مـن المسلَّـم بـه أنّ الحوادث الكبـرى في التّـاريـخ، مـن نـوع تلك التي يصـير لـها شـأنٌ في مجـراهُ وفي المصائـر، لا تحْـدُث بالصّــدفـةِ أو بمـحـضِ التِّـلقـاء، بـل الغالـبُ عليـها أن تكـون مسبـوقـةً بحـوادثَ كبـرى نظيـرٍ تأتـي ممـهِّـداتٍ لـها أو مـقـدّمـات أو شيـئًا بهـذه المثابـة.
هـذا، بالذّات، مـا ينطبـق على قيام نظـام الـدّولة الوطـنيّـة الحديثـة في أوروبـا؛ الـدّولـة التي سيصيـر لأدوارهـا كبيـرُ شـأنٍ في صـناعـة فصـولٍ من منعـطـفـات التّـاريـخ الحديث والمعاصـر: في تلك القارّة كما في العالم.
وإذا كـان يجـوز حسـبانُ حـدث قيامـها حـدثـًا تاريخيّـًا كبيـرًا، فلأنّ كيـانَـها اسـتـوعب في داخلـه خلاصـةَ مـا وقـع من تحـوّلاتٍ كبـرى سابـقـة، فبـدَتْ مكـتـسبـاتُ هـذه الأخيـرة وكـأنّـها تصُـبّ جميـعُـها في مجرى سيرورة قيـامِ كـيـانِ الـدّولـة الوطـنيّـة ذاك، فكـانت لـه - بالتّـالي- بمثابـة المـداميـك الأساس التي مـن دونـها لا يقـوم لتلك الـدّولـة صَـرْح. على وفـرة التّـحـوّلات الكبـرى التي كـانت أوروبـا مسـرحـًا لها، منذ مطالـع القـرن السّـادس عشـر، سـنـكـتـفي بالإشارة إلى أربـعـةٍ منها رئيـسَـة مهّـدت لقيـام الـدّولـة الوطـنـيّـة.
دفـعـت أوروبـا ثـمـنًا عالـيـًا، من حـياة المـلايـيـن مـن أبنـاء شـعوبـها ومن مـقـدَّرات بـلدانـها، لقـاءَ تجـربـة حروبـها الـدّيـنـيّـة المـريرة التي عـاشـت ويـلاتـها لِـما يـزيـد عن مـائة عـام. كـانت حـركـة مارتـن لـوثـر للإصلاح الـدّيـنيّ قـد قطعـت شـوطـًا بعيـدًا في كسـب الأنصـار في مجمـوع أوروبـا لـتسـتويَ، في النّـهايـة، مـذهبـًا جديـدًا يزاحِـم الكـنيـسة الكـاثـوليـكـيّـة على أتـباعـها ونـفوذهـا؛ وهـو مـا لـم يكـن من شـأنـه سـوى أن يـدفـع - عند عـتبةٍ من فُـشُـوّ نفـوذه - إلى ذلك الصّـدام الكبيـر الذي مـزّق القـارّة. على أنّـه بعيـدًا من مـآسـي تلك الحـروب، قُـيِّـض لذلك الإصـلاح الـدّيـنيّ - بمعـزلٍ عـن أيّ مـوقـفٍ مـنّـا من مضـمونـه - أن تنـهـض نـتـائجُـه بـبعـض الـدّور في التّـمهـيد لقيـام مجـالٍ سـياسـيٍّ حـديث. لقـد حجّـم نـفـوذ الكنـسيـة على مستويـاتٍ ثـلاثـة: عَـقَـديّ، واقـتـصاديّ، وسيـاسيّ. رفَـع عـن قسـمٍ كبـير من المسـيحيّـيـن - مـمّـن صـاروا پــروتسـتانـتـًا - سـلطانَـها الرّوحيّ ووصايـتَـها الـدّيـنـيّـة وحـرّر عـلاقـتَـهم بالكتاب المـقـدّس مـن كـلّ وساطـةٍ وكَـهْـنَـتَـة؛ وحـجَّـم نـفوذهـا الاقـتصاديّ الذي جـعـل منـها أكـبـرَ مالكٍ للأراضـي والأمـوال في أوروبـا منـذ انـهيـار الإمـبراطـوريّـة الرّومـانـيّـة؛ وأخيـرًا - وهـو الأهـمّ في ما يـعْـنيـنـا - رَفَـع قـبضـتـها عـن السّـياسـة والـدّول، مـمالكَ وإمـاراتٍ، وسمـح للأميـر (= السّـلـطة السّـياسيّـة) بالاستـقـلال بالحيّـز السّـياسـيّ الذي كـان من أحكـار السّـلطـة البـابـويّـة. بهذا المعـنى نُـدرك ما كـان للإصـلاح الـدّيـنيّ من عـظيـمٍ تـأثـيـرٍ ودورٍ فـي إضـعـاف نـفوذ الجسـم الذي كـان حـائـلًا دون قيـامـة السّـياسـة والـدّولـة مـن بيـن الأنـقاض: الجسـم الإكـليـريـكيّ البـابـويّ.
مـثـلما ضُـرِب سلـطانُ الكـنيسـة - الـدّيـنيّ والاقـتـصاديّ والسّيـاسيّ - فـي مـقْـتَـل، فـأُجـبِـرت على انـكـفاءٍ اضـطـراريّ، كـذلك ضُـرِب سلـطانُـها الـثّـقافـيّ. لم تكـن حـركـة الإصـلاح الـدّيـنيّ وراء تهـشيـم ذلك السّـلطان المعـرفـيّ الذي احـتكـرته لنفسها طويلًا، وإنّـمـا العلـماءُ والـفلاسفـة مَـن نهـضوا بأمـر تلك الـثّـورة المعـرفـيّـة التي أضـعـفـت الـنّـفـوذ الـثّـقـافـيّ للكـنيـسـة.
نعـرف، على التّـحقـيق، كـثيرًا من فصـول اضطـهاد رجـال الـدّيـن للعلمـاء والمفـكّـرين، وكيـف كـان الأخيـرون يُـساقـون إلى المشـانـق والمقاصـل. غيـر أنّ إرادة المعـرفة انـتـصرت - بعـد صـبْـرٍ ومصـابَـرة - على إرادة التّـجهـيل فاتّسـعـت دائـرةُ انتـشـار الأفـكـار الحـرّة والاجـتـهـادات والاكـتـشافات العلـميّـة، فما كـاد القـرن السّـابع عشـر أن ينـصرم حتّـى سادت الـرّوح العـقـلانـيّـة والـتّـجريـبيّـة ميـدان المعـارف، فانـتـقـل نطـاقُـها - بالـتّـدريـج - مـن الـتّـأليف الـفلسـفيّ ومجـال الاخـتبـارات العـلميّـة إلى الجـامعـات، ثـمّ منها إلى الـدّوائـر الاجـتماعيّـة الأوسـع لـتـتحـوّل، بعد ذلك، إلى ثـقـافـةٍ عـامّـة. ومـن البيّـن أنّـه تَـأتّـى للسّـياسـة من هـذه الـثَّـورة الـثّـقافـيّـة الكـبرى مَـغْـنَـمٌ عظيـم هـو العـقـل؛ هـذا الذي لا غَـنَـاءَ لسـيـاسـةٍ حـديثـة ودولـةٍ حـديثـة عنـه بما هـو أداةُ بـنائـها؛ وهـذا، بالـذّات، ما ثَـبَـتَـتْ صحّـتُـه مـع قيـام الـدّولـة الوطـنيّـة على الأسـاس عيـنِـه: إنْ كـان على صعيـد نـظريّـتـها التّـأسيـسـيّـة أو على صعيـد واقـعـها المـؤسّـسـيّ الـفـعـليّ.
ولمّـا كان لمـثـل حـدثٍ بحـجـم قيـام نـمـوذجٍ جـديـدٍ للـدّولـة أن يـنـشأ في مـكـانٍ من العالـم، هـو أوروبـا، كـان ذلك ممّـا يسـتـلزم - بالضّـرورة - أن تَـنْـوجـد القـوّةُ الاجـتـماعيّـةُ الحامـلةُ لمـشـروع هـذا الـنّـموذج كـي تـتـعهّـده بالـتّـحقيق والإنجـاز. ولقـد أوجـدتْـها التّـحـوّلاتُ الاجـتـماعـيّـة والاقتصـاديّـة الجـديـدة التي أطـلقـتـها الـثّـورة الـصّـناعـيّـة وتـوسُّـع الـنّـظـام الـرّأسـماليّ. صحيـح أنّ هـذه القـوّة الاجـتـماعـيّـة الجـديـدة والـصّاعـدة (طبقـة البـرجـوازيّـة) أسبـق في الوجـود من الـثّـورة الـصّـناعيّـة - لأنّ الـرّأسمال هـو الذي أنجـبها -؛ وصـحيـحٌ أنّها هي نفسُـها مَـن أنجـز الـثّـورة الـصّـناعيّـة، في الوقـت عيـنِـه الذي كـانت شـارعـةً فيـه في ابتـنـاء أساسـات الـدّولـة الوطـنيّـة، غيـر أنّ حـدث الـثّـورة الـصّـناعيّـة أتى يمـثّـل عـتبـةَ الانـعطـاف الحاسـم في مسارها؛ إذْ حـوّلها إلى طبـقـةٍ مسيـطرة على عمليّـة الإنتـاج، وكانت سيـطرتُـها تلك مَـعْـبَـرًا نحـو حيازتـهـا السّـلطـةَ السّـياسيّـة (مع الـثّـورات الثّـلاث: الإنـجليـزيّـة والأمريـكيّـة والفـرنسيّـة)، وإقـامتـها - من ثـمّـة - الـنّـظامَ السّـياسـيَّ الحـديـث: نظـام الـدّولـة الوطـنيّـة. هـكـذا تـوقّـف نشـوءُ كيـان هـذه الـدّولـة على ميلاد حـدثيـن كـبيريْـن: نشـأة الـنّـظام الـرّأسمـاليّ، وانـطلاق الـثّـورة الـصّـناعيّـة؛ اللّـذيـن من رحمـهـما خـرجتِ البرجـوازيّـة إلى الوجـود وشـكّـلت الـقـوّةَ الاجـتـماعـيّـة الحـامـلة لمشـروع بنـاء الـدّولـة الوطـنيّـة والقائـمة على أمـر إدارة عـمـليّـة بنـائـها في الآن عيـنِه.
ولمّـا كانت هـذه الـدّولـة الوطـنيّـة الحديثة تـمتـنـع وجـودًا وقيـامـًا من دون هـنـدسـةٍ سياسيّـةٍ سابـقـة (مـبْنـيّـة في الـذّهـن) قبل أن تـتـجـسّـد واقـعـًا مـاديّـًا، كان لا نُـدحـة عـن وجـود نظـريّـةٍ سيـاسيّـة على أسـاس مـعـطياتـها قـامت تلك الـدّولـة وتَـحَـقَّـق لها شـرطُ الأمْـكَـنَـة Possibilisation. وهـذا عيـنُ ما حصـل في الفـكـر الأوروبـيّ الحديـث حيـن نشـأت - داخـل الفـلسفـة السّـياسيّـة الحديثـة في القـرنيـن السّابـع عشـر والثّـامـن عشـر- نظـريّـة في الـتّسـويـغ لـقيـام الـدّولـة الوطـنيّـة الحديثـة، ساهـم في بـنائـها وتطويرها مَـن عُـرِفـوا باسـم فـلاسـفـة العـقـد الاجـتـماعـيّ (تـوماس هـوبس، جـون لـوك، بـاروخ سپـيـنـوزا، جـان جـاك روسـو، إيـمانـويـل كَـنْـت...). ومقـتـضى هـذه الـنّـظريّـة أنّ الـدّولـة كيـان يصـطـنعـه النّـاس لأنـفسـهم من طـريق الاتّـفاق والـتّـوافُـق بيـنـهم على عـقـدٍ اجـتـماعـيّ تـنـتـقـل بـموجـبـه الحـقـوقُ من حيّـزها الطّـبيـعيّ الأصـل (الحـقّ الطّـبيـعيّ) إلى جسـمٍ سيـاسـيّ (الـدّولـة) يـتـعـهّـدهـا بالحـمـايـة والـرّعايـة ويـحـوِّلها إلى حـقٍّ مـدنـيّ.
ولعـلّ أهـمّ مبادئ الـدّولـة الحـديثـة وقـواعـد النّـظام السّـياسيّ الحـديـث (الحـريّـات، الـقـانـون، الـدّستـور، الجمـهـوريّـة، المواطَنـة، الحقـوق المـدنيّـة والسّياسيّـة، الـنّـظـام الـدّيـمـقراطيّ...) تجـد مـقـدّماتـها الـفـكريّـة في فـلسـفة العـقـد الاجـتـماعـيّ هـذه. هـكـذا أوجَـدَتْ هـذه الـفلسـفة أسـاسـًا نظـريّـًا لمشـروع دولـةٍ جـديـدة خِـيـض في تحـقيـقـه اسـتـلهامـًا منها وائْـتِـسَاءً بمبادئ هـنـدستها.
هـذه، بالجملـة، كانت شروطـًا تـاريخيّـة حـافّـة هيّـأت لميـلاد نظـام هـذه الـدّولـة الوطـنيّـة الأسبابَ؛ الـدّولـة التي سيـفـتح ميـلادُهـا بـابـًا عريضـًا أمام ارتيـاد المـدنـيّـة الأوروبـيّـة آفـاقـًا من التّـطـوّر لا سابـق لها في أيّ مـرحلـةٍ من مراحـل الحضـارات الإنسانـيّـة. بـل لقـد يصـحّ، تـمامًا، أن يـقال - مـن غيرِ تـردّدٍ وبقـدْرٍ من الاطـمئـنان - إنّ قيـام هـذه الـدّولـة الوطـنيّـة أتـى يمـثّـل ولادةً ثـانيـةً لها: بعـد ولادتـها الأولـى، كـدولـة، في الاجتـماع الإنسـانـيّ؛ لأنّـه معـها، ومعـها فـقـط، نشـأتِ السّيـاسـةُ بمـعنـاها المـدنيّ العصـريّ.
هـذا، بالذّات، مـا ينطبـق على قيام نظـام الـدّولة الوطـنيّـة الحديثـة في أوروبـا؛ الـدّولـة التي سيصيـر لأدوارهـا كبيـرُ شـأنٍ في صـناعـة فصـولٍ من منعـطـفـات التّـاريـخ الحديث والمعاصـر: في تلك القارّة كما في العالم.
وإذا كـان يجـوز حسـبانُ حـدث قيامـها حـدثـًا تاريخيّـًا كبيـرًا، فلأنّ كيـانَـها اسـتـوعب في داخلـه خلاصـةَ مـا وقـع من تحـوّلاتٍ كبـرى سابـقـة، فبـدَتْ مكـتـسبـاتُ هـذه الأخيـرة وكـأنّـها تصُـبّ جميـعُـها في مجرى سيرورة قيـامِ كـيـانِ الـدّولـة الوطـنيّـة ذاك، فكـانت لـه - بالتّـالي- بمثابـة المـداميـك الأساس التي مـن دونـها لا يقـوم لتلك الـدّولـة صَـرْح. على وفـرة التّـحـوّلات الكبـرى التي كـانت أوروبـا مسـرحـًا لها، منذ مطالـع القـرن السّـادس عشـر، سـنـكـتـفي بالإشارة إلى أربـعـةٍ منها رئيـسَـة مهّـدت لقيـام الـدّولـة الوطـنـيّـة.
دفـعـت أوروبـا ثـمـنًا عالـيـًا، من حـياة المـلايـيـن مـن أبنـاء شـعوبـها ومن مـقـدَّرات بـلدانـها، لقـاءَ تجـربـة حروبـها الـدّيـنـيّـة المـريرة التي عـاشـت ويـلاتـها لِـما يـزيـد عن مـائة عـام. كـانت حـركـة مارتـن لـوثـر للإصلاح الـدّيـنيّ قـد قطعـت شـوطـًا بعيـدًا في كسـب الأنصـار في مجمـوع أوروبـا لـتسـتويَ، في النّـهايـة، مـذهبـًا جديـدًا يزاحِـم الكـنيـسة الكـاثـوليـكـيّـة على أتـباعـها ونـفوذهـا؛ وهـو مـا لـم يكـن من شـأنـه سـوى أن يـدفـع - عند عـتبةٍ من فُـشُـوّ نفـوذه - إلى ذلك الصّـدام الكبيـر الذي مـزّق القـارّة. على أنّـه بعيـدًا من مـآسـي تلك الحـروب، قُـيِّـض لذلك الإصـلاح الـدّيـنيّ - بمعـزلٍ عـن أيّ مـوقـفٍ مـنّـا من مضـمونـه - أن تنـهـض نـتـائجُـه بـبعـض الـدّور في التّـمهـيد لقيـام مجـالٍ سـياسـيٍّ حـديث. لقـد حجّـم نـفـوذ الكنـسيـة على مستويـاتٍ ثـلاثـة: عَـقَـديّ، واقـتـصاديّ، وسيـاسيّ. رفَـع عـن قسـمٍ كبـير من المسـيحيّـيـن - مـمّـن صـاروا پــروتسـتانـتـًا - سـلطانَـها الرّوحيّ ووصايـتَـها الـدّيـنـيّـة وحـرّر عـلاقـتَـهم بالكتاب المـقـدّس مـن كـلّ وساطـةٍ وكَـهْـنَـتَـة؛ وحـجَّـم نـفوذهـا الاقـتصاديّ الذي جـعـل منـها أكـبـرَ مالكٍ للأراضـي والأمـوال في أوروبـا منـذ انـهيـار الإمـبراطـوريّـة الرّومـانـيّـة؛ وأخيـرًا - وهـو الأهـمّ في ما يـعْـنيـنـا - رَفَـع قـبضـتـها عـن السّـياسـة والـدّول، مـمالكَ وإمـاراتٍ، وسمـح للأميـر (= السّـلـطة السّـياسيّـة) بالاستـقـلال بالحيّـز السّـياسـيّ الذي كـان من أحكـار السّـلطـة البـابـويّـة. بهذا المعـنى نُـدرك ما كـان للإصـلاح الـدّيـنيّ من عـظيـمٍ تـأثـيـرٍ ودورٍ فـي إضـعـاف نـفوذ الجسـم الذي كـان حـائـلًا دون قيـامـة السّـياسـة والـدّولـة مـن بيـن الأنـقاض: الجسـم الإكـليـريـكيّ البـابـويّ.
مـثـلما ضُـرِب سلـطانُ الكـنيسـة - الـدّيـنيّ والاقـتـصاديّ والسّيـاسيّ - فـي مـقْـتَـل، فـأُجـبِـرت على انـكـفاءٍ اضـطـراريّ، كـذلك ضُـرِب سلـطانُـها الـثّـقافـيّ. لم تكـن حـركـة الإصـلاح الـدّيـنيّ وراء تهـشيـم ذلك السّـلطان المعـرفـيّ الذي احـتكـرته لنفسها طويلًا، وإنّـمـا العلـماءُ والـفلاسفـة مَـن نهـضوا بأمـر تلك الـثّـورة المعـرفـيّـة التي أضـعـفـت الـنّـفـوذ الـثّـقـافـيّ للكـنيـسـة.
