أورثنا جنون الشرق الأوسط مهارة مهمة: عدم الثقة بالسلطة، أو بأي ممثل لها. يصل حد انعدام الثقة إلى التشكيك في أي شخص يُثبت شطارته في اللعبة، إذ نأخذ هذا كدلالة على انعدام النزاهة، أو يضعهم محل شك على الأقل.

نعلم أن هذا غير منصف بحق الكثيرين، وبحق أنفسنا، لكننا نعلم أيضا أن ثمة حدا: كُن تِرسا (يُمكن التسامح مع التروس)، لكن لا تكن بوقًا. فرغم خلل النظام إلا أننا مضطرون للتعاطي معه، ونحن وإن كُنا غير مُهيئين للتفاوض، نفعله مع كل ما يُحيط بالعملية من تشويش وإرباك وإحباط.

والحال ذاتها مع الإعلام الرسمي الممول والمُدار من قِبل السلطة الحاكمة، وحتى غير الرسمي. فنحن نعي أن وسائل الإعلام المستقلة يُضيق عليها إلى أن ينتهي بها الأمر للإغلاق، وما يتبقى منها نعرف أنه مُداهن بحيث لا يعود بعد مصدرا موثوقا. تخرج عن القاعدة بعض مؤسسات الإعلام البديل، التي وجدت مصدرا آخر للتمويل (مؤسسات ثقافية أوروبية)، والتي تُدار في الغالب من خارج المنطقة، بأيدي أبناء المنطقة.

هذه إذا هي الخطوط العريضة للمشهد الإعلامي العربي. في المقابل لدينا المشهد الأوروبي (الألماني تحديدا)، الذي يُفاخر باستقلاليته. ولا تبدأ في التشكيك بذلك إلا في وقت الأزمات. اختبرت منها اثنتين حتى الآن. كانت الأولى مع الجائحة، والثانية هذه الأيام بالتزامن مع الحرب على غزة. ففي الأولى كان ملفتا أن نرى تماهي أصوات تيارات الإعلام الرئيسية. دون تفكّر حقيقي في مواقف المناهضين للسياسات الصحية الطارئة وقتها. رغم ما طرحوه من أسئلة مشروعة. من السهل الاستخفاف بما كان يحصل، وغض الطرف عنه بعد وضعه في سياق سياسة ما بعد الحقيقة، ورده إلى إيمان غير منطقي في نظريات المؤامرة. إلا أن بعض الأطروحات التي ولّدها اليمين تقع في قلب اهتمام اليسار، خصوصا ما يتعلق بحرية المرء في التصرف بجسده، والذي يُعد الإجبار على تلقي اللقاح انتهاكا له، سواءً بالطرق المباشرة أو غير المباشرة، مثل قصر حق ارتياد الأماكن العامة على الملقحين. خصوصا وأن تطوير اللقاح تم في وقت قياسي، دون النظر في الآثار طويلة المدى للقاح.

الأمر ذاته يحصل اليوم. إذ يتم التسفيه بمواقف المناصرين للقضية الفلسطينية وصرف النظر عن مطالبهم المشروعة (وعلى رأسها وقف الدعم العسكري والسياسي للجيش الإسرائيلي)، والادعاء أن باعثها الأساسي كره دفين لليهود.

الانتقائية في التغطية والانحياز الإسرائيلي لا يحتاج إلى عين نبيهة ليُدرك. وكل هذا يُقدم في قالب يبدو موضوعيا، وحياديا. فيما أصبح اليمين واليسار أقرب للعقيدة منه للمنهجية. أي أنه يتم التصديق بمجموعة من المقولات في كسل ذهني، عوضا عن مقاربة كل قضية وإعمال الأدوات عليها لفحص ما إن كانت تستحق المناصرة أو المناهضة.

نفترض أن الحرب على غزة، بما فيها من أهوال غير مسبوقة، ستأتي بمثابة المنبه، ليصحو العالم ويعرف أن الصمت، عدم الانشغال، وترك الأمور لمن بأيديهم القوة، صار ينتمي لزمن آخر. ونعجز عن فهم لماذا لا يحدث هذا. ثمة ثقة عمياء بالسلطة، ثمة ثقة لا تُهز بالإعلام، وثمة ثقة -فوق ذلك- أن ألمانيا تعلمت درسها، وهذا الفخر بأنها تعلمت الدرس، ونهضت لتكون مِثالا للأخلاقية، يكاد يعلو على الذنب. فكما يفخر الأمريكي بأنه أمريكي، يفخر الألماني بعدم فخره بأنه ألماني. ورغم أن الثانية أفضل من الأولى بمراحل، إلا أنها تشترك مع الأولى في استعلائها. فألمانيا هي المثال الأُممي لارتكاب الأخطاء، الاعتذار عنها، والالتزام بعدم ارتكابها مرة أخرى. لكن الدروس لا تُوظف في ملاحظة ارتكابها لأخطاء جديدة.