قد يتفاجأ البعض من قصور معرفتنا بما يدور في الحياة، ويظن أنّ معرفته بتلك «الترندات» و«الشخصيات المؤثرة»، التي تنمو على عجل وتختفي بالسرعة ذاتها، هي ما تجعله مالكًا لشرعية المعرفة اليوم! إذ يمكن لأحدهم أن يهدر ساعات طويلة من حياته قارئًا أو مُراقبًا أو مُتلبسًا لآراء ليست له، لكنها آراءٌ تجعله في صدارة المجالس وأيقونة الأحاديث!

ولا أدري إن كان من يمارس حياته خارج «الترندات» مُفتقدًا لشيء جوهري أم أنّه في تناءٍ يُقدم له حماية صلبة لذاته التي تصرخ بشدة من فقدان المعنى!

تبدو لي «الترندات» كأسهم البورصة ترتفع وتنخفض، ترفعُ معها اضطرابًا مهولًا ثمّ تخفيه فلا يعود له وجود في اليوم التالي، يُنسى كما تُنسى زوابع الغبار العابرة في انتظار «ترند» جديد.

لستُ على يقين إن كان من الجيد أن نحمي أنفسنا من هذا السُعار أم أنّ حمايتنا لأنفسنا ستفوّتُ علينا شيئا ما يجعلنا متصلين بحياة الناس وما يشغلهم، تلك المعرفة الواهمة التي تجعلنا مُجردين من حساسيتنا الشخصية ومن الفهم الذي يذهب أعمق من سطح الأحاديث.

قرأتُ يومًا بأنّ: «الجهل ليس نعمة، ولكن لا يجب أن يُشكّل بؤسا»، لا سيما ونحنُ نتحدث عن تذبذُبِ «الترندات»، والأبطال الذين يتم اختراعهم الآن، والذين يقدّمون أنفسهم كمن يُعيدُ صياغة لغة الكون ومفاتيحه!

ديفيد دانينغ يقول: «لسنا بارعين في إدراك ما نجهله»، ولكن ما مقدار ما يفوتنا من فائدة! هكذا أحاول أن أجد أداة لقياس الأشياء بشكل أكثر برجماتية.

يكمنُ الفزع المرعب في إماطة اللثام عن الحياة بكل تعقيدها الشرس، أو في إفراغها من معانيها، لمجرد توقُّع ساذج بأنّ المشتركات التي تجمعنا كبشر ستجعلنا أكثر قابلية لأن نخضع لمشرط تحليلي واحد! أو لنموذج حياتي واحد.

يميلُ بعض الناس للعيش في وهم الفهم، بل يبالغون في تقدير معرفتهم، «فهم يعتقدون بأنّهم يفهمون النظم السببية، وهذا ناتج عن الذهن الحدسي لديهم، حيث يفكّرون في الأشياء دون عناء، لكن وهمهم يتحطّم لحظة الاستقصاء الحقيقية»، هذا ما ذكره ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ في كتابهما «وهم المعرفة». يظن البعض أنّ بإمكانهم من خلال «الترندات» أن يُقدموا أفكارا ستغير مصائر الناس وحيواتهم! وفي الحقيقة هم ينجحون -للأسف- في خلق ترددات شاسعة المدى، بل ويتحولون إلى أيقونات في الوعي العام! ولذا من الجيد حقا أن تُدرس هذه الظواهر في المجتمع، فلماذا يُحقق المحتوى بالغ الخفة كل هذا التأثير! ألأنّه سهل المضغ، أم لأنّه يُغذّي فضول الناس ويُخدّر رغباتهم المُلتهبة؟

إذا كان صالون الحلاقة يضعُ افتراضا بتعدد خيارات الناس في شكل قصّات الشعر المفضلة لديهم، وإذا كان مُصمم الأزياء يضع في اعتباره تباين الأذواق بصورة مذهلة، فلماذا يُصر البعض على أنّ حلولا مُحددة يمكنها أن تُنقذ جميع الناس على حد سواء؟ تنقذ الناس من قلقها ومن هواجسها المرعبة، دون دراية كافية بتعقيدات النفس البشرية غائرة العُمق؟!

هكذا نفقدُ ميكانيزماتنا الشخصية عندما نكتشف حدودنا وحدود معرفتنا بالعالم المحفوف بالمخاطر من حولنا، فنأمل أن يضع الله في طريقنا «المُنقذين» الذين يُغيّرون خطط الكون، وكأنّ عقولنا لم تُصمم لتعيش تجاربها الأكثر فرادة، بل لتنهل من معين الآخرين الذين يصرفون «روشتة» واحدة لكل الأوجاع والآلام التي تعبر البشرية!

لم يعد كسب المال مرتبط بالجهد وحسب، يمكننا أن نكسبه أيضا من قدرتنا على استمالة حدس الناس وتوقعاتهم، وعبر قول ما يرغبون في الاستماع إليه، تلك الحلول التي تجعل طريق الحياة الغامض والمبهم- على حين غرة- مُمهدا ومملوءًا بالورد!

ولعلنا لا ندركُ نوازع الديناميكيات الاجتماعية؛ لأنّها لم تُستقرأ على نحو جيد تحت مجهر الدرس، لكننا -على الأقل- إلى جوار الانبهار بالترندات والشخصيات المؤثرة، علينا أن نحظى بجرعة شك فردية، أن نمتلك سؤالنا الشخصي وقدرتنا على الانفكاك أو الالتحام بالقدر الذي لا يُجردنا من معانينا.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى