ومصالحه.

إن الفلسفات الحوارية لأمثال الفيلسوف النمساوي مارتن بوبر تؤكد على الحوار واللقاء بين «أنا وأنت» وتقترح طرقا نحو التفاهم والمصالحة، ففلسفة بوبر الذي له جذوره في التقليد الفلسفي اليهودي تسلط الضوء على إمكانية الحوار كوسيلة لتجاوز الصراع، كما أنه يؤكد بشكل واضح ضرورة الاعتراف بإنسانية الآخر والدخول في حوار حقيقي معه كأساس للسلام.

إن هذه الحرب التي تجعلنا ننظر إلى ما هو أبعد من الاستراتيجيات السياسية والعسكرية المباشرة، للنظر في مسائل أعمق تتعلق بالعدالة والمسؤولية وإمكانية السلام، تفضح إسرائيل ومعها الغرب وتسقطهم أمام نظرياتهم الفلسفية وتطرح أمامهم الكثير من الأسئلة حول العدالة وإنسانية الإنسان وحقوقه وكرامته.