نعـرف، على التّـحقـيق، كـثيرًا من فصـول اضطـهاد رجـال الـدّيـن للعلمـاء والمفـكّـرين، وكيـف كـان الأخيـرون يُـساقـون إلى المشـانـق والمقاصـل. غيـر أنّ إرادة المعـرفة انـتـصرت - بعـد صـبْـرٍ ومصـابَـرة - على إرادة التّـجهـيل فاتّسـعـت دائـرةُ انتـشـار الأفـكـار الحـرّة والاجـتـهـادات والاكـتـشافات العلـميّـة، فما كـاد القـرن السّـابع عشـر أن ينـصرم حتّـى سادت الـرّوح العـقـلانـيّـة والـتّـجريـبيّـة ميـدان المعـارف، فانـتـقـل نطـاقُـها - بالـتّـدريـج - مـن الـتّـأليف الـفلسـفيّ ومجـال الاخـتبـارات العـلميّـة إلى الجـامعـات، ثـمّ منها إلى الـدّوائـر الاجـتماعيّـة الأوسـع لـتـتحـوّل، بعد ذلك، إلى ثـقـافـةٍ عـامّـة. ومـن البيّـن أنّـه تَـأتّـى للسّـياسـة من هـذه الـثَّـورة الـثّـقافـيّـة الكـبرى مَـغْـنَـمٌ عظيـم هـو العـقـل؛ هـذا الذي لا غَـنَـاءَ لسـيـاسـةٍ حـديثـة ودولـةٍ حـديثـة عنـه بما هـو أداةُ بـنائـها؛ وهـذا، بالـذّات، ما ثَـبَـتَـتْ صحّـتُـه مـع قيـام الـدّولـة الوطـنيّـة على الأسـاس عيـنِـه: إنْ كـان على صعيـد نـظريّـتـها التّـأسيـسـيّـة أو على صعيـد واقـعـها المـؤسّـسـيّ الـفـعـليّ.
ولمّـا كان لمـثـل حـدثٍ بحـجـم قيـام نـمـوذجٍ جـديـدٍ للـدّولـة أن يـنـشأ في مـكـانٍ من العالـم، هـو أوروبـا، كـان ذلك ممّـا يسـتـلزم - بالضّـرورة - أن تَـنْـوجـد القـوّةُ الاجـتـماعيّـةُ الحامـلةُ لمـشـروع هـذا الـنّـموذج كـي تـتـعهّـده بالـتّـحقيق والإنجـاز. ولقـد أوجـدتْـها التّـحـوّلاتُ الاجـتـماعـيّـة والاقتصـاديّـة الجـديـدة التي أطـلقـتـها الـثّـورة الـصّـناعـيّـة وتـوسُّـع الـنّـظـام الـرّأسـماليّ. صحيـح أنّ هـذه القـوّة الاجـتـماعـيّـة الجـديـدة والـصّاعـدة (طبقـة البـرجـوازيّـة) أسبـق في الوجـود من الـثّـورة الـصّـناعيّـة - لأنّ الـرّأسمال هـو الذي أنجـبها -؛ وصـحيـحٌ أنّها هي نفسُـها مَـن أنجـز الـثّـورة الـصّـناعيّـة، في الوقـت عيـنِـه الذي كـانت شـارعـةً فيـه في ابتـنـاء أساسـات الـدّولـة الوطـنيّـة، غيـر أنّ حـدث الـثّـورة الـصّـناعيّـة أتى يمـثّـل عـتبـةَ الانـعطـاف الحاسـم في مسارها؛ إذْ حـوّلها إلى طبـقـةٍ مسيـطرة على عمليّـة الإنتـاج، وكانت سيـطرتُـها تلك مَـعْـبَـرًا نحـو حيازتـهـا السّـلطـةَ السّـياسيّـة (مع الـثّـورات الثّـلاث: الإنـجليـزيّـة والأمريـكيّـة والفـرنسيّـة)، وإقـامتـها - من ثـمّـة - الـنّـظامَ السّـياسـيَّ الحـديـث: نظـام الـدّولـة الوطـنيّـة. هـكـذا تـوقّـف نشـوءُ كيـان هـذه الـدّولـة على ميلاد حـدثيـن كـبيريْـن: نشـأة الـنّـظام الـرّأسمـاليّ، وانـطلاق الـثّـورة الـصّـناعيّـة؛ اللّـذيـن من رحمـهـما خـرجتِ البرجـوازيّـة إلى الوجـود وشـكّـلت الـقـوّةَ الاجـتـماعـيّـة الحـامـلة لمشـروع بنـاء الـدّولـة الوطـنيّـة والقائـمة على أمـر إدارة عـمـليّـة بنـائـها في الآن عيـنِه.
