أحمد سويلم: الساحة مملوءة بقصيدة النثر لكنها بحاجة للتصفية فالكثير منها استسهال -

سليمان المعمري: مناهجنا الدراسية العربية ظلمت قصيدة النثر.. والشعر أعمق من الوزن والتهويمات

أحمد شافعي: الشباب غالبًا يضيقون بالرصانة ويؤثِرون الركاكة على الجزالة

د. حسين حمودة: المعركة بين القديم والجديد لم تنته حتى الآن، وسوف تتبلور نتائجها في أزمنة قادمة

عادل ضرغام: نفقد شعراء مهمين بانخراطهم داخل منظومة الجوائز العربية

ليلى عطاء الله: مَن يعادون قصيدة النثر يحملون قناعات برفض كلِّ جديد لأنّه يهدم ثوابتهم

وليد الخشاب: لن يمر عقدان حتى تصبح القصيدة العمودية طرفة عجيبة لكنها لن تختفي

د. محمد سليم شوشة: القصيدة الجديدة تواجه تحديات تتعلق بالتصورات الخاطئة والتافهة

رغم أن شعراء قصيدة النثر أصبحوا كهولًا، بل إن بعضهم تجاوز الستين من عمره، إلا أن تلك القصيدة لا تزال تُواجَه بعنف غير مسوغ، خاصة من الأجيال الأقدم، فمتى تنتهي محاولات إسكات شعرائها والتقليل منهم؟ وهل القصيدة العمودية صالحة للتعبير عن الحياة الآن؟ ولماذا تعيش الساحة الأدبية فوضى تجعل الجميع يمارس نَظم القصيدة الجديدة، وتخلط الجيد بالرديء؟ ولماذا عجز النقاد عن القيام بدورهم في فرز الذهب عن «الفالصو»؟ في هذا التحقيق يتحدث شعراء ونقاد عن الصراع المتجدد بين قصيدة النثر والقصيدة الكلاسيكية.

الشاعر المصري أحمد شافعي يرى أن «قصيدة النثر هي الشعر في نزقه التام. هي الشعر حينما يتخلى عن رزانته ووقاره. هي الضحكة المجلجلة في سرادق العزاء الجهم، هي ارتداء الجينز البالي في دار الأوبرا، هي الشرود الفاجر بينما الخطيب على المنبر»، ولذلك يصبح من الطبيعي تمامًا، بحسب رأيه، أن تكرهها الأغلبية، ذلك أن الأغلبية تريد من يحمِّسها، أو يبكي نيابة عنها، أو يوجز لها الحكمة في كوب حليب دافئ تشربه لتنام نومًا بلا أحلام.

يقول: «أنا لا أفهم فقط رفض الجموع لقصيدة النثر، بل إن القلق سوف يعتريني لو أحبوها. قصيدة النثر المحبوبة تناقض صارخ، هي قصيدة شاخت وثقلت خطاها وكثرت تجاعيدها وخير لها أن تجلس في الشمس مع الأجداد بدلًا من أن تزاحم الشباب، متصابية مثيرة للشفقة».

ويضيف: «أما عن القطيعة بين الشعراء الجدد والشعر الكلاسيكي فهذا دأب الشباب في الغالب، لأنهم يضيقون بالرصانة والجدية، ويؤثرون العجمة والركاكة على الفصاحة والجزالة. لكنني أعرف من تجربتي الشخصية أن هؤلاء الشعراء، بمرور الزمن، يمضون حتف أنفهم لا إلى القديم لأنه قديم، ولا إلى الجديد لأنه جديد، وإنما إلى الجميل أينما يكون. الجوع إلى الجمال، عاجلًا أم آجلًا، يُصلِح هذا الاعوجاج، ويصل ما انقطع».

المتعصِّبون للوزن

الكاتب العماني سليمان المعمري يشدد على أن «قصيدة النثر قد رسخت وجودها اليوم في الساحة الشعرية العربية، بدليل أن معظم التجارب المهمة الآن في الشعر العربي لشعراء نثر، لكنه يرى الضجة المفتعلة حول الأشكال الشعرية (العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر) ستظل مستمرة في عالمنا العربي، للأسف، وقد شبَّهها في مقال سابق له بانشغال مدعوين في وليمة بانتقاد الأوعية التي قَدّم فيها المضيفُ الطعامَ دون أن ينتبهوا إلى أن هذا الطعام شهيٌّ وساخن ومغرٍ بالأكل، وظلوا يتجادلون حول الأوعية إلى أن برد الطعام فلم يستطيعوا التلذذ به.

يعلق: «أقول دائمًا إن عدم تقبُّل قصيدة النثر في ساحتنا الثقافية عائد إلى مناهجنا الدراسية العربية التي ظُلِمتْ فيها قصيدة النثر مرتين؛ الأولى بتأخر تدريسها، وعندما بدأ تدريسها صار بشكل خجول ذرًّا للرماد في العيون، والثانية بإيكال مهمة التدريس هذه إلى نوعية من المدرِّسين يمكن تسميتهم بــمتعصّبي الوزن»، فهم أنفسُهم لم يَدرُسُوا هذا النوع من الشعر (وأعني به قصيدة النثر)، فلم يتقبّلوه أو يستسيغوه، وانعكس هذا على تدريسهم له، صحيح أن هناك استثناءات لهذه القاعدة، لكنها استثناءات تؤكد القاعدة لا تنفيها. ثمة تعريف منقوص للشعر في مناهجنا الدراسية تتقدمه دائمًا العبارة الكليشيهية: «كلام موزون مقفى»، وهو التعريف الذي يجعل الوزن والقافية شرطين أساسيين للاعتراف بالشعر، وما خرج عنهما فليس بشعر، وعليه فإن قصيدة النثر الجيدة لا يتسع لها هذا المقاس الضيق. وأشدد على «الجيدة»، لأنه يمكن أن تكون هناك قصيدة نثر رديئة أيضًا مثلما هناك قصيدة عمودية جيدة وأخرى رديئة. فالشعر أعمق من الوزن والقافية لدى الشعراء الكلاسيكيين، ومن التهويمات اللغوية لدى «مدّعي» قصائد النثر، إنه- كما كتبتُ مرة- طريقة في النظر إلى الحياة، التقاط اللحظات الجوهرية فيها وتأبيدها بكلمات ليس كالكلمات، إعادة الأشياء إلى طبيعتها البكر، اللعب باللغة واكتشاف ممكناتها، بالمعنى الإيجابي للعب. يستوي في ذلك قصيدة عمودية لمحمد مهدي الجواهري، أو قصيدة نثر لوديع سعادة».

نظام السطر

من جهتها تعترف الناقدة التونسية والباحثة في الشعر العربي الحديث ليلى عطاء الله بأن «قصيدة النثر التي صارت من الشعر الكلاسيكي، ورغم مرور ما يقارب القرن من الزمن منذ أوَّل ممارسة لها في مجلة شعر اللبنانية، تلقى عزوفًا عند المتلقي في الأدب العربي».

يعود الأمر في وجهة نظرها إلى ثلاثة عوامل تتعلق بطبيعة القصيدة، وبالشاعر، والقارئ. تقول: «قصيدة النثر تُحدَّد شكلًا باعتماد نظام السطر، فتكوِّن فقرة، وهو ما يختلف عن شكل البيت الذي يمثل وحدة تركيبية، وإيقاعيِّة، ودلالية. وهي على مستوى الإيقاع تنهض على التنويع في صور الأساليب لا الوزن».

وترى أن هذا النوع الذي بدأ مع الشاعر الفرنسي برتران، ثمّ طوَّره الشاعر بودلير في كتابه «سأم باريس»، ومن بعده الشاعر رامبو، ظل يعتمد شكلًا خاصًا، يتميز عن النثر ككل شعر بالانزياح في الصور، وفي الموسيقى، فالتسمية نثر، ليست سوى تأكيد لقالب الكتابة، وليس محتوى النص، لأن الشعر شعر ولا يمكن أن يكون نثرًا.

العامل الثاني، بحسب ليلى عطاء الله، يتعلق بالشاعر العربي، الذي ولعوامل كثيرة، كتب قصيدة النثر في بنية شكلية هي بنية البيت في الشعر التفعيلي، وهذا ما أدى إلى الالتباس في تحديد هذا النوع. وكانت المقارنة العقيمة بين موزون ومنثور، وبين سطر وبيتٍ، وهو ما أوقع من يكتبون أنفسهم في نوع من الاستسهال جعلهم يكتبون نثرًا لا علاقة له بالشعر مكتفين بتوزيعه توزيعًا متقطعًا على مساحة النص.

أما العامل الثالث فيختص بالمتلقي الذي يخضع لقانون «كل شيء أو لا شيء» على حدِّ عبارة جان كوهين، فالنص عنده إما أن يكون مُقفَّى أولًا، موزونًا أو غير موزون، لكن النظم غير الوزن، وهو اختلاف في الدرجة لا في طبيعة النص، الانزياح في المستوى الدلالي، وتنويع الوظائف، والدرجة هي ما تميز شعرًا عن نثر، وشعرًا عن شعر في المجال ذاته. تعلق: «مَن يعادون قصيدة النثر، يحملون مسبقًا قناعات لا تبيد، منها عدم وجود الإيقاع خارج الوزن، ومنها رفض كلِّ جديد لأنّه يهدم ثوابتهم، ومنها أنَّهم لا يقرأون النصوص الشعريَّة التي تتجاوز التصنيف، وقد صرّح الشاعر المصري عماد أبو صالح أنّه يرفض مصطلح قصيدة النثر ليكتفي بمصطلح شعر. لكن المتلقي يحتاج بدوره إلى كفاءات تمكنه من فهم الجديد دون أن يعاديه أو يرفضه، إذ توجد بداهة في التلقي لا تؤثِّر فيها المعرفة التأمليَّة. فقد بقيت الأرض ساكنة في أعيننا حتى حين علمنا أنها تدور. يقول عماد أبو صالح في ديوانه الأول: «أمور منتهية أصلًا: الشعر صورة وإيقاع يعيد ترتيب العالم كيفما كان شكله. بيت، تُصنع غرفه من الكرتونات، وتجلس مبتسمة. هي إن بكت، ستبتل الحوائط، وتنام ثانية في العراء».

شعراء قصيدة النثر شاخوا

الشاعر والناقد المصري الدكتور وليد الخشاب يقول: «لم تزل هناك مسافة -بل وربما هوة- بين كتَّاب قصيدة التفاصيل الحرة أو قصيدة النثر وبين شعراء العمود. لكن برأيي، شعراء قصيدة النثر أنفسهم قد شاخوا، فلم يعد الجدل حول القصيدة الجديدة بين شباب وشيوخ، بل هو بين مجددين ومحافظين على تنوع أجيالهم».

ويضيف: «أنتمي إلى جيل التسعينيات وكثير منا قد أوغل في الخمسينيات، وكثير منا قد تجاوز الستين. قصيدة النثر في اعتقادي أصبحت هي السائدة عدديًا على الساحة الأدبية، ولن يمر عقدان حتى تصبح القصيدة العمودية طرفة عجيبة، لكنها بالطبع لن تختفي لأن لها جمهورًا محترمًا».

أما عن القطيعة بين أهل النثر وأهل العمود في الشعر فهي توازي، بحسب وليد الخشاب، القطيعة بين التجديديين والمحافظين على المستويات الأخلاقية والسياسية في المجتمع. يعلق: «نعيش في عالمنا العربي مرحلة تحول لم تكتمل بين القديم والحديث، ومرحلة من التوتر المكتوم لأن المجتمعات لم تستقر على تقبل الحديث تمامًا ولا على تنحيته نهائيًا. هذا «الصدع» المجتمعي له صداه على صعيد الشعر: المحافظون يتمسَّكون بقيمهم، بما فيها القيم الجمالية للعمود، والمجددون يرفضون العمود بقوة لأنه يرمز لماضوية ما وجمود ما، يعارضونهما على جميع المستويات. ربما يشبه هذا الموقف لحظة التوتر في المجتمع المصري بين المعمَّمين والمطربشين منذ مائة عام، والذي اختفى تمامًا باختفاء الإلحاح المجتمعي على تغطية الرأس داخل المدن. فقياسًا على ذلك المثال، ربما يرأب الصدع بين أهل النثر وأهل العمود اتفاق محتمل حول صيغة شعرية مغايرة».

وعي الكاتب

الشاعر المصري أحمد سويلم يبدأ كلامه بالتأكيد على حرية المبدع، وأن يكتب ما شاء وبالأسلوب الذي يرتضيه. فالبوح وإخراج الطاقة الإبداعية أمران لا يتحكم فيهما وعي المبدع.

ويرى أن لدينا في الإبداع مصطلحيْن هما الشعر، والنثر، ويعلق: «لكل منهما مقوماته الفنية الخاصة المرنة التي تتيح استيعاب التطور دائمًا، وحينما يقتربان نجد الشعر المنثور أو المرسل، والنثر الفني، أما أن نقول «قصيدة النثر» فأظن ذلك خلطًا وليس تقاربًا، فماذا يمنع من تسميته «النثر الفني». أو «نصوص أدبية»، أو «خواطر»، ومع ذلك فهناك من هذا اللون نصوص جيدة فعلًا لكنها قليلة جدا ونادرة. إذن أنا أختلف في المصطلح وأعترف بها نصوصًا أدبية».

سويلم يؤكد أن بعض من يكتب هذا الشكل يرفض كل نماذج الشعر السابق عليه ولا يعترف إلا بما يكتب هو، وهم أيضًا يبدعون وينظِّرون لأنفسهم، ويضع كل مبدع لنفسه مقوماته الفنية التي يرتضيها، فلا توجد إلى الآن ملامح محددة متفق عليها كما توجد في فنون الكتابة الأخرى، وبعضهم يقول مثلًا: إن الموسيقى في هذا الشكل داخلية، والسؤال: أليس في القصة القصيرة والرواية والنثر الفني موسيقي داخلية؟».

يعود سويلم للتأكيد على أنه مع أي إبداع وبوح وجداني وبأي أسلوب كان لكن في إطاره الفني المقبول دون خلط، فالساحة متسعة لأي تجربة جديدة، دون الإغارة أو نفي ما سبق هذه التجارب. ويختم كلامه قائلًا: «أعرف أن الساحة مملوءة بهذا اللون من الكتابة، لكنها في حاجة إلي التصفية، فالقليل جدًا جيد، والكثير جاء باستسهال وتجرؤ علي فن الكتابة».

قصيدة النثر والتراث

بالرغم من تاريخها الطويل تعاني قصيدة النثر، بحسب الناقد المصري الدكتور عادل ضرغام، وجودًا قلقًا، مما يجعل إشكالية وجودها حاضرة، وهذا كله وثيق الصلة بلحظة الثبات التي لا نفارقها، فإلى هذه اللحظة لم يتجاوز نقد قصيدة النثر مرحلة التعريف والتحديد مشدودين إلى إثبات مشروعية وجودها في التراث، وذلك لتمرير وجودها. فليس هناك دراسة تخلو من ذلك السؤال، بالرغم من كونه سؤالًا تمَّ تجاوزه في كل الآداب، للانتقال منه إلى سؤال الوصف، ومعاينة الأشكال واختلافاتها.

هناك سبب آخر ربما يكون كاشفًا عن أسباب قلق هذا الشكل في أدبنا العربي، بالرغم من مرور ما يقارب القرن على ظهور الكتابات الأولى له، يتمثل في تعدد أشكاله، فقصيدة النثر لا شكلَ ثابت لها، وليس هناك أطر شكلية أو فنية مثل الشعر التراثي أو شعر التفعيلة. فهي شكل يتعاظم على التقعيد أو على تأسيس المرجعية. فهذه القصيدة – عند الشعراء الحقيقيين- ميلاد دائم، ويتغير شكلها مع كل نص حتى مع نصوص الشاعر ذاته، فهي قصيدة ضد الثبات. وقصيدة النثر بهذا الفهم لا تعطي تصورًا جاهزًا يمكن الاستناد إليه في مقاربتها، خاصة مع النقاد والباحثين الذين يتوجهون إليها بمنطلقات قديمة جاهزة لا تخلو من ثبات، فهي تمثل خلخلة دائمة لكل شكل ثابت ومستقر.

هناك سبب آخر مشدود إلى حركة الارتداد التي تلازم الإبداع الشعري العربي، بحسب ضرغام، فاستنادا إلى أيديولوجية فنية لا تنفصل في التحليل الأخير عن الأيديولوجية الدينية، نجد عددًا كبيرًا من المسابقات الشعرية يعمل ضد حركة التجديد والتطوير في الفن الشعري، وكأن هذه المسابقات تمنح الأشكال التقليدية قبلة الحياة من خلال هذه الجوائز التي لا يقف دورها عند تلك الحدود. فلهذه الجوائز أثر سلبي، لأننا نفقد شعراء مهمين بانخراطهم داخل منظومة الجوائز العربية، فنصبح أمام كتابة موجهة، لا تستجيب لمتطلبات الفن قدر استجابتها لمتطلبات ومعايير الجائزة الفنية غير المعلنة بشكل كامل.

هناك سبب أخير، كما يقول ضرغام، يتمثل في النظرة المتشككة تجاه قصيدة النثر، خاصة في ظل جدل الأيديولوجيات، في كونها نصًا ينفتح على الآخر الأجنبي، بالرغم من أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن إسهام الشعرية العربية داخل هذا الشكل يتجاوز الشكل الأجنبي، وقد أخذ الارتباط بالشكل الأجنبي- إن صحَّ واستقرَّ- مسارب وأشكالًا عديدة، ولم يستمر على هيئة واحدة، فقد تحرَّك من النقل والتأثر إلى الحوار الباحث عن الخصوصية الفنية والتفرد.

الشعر أكبر من مدارسه

الشاعر الفلسطيني المتوكل طه يرى أن سؤال التحقيق يحمل انحيازًا مضمرًا نحو قصيدة النثر، ويقول: «ليس دقيقًا وليس كل الشعراء الكلاسيكيين ينأون بأنفسهم عن هذا النوع من الكتابة. أولًا الشعر أكبر من مدارسه وأشكاله، وهناك فارق بين الشعر والشعرية. قد أجد الشعرية في النثر من خلال نص مسرحي، رواية، أو قصة قصيرة، وحتى في بعض المقالات. أما الشعر فقد توافق وتواتر العرب، على مدار قرون، على أن له ميزات محددة تجعل منه شعرًا. والأذن العربية تماهت واستمرأت هذا الإيقاع الذي عُبِّر عنه من خلال الحمولة الطويلة، من امرئ القيس حتى آخر شاعر يكتب قصيدة الآن».

يعتقد طه أن الشعر الكلاسيكي ليس كلاسيكيًا، بمعنى أن قصيدة عمودية قد تحمل حداثة أكثر مما تحملها قصيدة نثر، وبالتالي فإن تحديد هوية النص بناء على شكله، بشكل مُسبق، فيه ظلم. يعلق: «لهذا السبب لا توجد قصيدة كلاسيكية وقصيدة حديثة. وإنما يوجد شعر، بصرف النظر عن شكله، قد يكون على شاكلة بحور الشعر العربي، وقد يكون على شكل قصيدة التفعيلة، وقد يأخذ شكلًا نثريًا، ثم أنا أعتقد بأن الشعر العمودي له شخصيته، وقصيدة التفعيلة صارت راسخة، وهناك شعراء كبار في كل الأقطار العربية أسهموا في تعميقها وتكريسها، أما قصيدة النثر فلا أظن أنها وجدت شخصيتها حتى الآن، هي تكابد، هي تحاول، هي مقترح جمالي، وأظن أنها تصلح لأن تُقرأ لا أن تُسمع، لأن الأذن العربية، حتى هذه اللحظة، لم تستسغ هذه القصيدة، ثم إن قصيدة النثر لا يمكن أن تزاحم القصيدة المتعارف عليها إلا إذا كانت تحمل خلاصة فلسفية، حكمة، أو تطارد مفارقة، بمعنى أن ما ينقذها هو الحكمة أو المفارقة فقط، وما عدا ذلك تكون أقرب إلى المقال، خصوصًا إذا كانت تنتمي إلى قصيدة الكتلة».

ويضيف: «بقي أن أقول: إنني أكتب القصيدة العمودية باحتراف، وقصيدة النثر، ولي سبع مجموعات نصوص، كثير من النقاد عرَّفوها بأنها نثر، لكنني لم أحب التسمية. أنا لم أذهب لكتابتها وفي ذهني شكل محدد لها. وأعتقد أن النص هو ما يختار شكله، وهذا ما يجب أن يفعله الشعراء. لكن لا ينبغي محاربة قصيدة النثر، ولا يجوز أصلًا لأحد أن يفرض وعيه أو ذائقته على أحد. ليقل كل منا ما يشاء وبالكيفية التي يراها مناسبة. فقط بشرط واحد، أن لا يغادر الشعرية».

تجليات الصراع

من جانبه يؤكد الناقد المصري الدكتور محمد سليم شوشة أن قصيدة النثر هي بحد ذاتها أحد تجليات الصراع بين القديم والجديد؛ صراع الماضي والحاضر، وهو نسق ثابت في الحياة بشكل عام، وفي الفن والثقافة والأدب بشكل خاص. وطالما كانت هناك تحولات للحياة فستظل عمليات التحديث والتجديد مستمرة، وهذا ما ينسحب على عملية التلقي والاستقبال والتذوق أو الخبرة والذائقة الأدبية، لهذا يكون الرفض للجديد، فمن الطبيعي أن يحتاج الجديد إلى وقت حتى يرسخ نفسه وينحت مسارات استساغته وقبوله ثم يصير مع الوقت بدوره قديمًا، ويأتي جديد آخر يزيحه وهكذا في حركة دائرية لا تنتهي.

ومن العناصر المهمة والأفكار المركزية في دراسة عملية التلقي وتحديد مواقف الأنماط والأنواع الأدبية الجديدة، بحسب شوشة، ما يُسمَّى بعنصر الخبرة المشتركة والخلفية المعرفية المشتركة، وهو أمر غير مدروس بشكل دقيق وواف مع الأسف في النقد العربي، والبحث في هذه المساحة يكشف عن العوامل التي تعوق شيوع قصيدة النثر العربية وتُحجِّم من طاقات استقبالها وتضعف خطابها أحيانًا، بل إننا في بعض الأحيان نجد أن هناك تشوشًا لدى شعراء قصيدة النثر أنفسهم، في تصورهم وفهمهم لها، بالإضافة إلى تكلس حساسيتهم اللغوية، وهكذا تكون لدينا جملة من التجارب الشعرية المتأرجحة بين الغموض والاستغلاق التام وحالة من الاستسهال ووهم القدرة على شعرنة كل شيء من تفاصيل الحياة اليومية، مما يصل بنا في النهاية إلى هيمنة تيار من التفاهة الشعرية واللغة الجوفاء السطحية، والنمطان من مظاهر الضعف، ويسهمان في إضعاف موقف خطاب قصيدة النثر، ويمثلان إساءة لسمعة النوع الأدبي، ولهذا فقصيدة النثر في ظل نسيج الثقافة العربية الراهن تعيش تحديات كبيرة من خارج مجالها، تخص السياقات التاريخية والثقافية المتصلة بالحالة المعرفية والتعليم والقيود الفكرية والألفة والاعتياد، كما تواجه تحديات داخلية تتعلق بالتصورات الخاطئة والممارسات الشعرية السطحية والتافهة والتمرد الأهوج وغير المحسوب.

القصيدة الخرساء

الناقد المصري الدكتور حسين حمودة قال: إن المعركة حول «قصيدة النثر» ظاهرة كبيرة، لها صلة بظواهر أخرى، قديمة متجددة: ظاهرة حراك الأنواع الأدبية، وظاهرة الخصومة بين القدماء والمحدثين (التي امتدت خلال تسميات متعددة: الأصالة والمعاصرة، التقليد والتجديد، التقليد والحداثة.. إلخ)، وظاهرة التحول من الثقافة السمعية إلى الثقافة البصرية. لكل ظاهرة من هذه الظواهر حضور، من زاوية أو من جانب ما، في نشوء قصيدة النثر، أو في تلقيها، أو في الحكم عليها، سواء بالدفاع أو الهجوم، بالتأييد أو الاستنكار. وفي الحقيقة يمكن تأمل أشكال تلقي قصيدة النثر بطرائق متعددة، بحسب حمودة، وقد يرى بعضنا أن أغلب من يرفضونها هم من الشعراء كبار السن، وهذا حكم غير دقيق.. فعلى الأقل يمكن مواجهة هذا الحكم بحقيقة أعمار الشعراء، أو من تبقى من الشعراء، الذين التفوا حول تجربة مجلة «شعر» في فترة منتصف القرن الماضي، فهؤلاء كما نعرف جميعًا كانوا من المبشرين بقصيدة النثر، وهم ليسوا شبانا الآن!

هناك طبعًا، كما يقول حمودة، أسباب وراء رفض بعض الشعراء لقصيدة النثر، وأسباب أخرى للتحمس لها. الرافضون بلوروا اعتراضاتهم المعروفة، وصاغوها في توصيفات مثل «القصيدة الخرساء»، وبالمقابل، المتحمسون لقصيدة النثر راهنوا على أن هذه القصيدة تستجيب لمتغيرات حاضرة في عالمنا. ومن المؤكد أن هذه المعركة، التي بدأت منذ عقود طويلة، ولم تنته حتى الآن، سوف تتبلور نتائجها في أزمنة قادمة، أزمنة سوف تفرض نوعًا من «الانتخاب الطبيعي» على نصوص قصيدة النثر، بحيث يبقى منها ما يبقى، ويتوارى ما يمكن أن يتوارى، فتفاوت مستويات نصوصها واضح، كما سوف تبلور هذه الأزمنة سمات جمالية بديلة، من قصيدة النثر، تستطيع أن تفرض حضورها على دوائر أكبر من التلقي، بجانب الجماليات التي تستند إلى «الإيقاع» بالمعنى الأشمل الذي يجاوز الأوزان التفعيلية أو غير التفعيلية، والإيحاء والتكثيف، والخيال.