ولمّـا كانت هـذه الـدّولـة الوطـنيّـة الحديثة تـمتـنـع وجـودًا وقيـامـًا من دون هـنـدسـةٍ سياسيّـةٍ سابـقـة (مـبْنـيّـة في الـذّهـن) قبل أن تـتـجـسّـد واقـعـًا مـاديّـًا، كان لا نُـدحـة عـن وجـود نظـريّـةٍ سيـاسيّـة على أسـاس مـعـطياتـها قـامت تلك الـدّولـة وتَـحَـقَّـق لها شـرطُ الأمْـكَـنَـة Possibilisation. وهـذا عيـنُ ما حصـل في الفـكـر الأوروبـيّ الحديـث حيـن نشـأت - داخـل الفـلسفـة السّـياسيّـة الحديثـة في القـرنيـن السّابـع عشـر والثّـامـن عشـر- نظـريّـة في الـتّسـويـغ لـقيـام الـدّولـة الوطـنيّـة الحديثـة، ساهـم في بـنائـها وتطويرها مَـن عُـرِفـوا باسـم فـلاسـفـة العـقـد الاجـتـماعـيّ (تـوماس هـوبس، جـون لـوك، بـاروخ سپـيـنـوزا، جـان جـاك روسـو، إيـمانـويـل كَـنْـت...). ومقـتـضى هـذه الـنّـظريّـة أنّ الـدّولـة كيـان يصـطـنعـه النّـاس لأنـفسـهم من طـريق الاتّـفاق والـتّـوافُـق بيـنـهم على عـقـدٍ اجـتـماعـيّ تـنـتـقـل بـموجـبـه الحـقـوقُ من حيّـزها الطّـبيـعيّ الأصـل (الحـقّ الطّـبيـعيّ) إلى جسـمٍ سيـاسـيّ (الـدّولـة) يـتـعـهّـدهـا بالحـمـايـة والـرّعايـة ويـحـوِّلها إلى حـقٍّ مـدنـيّ.
ولعـلّ أهـمّ مبادئ الـدّولـة الحـديثـة وقـواعـد النّـظام السّـياسيّ الحـديـث (الحـريّـات، الـقـانـون، الـدّستـور، الجمـهـوريّـة، المواطَنـة، الحقـوق المـدنيّـة والسّياسيّـة، الـنّـظـام الـدّيـمـقراطيّ...) تجـد مـقـدّماتـها الـفـكريّـة في فـلسـفة العـقـد الاجـتـماعـيّ هـذه. هـكـذا أوجَـدَتْ هـذه الـفلسـفة أسـاسـًا نظـريّـًا لمشـروع دولـةٍ جـديـدة خِـيـض في تحـقيـقـه اسـتـلهامـًا منها وائْـتِـسَاءً بمبادئ هـنـدستها.
هـذه، بالجملـة، كانت شروطـًا تـاريخيّـة حـافّـة هيّـأت لميـلاد نظـام هـذه الـدّولـة الوطـنيّـة الأسبابَ؛ الـدّولـة التي سيـفـتح ميـلادُهـا بـابـًا عريضـًا أمام ارتيـاد المـدنـيّـة الأوروبـيّـة آفـاقـًا من التّـطـوّر لا سابـق لها في أيّ مـرحلـةٍ من مراحـل الحضـارات الإنسانـيّـة. بـل لقـد يصـحّ، تـمامًا، أن يـقال - مـن غيرِ تـردّدٍ وبقـدْرٍ من الاطـمئـنان - إنّ قيـام هـذه الـدّولـة الوطـنيّـة أتـى يمـثّـل ولادةً ثـانيـةً لها: بعـد ولادتـها الأولـى، كـدولـة، في الاجتـماع الإنسـانـيّ؛ لأنّـه معـها، ومعـها فـقـط، نشـأتِ السّيـاسـةُ بمـعنـاها المـدنيّ العصـريّ.